أبو القاسم البلخي الكعبي (ولد ٢٧٣ – توفي ٣١٧ أو ٣١٩) خريج مدرسة بغداد
عبدالله بن أحمد بن محمود أبو القاسم البلخي. قال الخطيب: من متكلّمي المعتزلة البغداديين، صنّف في الكلام كتباً كثيرة و أقام ببغداد مدّة طويلة و انتشرت بها كتبه، ثمّ عاد إلى بلخ فأقام بها إلى حين وفاته. أخبرني القاضي أبو عبدالله الصيمري، (حدّثنا) أبو عبدالله محمّد بن عمران المرزباني، قال: كانت بيننا وبين أبي القاسم البلخي صداقة قديمة وكيدة وكان إذا ورد مدينة السلام قصد أبي وكثر عنده، وإذا رجع إلى بلده لم تنقطع كتبه عنّا، وتوفّي أبو القاسم ببلخ في أوّل شعبان سنة تسع عشرة وثلاثمائة».
وقال ابن خلّكان: «العالم المشهور كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم «الكعبيّة» وهو صاحب مقالات، ومن مقالته: أنّ الله سبحانه وتعالى ليست له إرادة، وأنّ جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه لها، وكان من كبار المتكلّمين، وله اختيارات في علم الكلام، توفّي مستهلّ شعبان سنة سبع عشرة و ثلاثمائة. والكعبي نسبة إلى بني كعب، والبلخي نسبة إلى بلخ إحدى مدن خراسان».
وقد خفي على الخطيب وابن خلّكان ما يهدف إليه الكعبي من نفي الإرادة والمشيئة عنه سبحانه، وقد اختار من أنظاره تلك النظريّة للازدراء عليه، ولكنّهما غفلا عن أنّ الكعبي لا يهدف إلى نفي الإرادة عن الله سبحانه حتّى يعرّفه كالفواعل الطبيعية، بل له هناك هدف سام لا يقف عليه إلاّ العارف بالاُصول الكلاميّة، وهو أنّ الارادة أو المشيئة حسب طبعها من الأمور الحديثة الجديدة المسبوقة بالعدم فلا تتصوّر مثل هذه الإرادة لله، أي الارادة الحادثة القائمة بذاته.
وبعبارة واضحة: إنّ حقيقة الارادة تلازم التجدّد والحدوث والتجزي والتقضي، ومثل ذلك لا يليق بساحته سبحانه. فلأجل ذلك يرى الكعبي تنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث والتجدّد. ومع ذلك لا يسلب عنه ما يعدّ كمالاً للإرادة، فإنّ الإرادة من الصفات العالية الكماليّة بما أنّها رمز للاختيار، وآية الحرّيّة، وهذا غير منفيّ عن الله سبحانه عند البلخي. ويدلّ على ذلك ما نقله ابن شاكر الكتبي في «عيون التواريخ» ما هذا لفظه، قال: «كان الكعبي تلميذ أبي الحسين الخيّاط وقد وافقه في اعتقاداته جميعاً، وانفرد عنه بمسائل. منها قوله: إنّ إرادة الرّبّ تعالى ليست قائمة بذاته، ولا هو يريد إرادته و (لا) إرادته حادثة في محلّ، بل إذا أطلق عليه: إنّه يريد، فمعناه أنّه عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره. وإذا قيل: إنّه مريد لأفعاله، فالمراد أنّه خالق لها على وفق علمه، وإذا قيل إنّه مريد لأفعال عباده، فالمراد أنّه راض بما أمر به».
مؤلفّاتـه
قال ابن حجر في «لسان الميزان»: «عبدالله بن أحمد بن محمود البلخي أبو القاسم الكعبي من كبار المعتزلة وله تصانيف في الطّعن على المحدِّثين تدلّ على كثرة اطّلاعه وتعصّبه»(۲).
غير أنّ أكثر هذه الكتب قد بطش بها الزمان و أضاعها كما أضاع أكثر كتب المعتزلة وقد استقصى فؤاد سيّد في مقدّمته على كتاب «ذكر المعتزلة» لأبي القاسم البلخي أسماء كتبه و أنهاها إلى ستّة و أربعين كتاباً.
