الكتاب: الأغاني المؤلف: علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم المرواني الأموي القرشي، أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356هـ) عدد الأجزاء:25 مجلد الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الأولى/ 1415 ه [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] أعده للشاملة: //محمود الجيزي - عفا الله عنه// |
الجزء الأول
[مقدمة التحقيق]
قالوا في كتاب الأغاني ومؤلفه
1 - ومن الرواة المتسعين الذين شاهدناهم أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، فإنه كان يحفظ من الشعر والأغاني، والأخبار، والآثار، والحديث المسند، والنسب، ما لم أر قط من يحفظ مثله. وكان شديد الاختصاص بهذه الأشياء ويحفظ دون ما يحفظ منها علوما أخر.
الخطيب البغدادي «تاريخ بغداد» (11/ 399) 2 - كتاب «الأغاني» وقع الاتفاق على أنه لم يعمل في بابه مثله، يقال إنه جمعه في خمسين سنة وحمله إلى سيف الدولة ابن حمدان فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه. وحكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملا من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه استغناء به عنها.
ابن خلكان «وفيات الأعيان» (3/ 307 - 308) 3 - قال أبو علي التنوخيّ: كان أبو الفرج يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والمسندات والأنساب ما لم أر قطّ من يحفظ مثله، ويحفظ سوى ذلك من علوم أخر، منها اللغة والنحو والمغازي والسّير.
الحافظ شمس الدين الذهبي «تاريخ الإسلام» وفيات سنة (356 ه) الصفحة (144) 4 - وقد ألّف القاضي أبو الفرج الأصفهاني «كتابه في الأغاني» جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتمّ استيعاب وأوفاه.
ولعمري إنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فنّ من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنّى له بها.
ابن خلدون «المقدمة» الصفحة (554) 5 - لعمري إن هذا الكتاب لجليل القدر، شائع الذّكر جمّ الفوائد، عظيم القلم، جامع بين الجدّ والبحت والهزل والنّحت.
ياقوت الحموي «معجم الأدباء» (13/ 98)
ملاحظة هامة
نلفت انتباه الباحث الكريم أنّ الإحالات في الحاشية من هذه الطبعة هي الموافقة لأرقام أجزاء وصفحات طبعة دار الكتاب المصرية التي كانت أساسا لهذه الطبعة والموجودة من جهة التحرير بين معكوفتين هكذا []. ويراجع فهرس الأعلام. فلينتبه لذلك واللّه الموفق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
كلمة دار إحياء التراث العربي
مقدمة [1]
إن الحمد للّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، من يهد اللّه فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران 3: 102].
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء 4: 1].
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب 33: 70 - 71].
أما بعد،
فيسر مؤسسة دار إحياء التراث العربي أن تقدم لأهل العلم والأدب في العالم الإسلامي والعربي كتاب «الأغاني» [2] للعلامّة الأخباري، أبي الفرج، علي بن الحسين بن محمد القرشي، الأموي، الأصبهاني الكاتب (ت 356)، الذي يعدّ من أشهر كتب الأدب والتراجم وأجدرها بالثقة وقد اهتمّ به القدماء ولم يغفله المحدثون، ففيه ثروة أدبية واجتماعية وتاريخية وفنيّة لا تقدر بثمن.
وقد وضع المؤلف كتابه بالأصل لذكر الغناء والألحان، لكنه اتخذ ذلك ذريعة ليتوسع في ترجمة الشعراء والأدباء ويأتي بالعجب العجاب حتى عدّ كتاب الأغاني بحقّ من أمهات كتب الأدب العربي، فقد ترجم لأكثر شعراء العرب: من جاهليين ومخضرمين، ومحدثين، كما ترجم لكثير من المغنين في الدولتين الأموية والعباسية، وجمع فيه الأغاني العربية قديمها وحديثها.
فهو أوسع كتب التراجم إطلاقا، ترجم لعدد من الأدباء حتى نهاية القرن الثالث الهجري، وبلغ عدد تراجمه حوالي (500) شاعر وشاعرة عاشوا في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي وأوائل العباسي، وجلّ هذه التراجم شديدة التفصيل، غزيرة المادة، مما يجعل هذا الكتاب سجلا للحضارة العربية والإسلامية في كثير من مظاهرها.
__________
[1] انظر «المصادر العربية والمعربة» للدكتور محمد ماهر حمادة الصفحة (261، 262)، و «مصادر الدراسات الإسلامية» للدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان الصفحة (550).
[2] طبع بالقاهرة مطبعة بولاق الأميرية عام 1868 م في طبعته الأولى، ثم طبع ثانيا في القاهرة، مطبعة التقدم عام 1905 م بتحقيق أحمد الشنقيطي وكلتا الطبعتين ينقصهما التحقيق العلمي، ثم طبع ثالثا في مصر بإشراف المؤسسة المصرية العامة للكتاب (1921 - 1948 م) في (24) جزءا وهي الطبعة التي اعتمدناها كأصل لنسختنا هذه مع الاستئناس بالطبعتين السابقتين.
بدأ بخبر أبي قطيفة ونسبه، وذكر معبد وبعض أخباره، ثم عمر بن أبي ربيعة ونسبه وهكذا ... حتى انتهى بأخبار المتلمس في آخر الكتاب.
وقد جعل المؤلف مبنا كتابه على مائة الصوت المختارة للرشيد، وبدأ فيه بذكر الأصوات الثلاثة المختارة من جميع الغناء، ونسب كل ما ذكره منها إلى قائل شعره وصانع لحنه وطريقته على شرح لذلك وتفسير للمشكل الغريب وبيان عروض الشعر وضربه.
وأتى بكل فصل من ذلك بنتف تشاكله، ولمع تليق به، وفقر إذا تأمّلها قارؤها لم يزل متنقّلا من فائدة إلى مثلها، ومتصرّفا فيها بين جدّ وهزل، وآثار وأخبار، وسير وأشعار متصلة بأيام العرب المشهورة وأخبارها المأثورة، وقصص الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام، تجمل بالمتأدبين معرفتها، وتحتاج الأحداث إلى دراستها، ولا يرتفع من فوقهم من الكهول عن الاقتباس منها، إذ كانت منتخلة من غرر الأخبار ومنتقاة من عيونها، ومأخوذة من مظانها، ومنقولة من أهل الخبرة بها.
فلا عجب أن يكون هذا الكتاب أكبر مرجع عربي في ذكر الغناء وتاريخه وقواعده والآلات الموسيقية التي كانت على عصره، أو سابقة عليه، ليس هذا فحسب بل إن الناحية الأدبية فيه أوسع وأشمل، فإنه ما يكاد يذكر صوتا أي لحنا حتى ينطلق منه إلى المغني وأخباره وأشعاره وإن كان متصلا بخليفة أو ملك تحدّث عن هذا الملك أو ذاك الخليفة، وعلى صفحاته تنتشر أخبار العرب وأيامهم، وأنسابهم، ومفاخرهم، ووصف لحياتهم الاجتماعية، ويركز على مراكز الغناء وخاصة المدينة ومكة وبغداد. هذا فضلا عن مئات التراجم وعديد السير، بالإضافة إلى المجموعة الهائلة من الصور الأدبية من شعر، وكتابة، وخطابة، وقصص ونوادر.
هذا وقد امتدح الكتاب غير واحد من أوعية العلم والأدب على ما ذكرناه في الصفحة (5) وصار مدار اهتمام وعناية العلماء فاختصره جماعة:
منهم ابن المغربي (ت 418 ه)، والأمير عز الملك المسبّحي الكاتب (ت 420 ه)، والقاضي ابن واصل الحموي (ت 697 ه)، وابن منظور صاحب لسان العرب (ت 711 ه) وغيرهم [1] مما هو مذكور في ترجمة أبي الفرج في الصفحات (14 - 24) من هذا الجزء.
لكن رغم مدح الكتاب فإن الإنصاف يدعونا إلى ذكر العلماء الذين قدحوا فيه وفي صحة روايته:
فقد ذكره الخطيب البغدادي (ت 463 ه) في «تاريخ بغداد» [2] فقال:
«كان أبو الفرج الأصبهاني من أكذب الناس، كان يدخل سوق الورّاقين وهي عامرة والدكاكين مملؤة بالكتب، فيشتري شيئا كثيرا من الصحف ويحملها إلى بيته ثم تكون رواياته كلها منها ... ».
وذكره الإمام ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (ت 597 ه) في تاريخه المسمى «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» [3] فقال: «إنه كان متشيعا، ومثله لا يوثق بروايته، فإنه يصرّح في كتبه بما يوجب عليه الفسق،
__________
[1] راجع مختصرات كتاب «الأغاني» في الصفحات (26 - 27) من هذا الجزء.
[2] الخطيب البغدادي «تاريخ بغداد» (11/ 398 - 400) ترجمة (6278).
[3] ابن الجوزي «المنتظم» (14/ 185) وفيات سنة (356 ه) ترجمة (2658).
ويهوى شرب الخمر وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمّل كتاب «الأغاني» رأى كل قبيح ومنكر».
وقال الحافظ شمس الدين الذهبي (ت 748 ه) في كتابه «تاريخ الإسلام» [1]: «قلت: رأيت شيخنا ابن تيمية يضعّفه ويتهمه في نقله ويستهول ما يأتي به، وما علمت فيه جرحا إلّا قول ابن أبي الفوارس: خلّط قبل أن يموت».
كما بيّن الحافظ الذهبي نسبه فقال في كتابه «سير أعلام النبلاء» [2]: «يذكر أنه من ذرّية الخليفة هشام بن عبد الملك، قاله محمد بن إسحاق النديم، بل الصواب أنه من ولد مروان الحمار».
ثم تابع الذهبي قائلا: والعجب أنه أمويّ شيعيّ، وكان وسخا زريّا، وكانوا يتقون هجاءه».
وأورده الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه) في كتابه «لسان الميزان» [3] فقال:
«صاحب كتاب الأغاني: شيعيّ وهذا نادر في أمويّ ... ».
وبين مادح وقادح، فإن الكتاب - كما لا يخفى على الناظر - يمثل على أي حال صورة حية للأدب واللغة والشعر، والكتابة، والخطابة والقصص والنوادر كما أنه بحق ديوان تراجم في عصره لا يستغني عنه الأديب.
ونظرا لأهميته، فقد رأت مؤسسة دار إحياء التراث العربي أن تعيد طبع الكتاب بحلّة قشيبة محقّقة على طبعاته السابقة، ملوّنة بعد ما رأت تآكل الحرف الحجري في نصوصه، والفهارس الجزئية التي يصعب على الباحث الحصول على طلبه منها بسهولة ويسر خدمة للعلم وأهله إذ ستصدر لهذه الطبعة بإذن اللّه فهارس شاملة جامعة تكون معينا لمقتنيه.
وإتماما للفائدة، يجد الباحث في تصدير هذه الطبعة من مقدمة هذا الجزء فصلا في صناعة الغناء عن العلامة ابن خلدون في الصفحة (10) من هذا الجزء إضافة لترجمة المؤلف (في الصفحات 14 - 24)، و «مختصرات كتاب الأغاني» ونقده في الصفحة (26)، وكتب الأغاني المؤلفة قبل هذا الكتاب الصفحة (27)، والكلمات الاصطلاحية الوارة في الكتاب الصفحة (28) مع وصف للنسخ الخطية المعتمدة في التحقيق الصفحة (30) وهي تسع، وطريقة تصحيح هذا الكتاب الصفحة (36)، إضافة إلى مقدمة أبي الفرج لكتابه ونهجه فيه وباعثه لتأليف كتابه ويجدها الباحث إنشاء اللّه في الصفحات (38 - 41).
كما نلفت انتباه القارىء الكريم أن هذه الطبعة حوت أرقام أجزاء وصفحات الطبعتين البولاقية وطبعة المؤسسة المصرية العامة للكتاب حتى تتم الفائدة، فالرقم الموجود بين معكوفتين هو رقم جزء وصفحة طبعة المؤسسة المصرية العامة للكتاب هكذا [] والرقم الخالي من المعكوفتين هو رقم صفحة الطبعة البولاقية.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار الميامين.
مكتب التحقيق دار إحياء التراث العربي بيروت 20 رجب 1414 ه الموافق 1 كانون الثاني 1994 م
__________
[1] الحافظ شمس الدين الذهبي «تاريخ الإسلام» وفيات سنة (356 ه) الصفحة (144).
[2] الحافظ شمس الدين الذهبي «سير أعلام النبلاء» (16/ 201) ترجمة (140).
[3] الحافظ ابن حجر العسقلاني «لسان الميزان» (4/ 231 - 232) ترجمة (584).
فصل في صناعة الغناء عن العلامة ابن خلدون في «مقدمته»
وقد رأينا أن ننقل عن العلامة ابن خلدون فصلا قيما كتبه في مقدّمته عن صناعة الغناء وتاريخها لما له من الصلة بموضوع الكتاب. قال:
«هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة، يوقع على كل صوت منها توقيعا [1] عند قطعه فتكون نغمة، ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة، فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات. وذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب فيكون صوت نصف صوت وربع آخر وخمس آخر وجزءا من أحد عشر من آخر. واختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع يخرجها من البساطة إلى التركيب. وليس كل تركيب منها ملذوذا عند السماع، بل تراكيب خاصة هي التي حصرها أهل علم الموسيقى وتكلموا عليها، كما هو مذكور في موضعه. وقد يساوق [2] ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات إما بالقرع أو بالنفخ في الآلات تتخذ لذلك، فيزيدها لذة عند السماع.
فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف: منها ما يسمونه الشّبّابة [3]، وهي قصبة جوفاء بأبخاش [4] في جوانبها معدودة ينفخ فيها فتصوّت، ويخرج الصوت من جوفها على سدادة من تلك الأبخاش، ويقطّع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعا على تلك الأبخاش وضعا متعارفا حتى تحدث النسب بين الأصوات فيه وتتصل كذلك متناسبة، فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي ذكرناه. ومن جنس هذه الآلة المزمار الذي يسمى الزّلاميّ [5]، وهو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفردتين كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النفخ بواسطتها إليها، وتصوّت بنغمة حادّة ويجري فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبّابة.
ومن أحسن آلات الزمر لهذا العهد البوق، وهو بوق من النحاس أجوف في مقدار الذراع يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكف في شكل بري القلم، وينفخ بقصبة صغيرة تؤدّي الريح من الفم إليه، فيخرج الصوت ثخينا دويا، وفيه أبخاش أيضا معدودة، وتقطّع نغمه منها كذلك بالأصابع على التناسب فيكون ملذوذا.
ومنها آلات الأوتار، وهي جوفاء كلها إمّا على شكل قطعة من الكرة مثل البربط [6] والرباب، أو على شكل
__________
[1] يستعمل ابن خلدون «التوقيع» في الموسيقى. والصواب «الإيقاع».
[2] المساوقة: المتابعة.
[3] الشبابة: نوع من المزمار مولدة.
[4] يراد بالأبخاش الثقوب. ولم نجد مادة «بخش» في كتب اللغة، فلعلها مولدة.
[5] الزلاميّ: تصحيف الزنامي بلغة العامة. والزناميّ منسوب إلى زنام (كغراب) وهو زمار حاذق كان للرشيد. انظر «شرح القاموس».
مادة «زنم».
[6] البربط: طنبور ذو ثلاثة أوتار، كذا في «شفاء الغليل». وقال صاحب «اللسان»: البربط: العود، أعجميّ ليس من ملاهي العرب،
مربع كالقانون، توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دساتين [1] جائلة ليأتي شدّ الأوتار وإرخاؤها عند الحاجة إليه بإدارتها، ثم تقرع الأوتار إما بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوس، يمرّ عليها بعد أن يطلى بالشمع والكندر [2]، ويقطّع الصوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو بنقله من وتر إلى وتر. واليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقع بأصابعها على أطراف الأوتار فيما يقرع أو يحكّ بالوتر، فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة.
وقد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض على توقيع متناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع.
[3] ............... والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر والرخاوة والشدّة والقلقلة والضغط وغير ذلك، والتناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن. فأوّلا: ألا يخرج من الصوت إلى ضدّه دفعة بل بتدريج ثم يرجع كذلك، وهكذا إلى المثل، بل لا بدّ من توسط المغاير بين الصوتين. وتأمّل هذا من افتتاح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج فإنه من بابه. وثانيا: تناسبها في الأجزاء، كما مر أوّل الباب، فيخرج من الصوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه على حسب ما يكون التنقل مناسبا على ما حصره أهل صناعة الموسيقى. فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيات، كما ذكره أهل تلك الصناعة، كانت ملائمة ملذوذة.
ومن هذا التناسب ما يكون بسيطا، ويكون الكثير من الناس مطبوعين عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة، كما نجد المطبوعين على الموازين الشعرية وتوقيع الرقص وأمثال ذلك. وتسمي العامة هذه القابلية بالمضمار. وكثير من القرّاء بهذه المثابة يقرءون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم، كأنها المزامير، فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم. ومن هذا التناسب ما يحدث بالتركيب، وليس كل الناس يستوي في معرفته، ولا كل الطباع توافق صاحبها في العمل به إذا علم.
وهذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى، كما نشرحه بعد عند ذكر العلوم ...............
............ ............... ...
وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توافر وتجاوز حدّ الضروريّ إلى الحاجيّ ثم إلى الكماليّ، وتفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة؛ لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ عن جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره، فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفننا في مذاهب الملذوذات.
وكان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم، وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به؛ حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة، ولهم مكان في دولتهم، وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنّون فيها. وهذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم ومملكة من ممالكهم.
وأما العرب فكان لهم أوّلا فنّ الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدّة حروفها
__________
فأعربته حين سمعت به.
[1] قال في «المخصص» ج 13 ص 12: «يقال للتي يسميها الفرس الدساتين العتب. قال الأعشى:
وثنى الكف على ذي عتب ... يصل الصوت بذي زير أبحّ»
[2] الكندر: اللبان.
[3] هذه النقط وضعت إشارة إلى ترك ما لا علاقة له بالغناء وتاريخه في هذا الفصل.
المتحرّكة والساكنة، ويفصّلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلا يكون كل جزء منها مستقلا بالإفادة لا ينعطف على الآخر، ويسمونه البيت، فيلائم الطبع بالتجزئة أوّلا، ثم بتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادى ء، ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها، فلهجوا به، فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشرف ليس لغيره، لأجل اختصاصه بهذا التناسب؛ وجعلوه ديوانا لأخبارهم وحكمهم وشرفهم، ومحكّا لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب، واستمرّوا على ذلك.
وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرّك والساكن من الحروف، قطرة من بحر من تناسب الأصوات، كما هو معروف في كتب الموسيقى؛ إلا أنهم لم يشعروا بما سواه؛ لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علما. ولا عرفوا صناعة، وكانت البداوة أغلب نحلهم. ثم تغنّى الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم، فرجّعوا الأصوات وترنّموا. وكانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء، وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغبيرا (بالغين المعجمة والباء الموحدة). وعللها أبو إسحاق الزجاج بأنها تذكّر بالغابر، وهو الباقي، أي بأحوال الآخرة [1].
وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة، كما ذكره ابن رشيق آخر «كتاب العمدة» وغيره. وكانوا يسمونه «السناد»، وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف الحلوم، وكانوا يسمون هذا «الهزج». وهذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم، شأن البسائط كلها من الصنائع. ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم.
فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه، وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم، مع غضارة الدين وشدّته في ترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش، هجروا ذلك شيئا ما، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا بترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي كان ديدنهم ومذهبهم. فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش ورقّة الحاشية واستحلاء الفراغ، فافترق المغنّون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنّوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف [2] والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحّنوا عليها أشعارهم، وظهر بالمدينة نشيط الفارسيّ وطويس وسائب خاثر مولى عبد اللّه بن جعفر، فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه، وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره.
وما زالت صناعة الغناء تتدرّج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصليّ وابنه إسحاق وابنه حمّاد، وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث به وبمجالسه لهذا العهد. وأمعنوا في اللهو واللعب، واتخذت الات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها عليه، وجعل صنفا وحده. واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرّج [3] - وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلّقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان،
__________
[1] هذا رأي الزجاج. وقال الأزهري: سموا ما يطرّبون فيه من الشعر في ذكر اللّه تغييرا، كأنهم إذا تناشدوها بالألحان طربوا فرقصوا وأرهجوا (أثاروا الرهج وهو الغبار)، فسموا مغبّرة لهذا المعنى. قال الأزهري: وروينا عن الشافعي قال: أرى الزنادقة وضعوا التغيير ليصدّوا عن ذكر اللّه وقراءة القرآن.
[2] المعازف: الملاهي والملاعب التي يضرب بها، يقولون للواحد: عزف، والجمع معازق (على غير مقياس) فإذا أفرد المعزف فهو ضرب من الطنابير ويتخذه أهل اليمن. وغيرهم يجعل العود معزفا. «لسان العرب» (مادة «عزف»).
[3] الكرّج: فارسيّ معرب وهو ما يتخذ مثل المهر يلعب عليه؛ قال جرير:
لبست سلاحي والفرزدق لعبة ... عليها وشاحا كرج وجلاجله
ويحاكين بها امتطاء الخيل - فيكرّون ويفرّون ويثاقفون [1]، وأمثال ذلك من اللّعب المعدّة للولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو. وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق، وانتشر منها إلى غيرها. وكان للموصليين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد، فصرفوه إلى المغرب غيرة منه، فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس، فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات، وأحلّه من دولته وندمائه بمكان، فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف، وطما منها بإشبيلية بحر زاخر، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها [2] إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب، وانقسم على أمصارها. وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها.
وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع؛ لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح. وهي أيضا أوّل ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه، واللّه أعلم».
__________
وقال أيضا:
أمسى الفرزدق في جلاجل كرج ... بعد الأخيطل ضرّة لجرير
[1] يثاقفون: يخاصمون ويجالدون، ومصدره الثقاف والمثاقفة وهي العمل بالسيف، ومنه:
وكأن لمع بروقها ... في الجوّ أسياف المثاقف
[2] غضارتها: بهجتها وجدّتها.