وقال النّجاشي في ترجمة محمّد بن عبدالرحمان بن قبة: «وأخذ عنه ابن بطّة و ذكره في فهرسه وقال: وسمعت من محمّد بن عبدالرحمان بن قبة، له كتاب الانصاف في الإمامة وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي» ثمّ قال:«سمعت أبا الحسين المهلوس العلوي الموسوي ـ رضي الله عنه ـ يقول في مجلس الرّضي أبي الحسن محمّد بن الحسين بن موسى و هناك شيخنا أبو عبدالله محمّد بن محمّد بن النعمان ـ رحمهم الله أجمعين ـ: سمعت أبا الحسين السوسنجردي ـ رحمه الله ـ وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين وله كتاب في الإمامة معروف به وكان قد حجّ على قدميه خمسين حجّة-يقول: مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ بعد زيارتي الرضا ـ عليه السلام ـ بطوس فسلّمت عليه وكان عارفاً، ومعي كتاب أبي جعفر ابن قبة في الإمامة المعروف بالانصاف، فوقف عليه ونقضه بـ «المسترشد في الإمامة» فعدت إلى الري، فدفعت الكتاب إلى ابن قبة فنقضه بــ«المستثبت في الإمامة» فحملته إلى أبي القاسم فنقضه بـ«نقض المستثبت» فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قدمات-رحمه الله-».
مناظرته مع رجل سوفسطائي
حكى في كتابه «مقالات أبي القاسم» أنّه وصل إليه رجل من السوفسطائية راكباً على بغل، فدخل عليه فجعل ينكر الضّروريات و يلحقها بالخيالات، فلمّا لم يتمكّن من حجّة يقطعه قام من المجلس موهماً أنّه قام في بعض حوائجه، فأخذ البغل و ذهب به إلى مكان آخر ثمّ رجع لتمام الحديث، فلمّا نهض السوفسطائي للذهاب ولم يكن قد انقطع بحجّة عنده طلب البغل حيث تركه فلم يجده، فرجع إلى أبي القاسم وقال: إنّي لم أجد البغل، فقال أبوالقاسم: لعلّك تركته في غير هذا الموضع الّذي طلبته فيه، وخيِّل لك أنّك وضعته في غيره، بل لعلّك لم تأت راكباً على بغل و إنّما خيِّل اليك تخييلاً وجاءه بأنواع من هذا الكلام، فأظن أنّه ذكر أنّ ذلك كان سبباً في رجوع السوفسطائي عن مذهبه وتوبته عنه.
* الترجمة للشيخ جعفر السبحاني
================
أبو القاسم، عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي، ينسب إلى بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقد نزلت طائفة منهم خراسان، من أئمة المعتزلة ورأس طائفة الكعبية.
نشأ الكعبي في مدينة بلخ في خراسان، وانتقل منها إلى بغداد في طلب العلم، ثم عاد إلى بلخ، ووزر للقائد الساماني أحمد بن سهل بن هاشم المروزي، ولما قبض على هذا الأخير أخذ الكعبيّ، فاعتلّ حتى خلصه الوزير علي بن عيسى بن الجرّاح، فأقام في بلخ حتى مات في خلافة المقتدر.
أخذ الكعبي، في بغداد، عن أبي الحسين الخيّاط المعتزلي، مؤلف كتاب «الانتصار في الردّ على ابن الراوندي» (ت 300هـ) وغدا على مذهبه في الاعتزال. كذلك أخذ عن البصريين من المعتزلة كثيراً من المسائل، واستفاد مما نشر من آراء الفلاسفة فيها، ثم توسع في بحثها والنظر فيها وخالفهم في بعضها.
وفي خراسان تبعه كثيرون، وغدا رأس طائفة من المعتزلة يقال لها الكعبية أو البلخية، صنفها الشهرستاني في «الملل والنحل» مع الخيّاطية ، وعدها إحدى فرق المعتزلة التي اختصت بمبادئ ليست لغيرها.
كان الكعبي غزير العلم في الفقه والأدب، واسع المعرفة بمذاهب الناس، وكان، شأن كثير من المعتزلة، بارعاً في علم الكلام وعلم البلاغة والجدل والمناظرة، حتى وصفه أبو سعيد الإصطخري الحسن بن حمد (ت 328هـ) بقوله:
«ما رأيت أجدل من الكعبي»، وقد رُوِيت عن مناظراته أحاديث تدل على قدرته على تصريف أوجه الكلام بما يقنع، وكانت له مكانة جليلة في مجالس العلماء، فكان يحكّم في الأمور التي يختلفون فيها فيدلي برأيه، واثقاً من نفسه وعلمه، وله مواقف ومناظرات مشهورة مع السفسطائيين وغيرهم. وصفه أبو حيان التوحيدي في كتابه «البصائر والذخائر» بقوله: «كفى به علماً ودراية ورواية وثقة وأمانة » . إضافة إلى ذلك كان معروفاً بالسخاء والجود والهمّة العالية وثبات القلب.
انفرد الكعبي عن أستاذه الخيّاط بمسائل، من أبرزها ما يتعلق بمفهوم إرادة الله، وقد كان في ذلك موافقاً للمعتزلي بشر بن المعتمر. وقد فسّر الكعبي ذلك بأنه إذا قيل: إن الله مريد فمعناه أنه عالم قادر غير مكره في فعله ولا كاره، وإذا قيل: إنه مريد لأفعاله، فالمراد أنه خالق لها على وفق علمه. وإذا قيل: إنه مريد لأفعال عباده، فالمراد أنه آمر بها وراضٍ عنها. وأن الله عزّ وجلّ إذا أراد شيئاً من فعله فمعناه أنه فعله، وإذا قيل إنه أراد من عبده فعلاً فمعناه أنه أمر به، وإن وصف الإرادة لله في الوجهين مجاز مثلما وصف الجدار بالإرادة في قوله تعالى: ( جداراً يريدُ أنْ يَنْقَضّ فَأقَامَهُ ) (الكهف 78).
كذلك خالف البصريين في تفسير صفات الله، وكان يخالف المعتزلة الذين يرتبون الخلفاء في الفضل كترتيبهم في الخلافة، إذ كان يرى وتلامذته أن علياً أفضل من أبي بكر.
وكان يحمّل الكلام أكثر مما يحتمل أحياناً، فقد رمى عمرو بن العاص ومعاوية بالإلحاد، لأن عمراً قال لمعاوية: «دعني منك» بعد أن طلب من معاوية أن يوليه مصر، فرد عليه معاوية: «إني أكره أن تتحدث العرب عنك أنك دخلت في هذا الأمر لعرض الدنيا». وقد بالغ الكعبي في تفسير هذه الجملة فأوّلها بأن عمرا يعني «هذا الكلام لا أصل له، والاعتقاد بأن الآخرة لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات» .
ترك الكعبي كثيراً من المؤلفات، منها ما هو مخطوط ومنها ما هو مطبوع، ومن أهم هذه الكتب: «التفسير» و الطعن على المحدِّثين» وفيه غض من شأن أكابرهم وتتبع مثالبهم، وقد وصف هذا الكتاب بأنه يدل على سعة اطّلاع الكعبي وتعصبه. وله كتاب «تأييد مقالة أبي الهذيل» وقبول الأخبار في معرفة الرجال» و«السنة» ومقالات الإسلاميين» و« أدب الجدل» و تحفة الوزراء» و« عيون المسائل» و« محاسن آل طاهر» و« مفاخر خراسان»، وذكر أنه صنّف كتاباً في العروض يعيب فيه أشياء على الخليل بن أحمد.
وقد شاعت كتبه، وأثنى عليها كثير من معاصريه ومن أتى بعده من العلماء، كما كتب عنه كثير من المؤرخين.
*الترجمة لنهلة الحمصي
مراجع للاستزادة:
ـ ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس (دار صادر، بيروت 1977).
ـ أحمد بن يحيى المرتضى، المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل (دار صادر، بيروت)
ـ ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان (مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت
الكتب المتوفرة: