تأملات فى المعجزة

هذا المجلس لطرح الدراسات والأبحاث.
أضف رد جديد
الغزالى
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 60
اشترك في: الجمعة مارس 04, 2005 2:00 pm

تأملات فى المعجزة

مشاركة بواسطة الغزالى »

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول خصوم محمد صلى الله عليه و اله و سلم : ان دليل النبوة هو المعجزة و لم يات محمد بمعجزة و القران ينفى عنه المعجزة

و جوابنا الجازم : ان ابا الزهراء كله معجز
و قبل الافاضة فى ذلك نذكر بعض المقدمات :

1- لقد بحث علماء الاسلام سلفا و خلفا مسالة ادلة النبوة و اشبعوها بحثا , و هناك اتفاق بينهم ان الدليل الاساس على النبوة هو المعجزة
يقول امام الحرمين :
"لا دليل على صدق النبى غير المعجزة . فإن قيل : هل فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة ؟ قلنا : ذلك غير ممكن ! فإن ما يقدر دليلا على الصدق لا يخلو إما أن يكون معتادا ، و إما أن يكون خارقا للعادة : فإن كان معتادا يستوى فيه البر و الفاجر ، فيستحيل كونه دليلا ، و إن كان خارقا للعادة يجوز تقدير وجوده ابتداء من فعل الله تعالى ، فإذا لم يكن بد من تعلقه بالدعوى ، فهو المعجزة بعينها " . الارشاد ص 331
و المعجزة هى : أمر خارق للعادة، و ليست خارقة للعقل
و كما يقول العلامة المحقق جعفر السبحانى حفظه الله :"هناك من الأمور ما تعدّ خارقة للعقل، أي مضادة لحكم العقل الباتّ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علّة، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين... فإنّ هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها.
وهناك أمور تخالف القواعد العادية، بمعنى أنّها تعدّ محالاً حسب الأدوات والأجهزة العادية، والمجاري الطبيعية، ولكنها ليست أمراً محالاً عقلاً لو كان هناك أدوات أخرى خارجة عن نطاق العادة، وهي المسماة بالمعاجز.
ولأجل تقريب ما ذكرنا تمثّل بمثال :جرت العادة على أنّ حركة جسم من مكان إلى مكان آخر تتحقق في إطار عوامل وأسباب طبيعية بدائية أو وسائل صناعية متحضرة. ولكن لم تعرف العادة أبداً حركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين، بلا تلك الوسائط العادية. ولكن هذا غير ممتنع عقلاً، إذ لا يمتنع أن تكون هناك أسباب أخرى لتحريك هذا الجسم الكبير، لم يقف عليها العلم بعد.
مثال ثان: إنّ معالجة الأمراض الصعبة كالسِّل والعَمَى، أمر ممكن لذاته عقلاً، ولكنه كان أمراً محالاً عادة في القرون السالفة، لقصور علم البشر عن الوقوف على الأجهزة والأدوية الّتي تعيد الصحة إلى المسلول، والبصر إلى الأعمى. ومع تقدم العلم تذلّلت الصعاب أمام معالجة هذه الأمراض، فصار بإمكان الطبيب الماهر القيام بالمعالجة عن طريق الأدوية والعمليات الجراحية.
وفي المقابل هناك طريقة أخرى للعلاج، وهي الدعاء والتوسّل إلى الخالق تعالى.
والعلاج ـ بكلا الطريقتين ـ يشترك في كونه أمراً ممكناً عقلاً، غير أنّه يختلف في الطريقة الأولى عن الثانية، بالطريق والسبب، فالطبيب الماهر يصل إلى غايته بالأجهزة العادية، فلا يعد عمله معجزة ولا كرامة، والنبي ـ كالمسيح وغيره ـ يصل إلى نفس تلك الغاية عن طريق غير عادي، فيسمى معجزة
فالعمل في كلتا الصورتين غير خارق لأحكام العقل، إلاّ أنّه موافق للعادة في الأولى دون الثانية.
وقس على ما ذكرنا كثيراً من الأمثلة يتميز فيها خارق العادة عن خارق العقل. "


لكن هناك من يرى انه لا يصح حصر اسباب اليقين بنبوة نبى فى المعجزة , فالاقتناع بصدقه قد يتحقق باسباب اخرى
و من الطرق التى يحصل بها الاقتناع بالنبوة :
1)ان ينص نبى سابق ثبتت نبوته على نبوة مدعى النبوة
2)شهادة القرائن الداخلية والخارجية.
وهذا الطريق- كما يقول المحقق جعفر السبحانى حفظه الله - متين يستخدم في المحاكم القضائية في هذا العصر، لتبيين صدق المدّعي والمنكر أو كذبهما، والتوصّل إلى كنه الحوادث). ولكنه لا يختصّ بالمحاكم، بل يمكن تعميمه إلى مسائل مهمّة، منها إثبات صدق دعوى المتنِّبئ ,ومن هذه القرائن يمكن أن يستنتج صدق الدعوى و كما يقول ابو حامد الغزالى :
"اذا فهمت معنى النبوة , فاكثرت النظر فى القران و الاخبار يحصل لك العلم الضرورى بكونه صلى الله عليه و سلم على اعلى درجات النبوة , و اعضد ذلك بتجربة ما قاله فى العبادات و تاثيرها فى تصفية القلوب ..فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة , لا من قلب العصا ثعبانا , و شق القمر , فان ذلك اذا نظرت اليه وحده و لم تنضم اليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر ربما ظننت انه سحر و تخييل ..فليكن مثل هذه الخوارق احدى الدلائل و القرائن فى مجلة نظرك , حتى يحصل لك علم ضرورى لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين كالذى يخبره جماعة بخبر متواتر لا يمكنه ان يذكر ان اليقين مستفاد من قول واحد معين بل من حيث لا يدرى ..
فهذا هو الايمان القوى العلمى " المنقذ من الضلال /138-139
و هو ما اشار اليه ابن كمونة اليهودى عند ذكره لطرق الاقتناع بالنبوة , قال :"فمن يفهم معنى النبوة اذا اكثر من النظر فيما ياتى به مدعى النبوة , و تامل اخباره و احواله , و ما يامر به من العبادات و افعال الخير ,ربما حصل له من ذلك مضافا الى قرائن لا يمكن التعبير عنها على وجه التفصيل : الايمان بنبوته, مستغنيا عن الاستدلال عليها بما يظهر على يده من خوارق العادات "تنقيح الابحاث /20


و مع ذلك يبقى الدليل الاساس على النبوة هو المعجزة,فالنبوة من المناصب العظيمة التى يكثر لها المدعون ، ويرغب في الحصول عليها الراغبون ، ونتيجه هذا أن يشتبه الصادق بالكاذب ، فلا بد لمدعى النبوة أن يقيم شاهدا واضحا يدل على صدقه في الدعوى ، وأمانته في التبليغ ، ولا يكون هذا الشاهد من الافعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها, بل لا بد ان يتوفر فى مدعى النبوة حالة خارقة للعادة او استثنائية تدل على انه مرسل من قبل الخالق
-----------

2- المعجزة لا تنحصر فى المعجزات الحسية كقلب العصا ثعبان و نحوه , بل هى كل شىء خارق للعادة معنويا كان او حسى
و وجه دلالة المعجزة على النبوة – او الرابطة المنطقية بين حصول المعجزة و بين صدق دعوى مدعى النبوة – يتضح من خلال الامور الاتية :
1) ان الخالق كما يثبت العقل : حكيم , و لا يجرى شىء فى الكون الا باذنه و مدده
2) ان الحكيم يستحيل ان يمكن انسانا كاذبا من الاتيان بامر معجز خارق للعادة
لان هذا إغراء بالجهل وإشادة بالباطل ، وذلك محال على الحكيم تعالى .

هذه هى دلالة المعجزة على النبوة
و يتضح من هذا انه لا معنى ابدا لاثبات النبوة الا بعد اثبات وجود الخالق و اثبات حكمته , و اثبات انه لا يجرى فى الكون شىء الا باذنه
اى لا معنى للحوار فى مسالة النبوة مع ملحد ينكر وجود الخالق , او مع من لا يثبت خالقا للكون حكيما متصرفا فيه .
و هذا يقودنا الى تناول فكرة الاله الغائب التى يقول بها بعض اللادينيين
الخالق ليس معزولا عن خلقه
بشىء من التبسيط فان الممكن اى المخلوق محتاج دوما الى الخالق فى بقاءه كما انه محتاج اليه فى حدوثه, فلا فرق عقلا فى ذلك بين حدوث الشىء و بين بقاءه , اى ان الخالق لم يخلق العالم ثم تركه و انعزل عنه , بل الشىء الذى يخلقه الخالق يبقى محتاجا الى المدد من هذا الخالق ليظل موجودا و هو ما ينطبق على كل شىء فى هذا الكون
فالاشياء مثلها مثل المصباح الكهربائي المضيء، فالحس الخاطئ يزعم أنَّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأول، و يتصور أنَّ المصباح إنَّما يحتاج إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء، دون استمراره.
و الحال أنَّ المصباح فاقد للإِضاءة في مقام الذات محتاج في حصولها إلى ذلك المولد في كل لحظة، لأنَّ الضوء المتلألئ من المصباح إنما هو استضاءَة بعد استضاءَة، و استنارة بعد استنارة من المولد الكهربائي. أفلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الإِتصال بينه و بين المولد؟
فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً، فهو لكونه فاقداً للوجود الذاتي يحتاج إلى العلّة في حدوثه وبقائه لأنه يأخذ الوجود آناً بعد آن، و زماناً بعد زمان
هذه هى العقيدة الاسلامية فهى كما سبق لا تكتفى باثبات حاجة الكون الى خالق او علة , بل تثبت ايضا استمرار حاجة و فقر هذا العالم-الى هذا الخالق و هذه العلة- ليبقى ,و كما يقول بعض العلماء فى منظومة :
و الإِفتقَارُ لازمُ الإِمكَانِ * منْ دُون حَاجَة إلى البُرْهَانِ
لاَ فَرْقَ ما بينَ الحُدوثِ والبَقا * في لازمِ الذَّات ولَنْ يَفْتَرِقا
و نصوص القران واضحة فى تقرير ذلك :
يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ إِلى اللّهِ و اللّهُ هُو الغَنِىُّ الحَمِيدُ)
فالآية نصّ في كون الفقر ثابت للإِنسان في جميع الأحوال، فكيف يستغني عنه سبحانه بعد حدوثه، و في بقائه. أو كيف يستغنى في فعله عن الواجب مع سيادة الفقر عليه.
و يقول سبحانه: (وَ مَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه).
ـ و يقول سبحانه: (كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه).
ـ و يقول سبحانه: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّه).
و يقول سبحانه: (وَ مَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه).
و يقول سبحانه: (وَ ما كَانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه كِتاباً مَؤَجَّلا).

"إلى غير ذلك من الآيات التي تقيد فعل الإِنسان بإذنه، و المراد منه مشيئته سبحانه. فيكون المراد أنَّ أفعال العباد واقعة في إطار مشيئته تعالى، فكيف تستقل عنه سبحانه؟ و ما ورد في الذكر الحكيم مما يفنّد هذه المزعمة أكثر من ذلك"





- حكمة الخالق :
بايجاز - و سنبحث هذه المسالة باستفاضة فيما بعد - فان العقل كما يثبت وجود الخالق , فانه يثبت ايضا انه حكيم
يقول الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله :"حينما نؤمن بالله سبحانه وتعالى خالقاً للكون ومربّياً له ومنظّماً لمسيرته وفق الحكمة والتدبير ينتج عن ذلك طبيعياً أن نتعرّف على صفاته من خلال صنعه وإبداعه، ونقيّم خصائصه بما تشعّ به مصنوعاته من دلالات، تماماً كما نقيّم أيّ مهندس على أساس الصفات التي تميّز إنتاجه الهندسي، ونقيّم المؤلّف على ضوء ما يحويه كتابه من علم ومعرفة، ونحدّد شخصية المربي عن طريق ما أودع في من ربّاهم من شمائل وخصال.

وبهذا نستطيع أن نأخذ لمحةً عمّا يتّصف به الصانع العظيم من علم وحكمة وحياة وقدرة وبصر وسمع ; لأنّ ما في نظام الكون من دقّة وإبداع يكشف عن العلم والحكمة، وما في أعماقه من طاقات يدلّل على القدرة والسيطرة، وما في أشكاله من ألوان الحياة ودرجات الإدراك العقلي والحسّي يدلّ على ما يتمتّع به الصانع من حياة وإدراك، ووحدة الخطّة والبناء في تصميم هذا الكون والترابط الوثيق بين مختلف جوانبه تشير إلى وحدة الخالق ووحدة الخبرة التي انبثق عنها هذا الكون الكبير.


عدله واستقامته :


كلّنا نؤمن بعقلنا الفطري البديهي بقيم عامّة للسلوك، وهي القيم التي تؤكّد

أنّ العدل حقّ وخير، والظلم باطل وشرّ، وأنّ من يعدل في سلوكه جدير بالاحترام والمثوبة، ومن يظلم ويعتدي جدير بعكس ذلك، وهذه القيم بحكم الاستقراء والفطرة هي الأساس الذي يوجّه سلوك الإنسان ما لم يكن هناك مايحول دون ذلك من جهل أو ترقّب نفع، فكلّ إنسان إذا واجه خياراً بين الصدق والكذب في حديثه مثلا أو بين الأمانة والخيانة، فإنّه يختار الصدق على الكذب، والأمانة على الخيانة، ما لم يكن هناك دافع شخصي ومصلحة خاصّة قد تغريه بالانحراف في سلوكه عن تلك القيم.

ويعني ذلك أنّ من لاتوجد لديه حاجةٌ إلى شخص أو مصلحةٌ في خداعه أو خيانته أو ظلمه يسلك معه سلوك الصادق الأمين العادل، أي سلوكاً مستقيماً، وهذا بالضبط ماينطبق على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى، فإنّه محيط بتلك القيم التي ندركها بعقلنا الفطري. لأ نّه هو الذي وهبنا هذا العقل، وهو في نفس الوقت بحكم قدرته الهائلة وسيطرته الشاملة على الكون ليس بحاجة إلى أيّ مساومة أو لفّ ودوران، ومن هنا نؤمن بأنّ الله سبحانه وتعالى عادل لا يظلم أحداً.

عدل الله تعالى يثبت الجزاء :

إنّ القيم التي آمنّا بها تدعو ـ كما عرفنا ـ إلى العدل والاستقامة والأمانة والصدق والوفاء ونحوها من صفات، وتشجب الصفات المضادة لها. وهذه القيم لا تدعو إلى تلك الصفات وتشجب هذه الصفات فقط، بل تطالب بالجزاء المناسب لكلّ منهما، فإنّ العقل الفطريّ السليم يدرك أنّ الظالم والخائن جدير بالمؤاخذة، وأنّ العادل الأمين الذي يضحّي في سبيل العدل والأمانة جدير بالمثوبة، وكل واحد منّا يجد في نفسه دافعاً من تلك القيم إلى مؤاخذة الظالم المنحرف، وتقدير العادل المستقيم، ولا يحول دون تنفيذ هذا الدافع عند أحد إلاّ عجزه عن اتخاذ الموقف المناسب، أو تحيّزه الشخصي.

وما دمنا نؤمن بأنّ الله سبحانه وتعالى عادل مستقيم في سلوكه وقادر على الجزاء المناسب ثواباً وعقاباً فلا يوجد مايحول دون تنفيذه عزّ وجلّ لتلك القيم التي تفرض الجزاء العادل وتحدّد المردود المناسب للسلوك الشريف والسلوك الشائن، فمن الطبيعي أن نستنتج من ذلك أنّ الله سبحانه يجازي المحسن على إحسانه، وينتصف للمظلوم من ظالمه.

ولكنّا نلاحظ في نفس الوقت أنّ هذا الجزاء كثيراً ما لا يتحقّق في هذه الحياة التي نحياها على هذه الأرض على الرغم من أ نّه مقدور لله سبحانه وتعالى، وهذا يبرهن ـ بعد ملاحظة المعلومات السابقة ـ على وجود يوم مقبل للجزاء، يجد فيه العامل المجهول الذي ضحّى من أجل هدف كبير ولم يقطف ثمار تضحيته، والظالم الذي أفلت من العقاب العاجل وعاش على دماء المظلومين وحطامهم، يجد هذا وذاك فيه جزاءهما العادل، وهذا هو يوم القيامة، الذي يجسّد كلّ تلك القيم المطلقة للسلوك، وبدونه لا يكون لتلك القيم معنى.

4-بين المعجزة العقلية و المعجزة الحسية :
يمكن تقسيم المعجزات الى قسمين :
1)المعجزة الحسية : و هى المعجزة التى يمكن ان تدركها حواس الانسان الخارجية , كالبصر , فانقلاب العصا حية تسعى و ماشابه كلها خارقة للعادة مدركة لحواس الانسان
2) المعجزة العقلية : و هى المعجزة التى تدرك من قبل العقل الانسانى و تتعدى ادراك الحواس المادى , و ذلك كالاتيان بحقائق العلوم من غير تعلم

قال الراغب فى اعجاز القران :
"المعجزات التى اتى بها الانبياء ضربان : حسى و عقلى :
فالحسى : ما يدركه بالبصر , كناقة صالح ..
و العقلى : ما يدرك بالبصيرة , كالاخبار عن الغيب تعريضا و تصريحا , و الاتيان بحقائق العلوم التى حصلت من غير تعلم "
جامع التفاسير 1/102
و قال النهاوندى :" المعجزة قسمان : حسية كصيرورة العصا ثعبانا و احياء الموتى .., و عقلية كاعجاز القران المجيد "
و قد استندت معجزة محمد صلى الله عليه و اله و سلم اساسا الى امر غير مادى و لا علاقة له بالحس ,فمعجزته الاساسية عقلية لا حسية , فالناس فى زمن الرسالة و ما قبله كانوا يؤمنون بالسحر لذا كانت المعجزات الحسية لا تنفع مع كثير منهم لتصورهم انها مجرد سحر و قد اشار القران الكريم الى هذه الحقيقة
"وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُون- لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ " الحجر :14-15


و كفار مكة كانوا يؤمنون بالسحر بل ان من تامل فى سبب عدم ايمان كثير منهم سيجد انه تصورهم ان محمد صلى الله عليه و اله و سلم على علاقة بالجن و الشياطين , و ان الوحى القرانى الذى ياتيه هو مجرد وحى شيطانى ,و لاجل ذلك كانوا يصفون النبى بانه شاعر ليس مرادهم انه يقول اشعار بل مرادهم انه يوحى اليه شياطين كما كان معتقدهم فى الشعراء و قد اهتم القران الكريم بالرد على هذه الشبهة
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ( الشعراء :210)
"وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ( التكوير :25)
و لاجل ذلك ايضا اكد القران عجز الجن مع الانس على الاتيان بمثل القران

لذا كانت المعجزة الاساس لابى الزهراء عقلية و هو ما يرتبط بتطور الانسان و تكامله من الناحية الفكرية , فقد كان الانسان فى العصور الاولى من حياته الفكرية مانوسا بالحس و التجربة المادية و بذلك كان يفسر ما يدور حوله من ظواهر الكون و الحياة , الا ان الامر لم يبق على هذه الحال بل وصل الانسان عبر مسيرته الطويلة و الشاقة الى مستويات راقية من التفكير و التعقل , الامر الذى يقتضى ان تكون المعجزة التى تثبت رسالة السماء و تستند عليها النبوة ملائمة لهذا المستوى من التفكير و التعقل , و هذا ما تبنته الرسالة السماوية الخاتمة : رسالة ابى الزهراء صلى الله عليه و اله و سلم و التى استندت فى الواقع الى معجزتين عقليتين اشار اليهما القران الكريم , و سنتناولهما بالتفصيل باذن الله :
1) معجزة الشخصية المحمدية
2) معجزة القران العظيم
و فى ضوء هذه الحقيقة التى تقرر ارتكاز معجزة الاسلام على العلم و المعرفة و ادراكات العقل الانسانى المجردة عن الحس و المادة , سوف تتجلى لنا الاهمية التى يوليها الاسلام للعلم و للعلماء , و المكانة السامية التى يحتلها البحث العلمى فى نظر الدين الاسلامى
قال تعالى :" قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ 9 ( الزمر )
بل يتعدى القران الكريم هذا المستوى من التفريق بين العلم و الجهل ليقرر من خلال نداء صريح يقرع الاسماع و يوقظ العقول بان خشية الله سبحانه متوقفة على العلم و حصول المعرفة فى النفس الانسانية ,و لنستمع الى قوله تعالى " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء" (فاطر : 28 )


================


فى ضوء ما تقدم فان اثبات النبوة اسهل من اثبات وجود الخالق , فاذا كان المطلوب لاثبات نبوة محمد صلى الله عليه و اله و سلم ان ياتى بامر خارق للعادة فهذا متحقق فى شخصية ابى الزهراء و دعوته و رسالته بما لا يخفى على بصير
فنحن امام ظاهرة خارقة للعادة بوضوح
و قد اقر بعض خصوم محمد صلى الله عليه و اله و سلم بهذه الحقيقة , و الحق ما نطقت به الاعداء
قال القس جورج بوش فى كتابه الذى طبع العام الماضى و اثار ضجة " محمد مؤسس الدين الاسلامى و مؤسس امبراطورية المسلمين "/353:

(هكذا انتهت مهمة محمد على ظهر الارض , هكذا انتهت مهمة واحد من ابرز الرجال و اكثرهم جدارة بالالتفات على الاطلاق , هكذا انتهت المهمة الدنيوية لاكثر المدعين !! نجاحا و تصميما
لقد استطاع بطموحه الواسع ان يوجه المواهب الوطنية فتطورت بداياته المتواضعة الى ذروة القوة بين العرب , و كان قد بدا قبل ان يموت ثورة من اعظم الثورات التى عرفها تاريخ البشرية , لقد وضع اساس امبراطورية استطاعت فى ظرف ثمانين سنة فقط ان تبسط سلطانها على ممالك و بلاد اكثر و اوسع مما اسطاعته روما فى ثمانمائة سنة ,و تزداد دهشتنا اكثر و اكثر اذا تركنا نجاحه السياسى و تحدثنا عن صعود دينه و انتشاره السريع و استمراره و رسوخه الدائم .
و الحقيقة ان ما حققه نبى الاسلام و الاسلام لا يمكن تفسيره الا بان الله كان يخصهما برعاية خاصة
فالنجاح الذى حققه محمد لا يتناسب مع امكاناته , و لا يمكن تفسيره بحسابات بشرية معقولة
لا مناص اذن من القول انه كان يعمل فى ظل حماية الله و رعايته , لا تفسير غير هذا لتفسير هذه الانجازات ذات النتائج الباهرة
و لا شك انه يجب علينا ان ننظر للاسلام النص الدينى المحمدى فى ايامنا هذه بوصفه شاهدا قائما ينطوى على حكمة غامضة لله لا ندرى مغزاها !!) انتهى
هذا نص كلامه كما ترجمه الدكتور عبد الرحمن الشيخ , طبعة دار المريخ - الرياض 2005


و سنتناول باذن الله فيما ياتى :

1- خرق الشخصية المحمدية للعادة
2- خرق القران الكريم للعادة
الساكت عن الحق شيطان اخرس

الغزالى
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 60
اشترك في: الجمعة مارس 04, 2005 2:00 pm

مشاركة بواسطة الغزالى »

اولا – اعجاز الشخصية المحمدية :
قال تعالى :
" قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" يونس :16
فتحداهم الله بنفس النبى الذى جائهم بالرسالة
فالحقيقة ان شخصية محمد صلى الله عليه و اله و سلم كانت معجزة و آية بمعنى الكلمة , و لن تجد له مثيلا مهما بحثت
و هذه الاية و المعجزة كانت تعيش مع الصحابة و كفار مكة و كان اعجازها جليا لهم و علمهم باعجازها و تفوقها المذهل على البيئة و قدرات غيرها من البشر كان علما ضروريا
و نريد فى عصرنا ان ندرك هذا الاعجاز من خلال المتواتر عن هذه الشخصية التى ملات الدنيا و شغلت الناس و تواترت تفاصيلها المهمة كما لم تتواتر تفاصيل حياة انسان
و كما يقول بعض اهل العلم :
"علينا أن ندرس جوانب المعجزة في شخص الرسول قبل أن ندرسها في القرآن الكريم وغيره. نعم ندرس معجزة الرسول في ما نقل أو فيما أنتج .

الإنسان ابن محيطه في كل شيء ، في الثقافة وفي الحياة وفي القيم وفي الأحكام وفي المظهر ... الخ
فإذا وجدنا أن إنسانا فاق محيطه وزمانه بشكل خارق كان هو المعجزة بحد ذاته ، وإذا بقي التفوق له إلى الزمن الذي نحن فيه فهو معجزة حقيقة لحد الآن.
وهكذا وجدنا الرسول صلى الله عليه وآله.
معجزة متحركة
ابن صحراء قاحلة .. لا علم فيها ..

نراقبه .. نراقب كلماته .. نراقب إنتاجه.. نجده متفوقا في كل شيء
ما من علم إلا وله فيه كلمة صحيحة لم يبطلها علم
ما من فن إلا وله فيه كلمة صحيحة تهدي مسراه
القانون كله قد انبثق منه فجأة
الشريعة المعقدة سالت من بين أصابعه الشريفة
الحكمة تعدت حدود البشرية حيث عجز الناقلون عن نقل جميع حكمته
الإيمان ومراتبه فقد أعجز من جاء بعده في بلوغه
الصفات النفسية العظيمة لا مثيل لها فهي من أقصى الكرم والرأفة إلى أقصى الشدة في ذات الله ."


و اعجاز الشخصية المحمدية يتمثل فى ثلاثة امور :

1- انه حقق طفرة شاملة لا مجرد خطوة للامام
2- انه لم يكن جزءا من تيار , بل كان التيار الجديد جزء منه
3- ان كل ذلك تم بلا اعداد فكرى مناسب لما قدمه و حققه – بل الحقيقة مهما افترى المفترون لم يكن هناك اى اعداد فكرى له اصلا – و بدون اى اعداد عملى

و يتضح جليا لمن تامل هذه الامور الثلاثة استحالة ان ياتى انسان بمثل ما قدمه محمد و ما حققه , و ان الامر كله بمجموعه فوق طوق البشر و استطاعتهم و ليس له اى تفسير ارضى يقبله العقل
فلا يوجد انسان يستطيع ان يحدث طفرة شاملة فى المجتمع الذى يظهر فيه كالتى حققها محمد , مع كونه ليس جزءا من تيار بل التيار الجديد جزء منه , و مع كونه لم ينل اعدادا فكريا مناسبا و لا اى اعداد عملى لكل ذلك


1- حقق طفرة شاملة لا مجرد خطوة الى الامام :
كما يقول الشهيد محمد باقر الصدر :
"اى حركة اصلاحية تنبع من الارض و تنبع من عبقرية الانسان بما هو انسان تزحف بالمجتمع خطوة الى الامام ليس اكثر"

اما الدعوة المحمدية فقد حققت طفرة شاملة فى المجتمع الذى ظهرت فيه ,بل لم يكن هناك فى الحجاز حيث ظهر محمد مجتمع اصلا بالمعنى الصحيح فلم يشهد الحجاز من قبله اى تجربة اجتماعية متكاملة

و تتضح هذه الطفرة بادنى تامل فى واقع المجتمع العربى قبل الاسلام و واقعه بعد الدعوة الاسلامية

و يتضح هذا فى ثلاثة امور :
1) مجتمع القبيلة طفر راسا الى الايمان بالمجتمع العالمى :
يقول المحقق جعفر السبحانى :
" إن اُولى خطوة خطاها البَشَر باتّجاه النمط الإجتماعي كانت عندما أقْبَل على تاسيس وإقامة الحياة القبلية، فالقبيلة تتكون من إجتماع عدة عوائل واُسر مترابطة فيما بينها بوشائج القربى والنسب تحت زعامة شيخ القبيلة، وبهذا يتحقق أبسط نمط من أنماط الحياة الإجتماعية .
وقد كانت الحياةُ العربية ـ آنذاك ـ من هذا القبيل، فكلُ مجموعة من العوائل المترابطة نسبياً تتجمع في شكل قبيلة، وتشكل بذلك مجتمعاً صغيراً يخضع فيه الجميع لأوامر رئيس القبيلة وزعيمها، ولقد كان الجامع بين افراد القبيلة هو الرابطة القومية، والوشيجة النسبية، وكانت هذه القبائل تختلف في عاداتها ورسومها، وتقاليدها وأعرافها، اختلافاً كبيراً، وإذ كانت كل قبيلة تعتبر القبائل الاخرى غريبة عنها لذلك كانت لا تقيم للآخرين وزناً ولا قيمة، ولا تعترف لهم باي حق أو حرمة .
ولهذا كانت ترى الإغارة على الآخرين وقتلهم، ونهب أموالهم، وسلب ممتلكاتهم وسبي نسائهم من حقوقها القانونية المشروعة، اللّهم إلاّ أن يكون بين القبيلة، والقبيلة الاُخرى حلف أو معاهدة .
هذا من جانب .
ومن جانب آخر كانت القبيلة الّتي تتعرض للإغارة من جانب قبيلة اُخرى ترى من حقها أن تردَّ الصاع صاعين، تقتل كل أفراد القبيلة المغيرة، لأن الدّم ـ في نظرهم ـ لا يغسله الا الدّم!!!
ولقد تبدلت أخلاقيةُ العرب هذه بعد انضوائهم تحت لواء الإسلام الحنيف، بل تحوَّلوا من نمط الحكومة القبلية المتخلفة والنظام العشائري الضيّق هذا، إلى حكومة عالميّة، واستطاع رسولُ الإسلام ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ان يؤلف من القبائل العربية المتفرقة اُمّة واحدة .
ولا شك أن تأليف اُمة واحدة من قبائل وجماعات اعتادت طوال سنين مديدة من التاريخ على التناحر والتنازع، والتخاصم والتقاتل، والتهاجم والإغارة في ما بينها، واستمرأت سفك الدماء، وإزهاق الارواح، وذلك في مدة قصيرة، عملٌ عظيم جداً، ومعجزة اجتماعية لا نظير لها، لأن مثلَ هذا التحوُّل العظيم إذا اُريدَ لَهُ أن يتمَّ عبر التحوُّلات والتطورات العاديّة لاحتاج إلى تربية طويلة الامد، ووسائل لا تحصى كثرة .

يقول «توماس كارليل» في هذا الصدد: لقد اخرج اللّه العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور، وأحيى به منها امة خاملة لا يُسمعُ لها صوتٌ ولا يُحسُّ فيها حركة، حتّى صار الخمولُ شُهرة والغموض نباهة والضعة رفعة والضعف قوة، والشرارة حريقاً، وشمل نورُه الأَنحاء وعمَّ ضوؤه الأرجاء ما هُو إلا قرنٌ بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح للعرب (المسلمين) قدمٌ في الهند واخرى في الاندلس
وإلى هذه الحقيقة يشير ايضاً مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير «رينان» قائلا: «لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسيّ والثقافي والدينىّ قبل ذلك الانقلاب المفاجىء الخارق للعادة الّذي صار به العربُ اُمّة فاتحة مُبدعة ولم يكن لجزيرة العرب شأنٌ في القرون الاُولى مِنَ الميلاد، حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ») .
أجل إنَ هذه القبائل العربية الجاهلية المختلفة المتناحرة لم تكن تعيش أية حضارة، ولم تمتلك اية تعاليم وقوانين، وأنظمة وآداب قبل مجيء الإسلام، لقد كانت محرومة من جميع المقومات الإجتماعية الّتي توجبُ التقدم والرقي، ولهذا لم يكن من المتوقع ابداً ان تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة، ولا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية الضيقة إلى عالم الإنسانية الواسع، واُفق الحضارة الرحيب بمثل هذه السُرعة الّتي وَصَلت إليه والزمن القصير الّذي انتقلت فيه .
إنَّ مَثَل الشعوب والاُمم البشرية مثل المباني والعمارات تماماً .
فكما أن البناء القوي الراسخ يحتاج إلى موادّ انشائية قوية معدَّة باتقان ومحضّرة باحكام حتّى يستطيع البناء المصنوع من هذه الموادّ، والمؤسس بعناية وهندسة متقَنة من الوقوف في وجه الأعاصير، والأمطار الغزيرة كذلك يحتاج كيانُ كل اُمة رشيدة من الاُمم إلى اُسس وقواعد محكمة (وهي الاُصول والآداب الكاملة، والأخلاق الإنسانية العالية) لتستطيع من البقاء والتقدم .

ولهذا السبب لابد من التأمل في أمر وسرّ هذه الظاهرة العجيبة ولابد أن نتساءل:
كيف تحقق ذلك التطورُ العظيم، وذلك التحول العميق للعرب الجاهلية، ومن اين نشأ؟؟
كيف امكن ان تتحول جماعة متشتتة، متعادية، متناحرة، متباغضة، في مابينها، بعيدة عن النظم الإجتماعية، بمثل هذه السرعة إلى اُمّة متآلفة متاخية متعاونة متسالمة متحابة، وتشكل دولة قوية كياناً سياسياً شامخاً أوجب أن تخضع لها دول العالم وشعوبه، وتطيعها، وتحترم مبادءها واخلاقها وآدابها آنذاك .
حقاً لو كان في مقدور العرب أن يحرزوا ذلك التقدم الهائل بفعل عامل ذاتي فلماذا لم تستطع عربُ اليمن الّذين كانوا يمتلكون شيئاً كبيراً من الثقافة والحضارة، والذين عاشوا الانظمة الملكية سنيناً عديدة، بل وربَّت في احضانها ملوكاً وقادة كباراً، أن تصل إلى مثل هذه النهضة العظيمة الشاملة، وتقيم مثل هذه الحضارة العريضة الخالدة .
لماذا لم تستطع العربُ الغساسنَة الذين كانوا يجاورون بلادَ الشام المتحضرة، ويعيشون تحت ظلّ حضارة «الروم» أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الرشد؟
لماذا لم تستطع عربُ الحيرَة الذينَ كانُوا ـ وإلى الامس القريب ـ يعيشون في ظلّ الامبراطورية الفارسية أن ينالوا مثل هذا الرقي والتقدم؟ وحتّى لووصلوا إلى هذه الدرجة من التقدم وحققوا هذه القفزة فانه لم يكن أمراً يثير العجب لأنهم كانوا يعيشون في أحضان مدنيات كبرى، ويتغذون منها، ولكن الّذي يثير الدهشة، والعجب هو أن تستطيع عرب الحجاز من تحقيق هذه النهضة الباهرة، ويرثوا الحضارة الإسلامية العظمى وهم الذين كانوا يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحضارة الذاتية، ولم يكن لهم عهدٌ بأيَّ تاريخ حضارىّ مشرق، بل كانُوا كما عرفت يرزحون تحت أغلال الوَهْم والتخَيُّل، ويسيرون في ظلمات الخرافات والأساطير . "

و يقول الدكتور ابراهيم عوض حفظه الله :
"و لست اجد رايا اقرب الى منطق العقل و اكثر تلاؤما مع وقائع التاريخ مما قاله د. شوقى ضيف من ان المجتمع المكى كان مجتمعا قبليا " فهو لا يعدو اتحاد عشائر ارتبط بعضها ببعض فى حلف لغرض سدانة الكعبة من جهة و القيام على تجارة القوافل من جهة اخرى , و لا سلطان لعشيرة على عشيرة , بل كل عشيرة تتمتع بالحرية التامة و لا طاعة عليها لاحد .. و وجود ملأ فيها او مجلس شيوخ لا ينقض هذه الحقيقة , اذ لم يكن عمله يعدو عمل مجلس القبائل " اليسار الاسلامى و تطاولاته /151


*و يقول الدكتور ابراهيم عوض :
"لننظر فيما كان سائدا فى بلاد العرب عند ظهور الإسلام من قِيَمٍ وأوضاعٍ ونقارن بينه وبين ما جاء به الرسول الكريم لنرى أهذا الذى جاء به هو من نتاج تلك البيئة أم لا . وبذلك نحسم هذه المسألة بدلا من الاستمرار فى الشقشقة بالكلام الذى يمكن أن يطول فيه الجدل إلى ما لا نهاية :
وأول شىء نود أن نقف إزاءه هو العقيدة ، فما الذى أتى به الرسول فى هذا المضمار ؟ لقد كان العرب بوجه عام قوما وثنيين ، لكل قبيلة أو عدة قبائل صنمها الذى تعبده وتتعصب له ولا تعرف شيئا عن التوحيد ، لكن الإسلام كانت له هنا كلمة أخرى ، إذ دعا إلى الوحدانية المطلقة التى لا تشوبها شائبة ، فلا أوثان ولا ثنوية ولا تثليث ولا بنوة لله ، ولا اقتصار لربوبيته تعالى على أمة معينة يكون هو ربها من دون باقى الأمم كما هو الحال فى اليهودية حيث يُنْظَر إليه سبحانه على أنه إله بنى إسرائيل فحسب ، فلا يعرف سواهم ولا يقيم وزنا فى رحمته ولا فى تشريعاته لغيرهم مهما انحط اليهود وكفروا ، ومهما آمن غيرهم وعدل وأحسن واستقام . فالإله فى الإسلام هو رب العالمين جميعا لا لقبيلة أو أمة بعينها ، وهو ليس منحصرا فى مكان دون مكان ، وبابه مفتوح دائما للجميع ، ورحمته وسعت كل شىء، وهى سابقة أبدا غضبه ، والحسنة عنده بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها فحسب ، هذا إن لم يمحها محوا ويسترها على صاحبها كأنه لم يرتكب شيئا . والعبرة عنده بحسن النية والإخلاص وبذل الوسع ، وهى أمور فى متناول كل إنسان ، فلا قرابين ولا مُحْرَقات ولا إيمان بأشياء لا تدخل العقل بل تُعْنِت الضمير وتغرق الإنسان فى حيرة وبلبلة وتدفعه لمدابرة المنطق . فأين البدوية والتخلف هنا ، وما جاء به الإسلام يتفوق تمام التفوق على كل ما كان معروفا آنذاك وحتى الآن من عقائد وأديان سواء على مستوى الفكر أو الشعور أو الضمير ؟ ليس هذا فحسب ، بل إنه يترك الإنسان رغم ذلك لاختياره ، فإن شاء آمن ، وإن شاء كفر ، وحتى لو لم يؤمن فليس العقاب الأخروى بواقع عليه ضربة لازب، إذ إن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ ، وما دام الحق قد عُمّىَ عليه ولم يبزغ له نوره رغم بذله الجهد وإخلاصه فى رغبة الوصول إليه فإن رحمة الله قريب من عباده المجتهدين المخلصين . كذلك فالعقاب الأخروى لم يكن معروفا عند العرب ، اللهم إلا نفرا قليلا لا تأثير له فى حياتهم .أما فى الإسلام فهناك حساب وثواب وعقاب وجنة ونار ، والإنسان ليس كمًّا مهملا فى الكون يأتى إلى الدنيا ويموت ثم ينتهى أمره عند هذا الحد كما تنتهى الحيوانات العجماء.

وفى المجتمعات البدوية نجد أن ولاء الفرد إنما يكون دائما لقبيلته ، كما أن مفهوم الخير والشر مفهوم قبلى ، فالشر الذى يوقعه الإنسان بواحد من غير قبيلته لا يُعَدّ شرا ، وعلى أبناء القبيلة أن يهبوا لنصرة أى منهم ظالما كان أو مظلوما . كذلك كان التفاخر بالأنساب القبلية بينهم جامحا أشد الجموح ، وكانت المنافرات جزءا من نسيجهم القِيمِىّ والاجتماعى لا يَرَوْن الدنيا إلا من خلاله ، فكأن القبيلة هى كل شىء ولا وجود لأى شىء آخر وراء حدودها . ثم لما بزغت شمس الإسلام كانت هذه المفاهيم والقيم الغبية الضيقة من أول ما انهال عليه بمعول هدمه ، إذ نادى بأعلى صوته أن ليس لقرشى أى فضل على غير القرشى ولا للعربى على العجمى ، واسِمًا الدعوة إلى العصبيات القبلية بأنها منتنة ، ومُحِلاََّ أُخُوّة الإسلام العالمية محل الأخوة القبلية ، ورافضا أن بعتدى المسلم على غير المسلم دون وجه حق لأنهما إن كانا مختلفين فى الدين فإن رابطة الإنسانية تجمع بينهما ، علاوة على الروابط الاجتماعية التى ينبغى عليه أيضا مراعاتها فى التعامل معه بالمودة والحسنى ما دام لم يؤذه أويهدده ، وموجبا كذلك عليه أن يكف أخاه عن الظلم إذا هم به أو شرع فيه ، مفهما إياه أن هذا هو المعنى الجديد لنصرة الظالم التى كانت العقلية القبلية تفهمها على نحو مخالف تماما.لقد انتزع الإسلامُ الإنسانَ العربىَّ من تلك الدائرة الضيقة إلى آفاق أرحب وأسمق وأهدى سبيلا . لقد نقله من القبلية إلى الإنسانية والعالمية فى خطوة واحدة سابحا بكل قوة ونبل وجسارة عكس التيار الذى كان سائدا فى بلاد العرب أوانذاك ..


ثم لقد كان العرب ينتفضون إلى الحرب لأتفه سبب مدمرين أنفسهم فى صراعات عبثية فى أكثر الأحوال ، فجعل الإسلام لحياتهم معنى وربطهم بالسماء وبقيم البناء والتقدم والحضارة حتى لقد أصبحوا بناة إمبراطورية فى غضون سنوات قلائل ، إمبراطورية احتلت مكان الصدارة العالمية لقرون طوال ،على حين كانت أوربا أثناءها تعيش عيشة همجية فى كل مناحى الحياة تقريبا ، أوربا التى تصدّع أدمغتنا الآن هى وأذنابها من ببغاواتنا باتهام الإسلام بالبداوة والتخلف ! ..
وكانت عادة الأخذ بالثأر فاشية بين العرب فُشُوًّا فظيعا فوقف الإسلام فى وجهها ودانها وأقام بدلا من هذه الفوضى نظاما تشريعيا يأخذ فيه أولياء القتيل حقهم عن طريق الدولة لا بأيديهم مُنْشِئًا بذلك دولة المؤسسات .كما كان العرب مشغوفين بالخمر ، يتغنى بها شعراؤهم ويَرَوْن فيها إحدى المفاخر العظيمة ، فماذا فعل الإسلام هنا ؟ لقد جاء بتحريمها تحريما قاطعا لا هوادة فيه ، ونجح فى هذا السبيل نجاحا لم ينجحه أى دين أو تشريع آخر فى القديم أو الحديث . وبالمثل كان العرب يعتقدون فى العرافين والكهان والسحرة ويعملون لهم ألف حساب ، فوجّه الإسلام إلى هذه المعتقدات المتخلفة أيضا ضربة مُصْمِية ! وكان كثير منهم يبغضون خِلْفة البنات ، وبعضهم كان يئد بنته الرضيعة تخلصا من شبح الفقر والعار كما ذكر القرآن الكريم ، فوبّخهم الإسلام على هذا السلوك الوحشى وندّد بمرتكبيه وتوعدهم بأفظع ألوان العذاب فى جهنم يوم تُسْأَل المسكينة : بأى ذنب قُتِلَت ؟ وكان توفيقه هنا أيضا توفيقا هائلا . كما كان البدو ينظرون إلى المرأة نظرة دونية لأنها لا تشارك فى الحروب ، ومن ثم لم يكن لها نصيب فى الميراث ، لكن الإسلام لم يرض هذا الوضع وجعل لها حقا فى التركة كما للرجل ، وزاد فأوصى بمعاملتها معاملة كريمة تراعى وضعها وظروفها ، ومن بين ما قاله الرسول العظيم فى هذا الصدد أنه لا يكرمها إلا كريم . حتى قيمة الكرم التى كان العرب يفاخرون بها أشد المفاخرة كان للإسلام فيها نظرة أخرى ، إذ ربطها بالنية وابتغاء وجه الله لا ابتغاء السمعة والرياء، وهو أمر لم يكن العربى يتصوره أو يدور له ببال على الإطلاق . ..

وعندنا كذلك ميدان العلم الذى لم يكن للعرب فيه باع أىّ باع ، إذ كانت معارفهم لا تزيد على كونها شذرات بدائية متفرقة لا تقدم ولا تؤخر ، بل كانت الأمية أيضا فاشية فيهم إلى حد رهيب ، وكان الورق يكاد يكون معدوما عندهم ، وكان النبى نفسه أميا ، ورغم هذا نجد القرآن والسنة النبوية يوليان العلم وطلبه والمساعدة عليه والاستزادة منه ورقىّ الدرجات المتتالية فيه اهتماما عظيما ليس له سابقة فى تاريخ الأديان والحضارات: فالعالِم أفضل من العابد مثلما يَفْضُل القمرُ الكواكبَ فى ليلة الرابع عشر ، والرسول ذاته لم يؤمَر فى القرآن بالاستزادة من شىء إلا من العلم . بل إن العلم ليس حقا للمسلم فقط ، بل هو واجب وفريضة يأثم إن لم يقم بها . كما أن العلماء ورثة الأنبياء ، فضلا عن أن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ ، وهو ما ليس له ضريب فى أى دين أو فلسفة أو مذهب على مدار التاريخ ، وهذا من شأنه أن بفجر الطاقات الفكرية والابتكارية عند الفرد والأمة على السواء. وكانت النتيجة هى هذه الأعداد الرهيبة من العلماء المسلمين فى جميع ميادين المعرفة . وإن من له أى اتصال بالتراث الفكرى عند أمتنا ليذهل من الأمداء المتناوحة التى كان العقل الإسلامى يصول فيها ويجول بكل جسارة ونشوة . وقد كان من ثمرة ذلك أيضا أن استطاع ذلك العقل أن يبلور ويقنن المنهج الشكّىّ والمنهج العلمى التجريبى اللذين نقلهما الأوربيون أيام نهضتهم فكانا بمثابة المفتاح الذى يمكن الدخول به ، وبه وحده ، إلى مخبإ كنوز على بابا ، إذ لولا هذان المنهجان اللذان وقعت عليهما أوربا غنيمة باردة جاهزة ما استطاعت أن تبلغ شيئا مما بلغته فى مضمار المعرفة والاكتشافات والاختراعات العلمية ..
ولقد علّم النبى أتباعه كثيرا من قواعد السلوك والذوق الراقى ، سواء على المستوى الشخصى أو الاجتماعى أو الإنسانى بعد أن كانوا لا يعرفون شيئا فى هذا الصدد تقريبا : لقد عرّفهم مثلا أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة ، وأن قضاء الحاجة فى ظل الأشجار أو فى الماء الراكد تصرف آثم ، وأن الرأفة بالحيوان مما يقرّب العبد من ربه ويُجْزَى عليه خير الجزاء ، وأنه لا يليق بالمسلم أن يترك أسنانه دون تسويك أو شعره دون تمشيط أو ملابسه دون عناية وتنظيف ، وأن عليه الاحتراز من أن يؤذى الآخرين بشىء من هذا . ولقد بلغ الأمر فى هذا المجال أن جعل الإسلامُ النظافةَ ركنا أصيلا من أركان الإيمان مما لا نعرف له مثيلا فى غيره من الديانات . كما نبّه معتنقيه إلى أهمية احترام خصوصية الآخرين فلا يدخلون بيوتا غير بيوتهم قبل أن يستأذنوا أصحابها ويؤذَن لهم ، وأوجب على الخدم والأطفال أيضا ألا يقتحموا غرف نوم الآباء إلا بعد الاستئذان ...إلخ ... "



لقد تحول المجتمع او اللامجتمع القبلى فى طفرة الى الايمان بالمجتمع العالمى
و للشهيد سيد قطب رحمه الله كلام قيم فى هذه النقطة نطرحه مع ملاحظة ان المجتمع الاسلامى انما يقوم بالدعوة و الهداية لا بالسيف,فلا اكراه فى الدين و سنتناول مسالة الجهاد فيما ياتى باذن الله
يقول رحمه الله :" من العصبية القبلية , بل عصبية العشيرة , بل عصبية البيت , التى كانت تسود الجزيرة العربية . و من عصبية البلد و عصبية الوطن , و عصبية اللون , و عصبية الجنس , التى كانت تسود وجه الارض كله
من هذه العصبيات الصغيرة التى لم تكن البشرية تتصور غيرها فى ذلك الزمان
جاء الاسلام ليقول للناس : ان هناك انسانية واحدة , ترجع الى اصل واحد , و تتجه الى اله واحد
و ان اختلاف الاجناس و الالوان , و اختلاف الرقعة و المكان , و اختلاف العشائر و الاباء . كل اولئك لم يكن ليتفرق الناس و يختصموا ,و يتحوصلوا و ينعزلوا
و لكن ليتعارفوا و يتالفوا , و تتوزع بينهم وظائف الخلافة فى الارض , و يرجعوا بعد ذلك الى الله الذى ذراهم فى الارض و استخلفهم فيها , و قال لهم الله سبحانه فى القران الكريم :
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13 ( الحجرات )
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا 1 ( النساء )
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ 22 ( الروم )
و لم تكن هذه مبادىء نظرية , و لكنها كانت اوضاعا عملية ...
جاء الاسلام فوجد الناس يتجمعون على آصرة النسب , او يتجمعون على اصرة الجنس , او يتجمعون على اصرة الارض , او يتجمعون على اصرة المصالح و المنافع القريبة
و كلها عصبيات لا علاقة لها بجوهر الانسان
انما هى اعراض طارئة على جوهر الانسان الكريم
و قال الاسلام كلمته الحاسمة فى هذا الامر الخطير , الذى يحدد علاقات الناس بعضهم ببعض تحديدا اخيرا
قال : انه لا لون و لا جنس , و لا نسب و لا ارض , و لا مصالح و لا منافع , هى التى تجمع بين الناس او تفرق . انما هى العقيدة , هى علاقتهم بربهم التى تحدد علاقتهم بعضهم ببعض
فعلاقتهم بالله هى التى منحتهم انسانيتهم
و من ثم فهى التى تقرر مصائرهم فى الدنيا و الاخرة سواء
ان النفخة التى جاءتهم من روح الله هى التى جعلت من الانسان انسانا , و هى التى كرمت هذا الانسان و سخرت له ما فى السموات و ما فى الارض
فعلى اساس هذه الحقيقة يتجمع الناس او يفترقون اذن , لا على اساس اى عرض اخر طارىء على حقيقة الانسان
ان اصرة التجمع هى العقيدة , لان العقيدة هى اكرم خصائص الروح الانسانى ..
ان الانسانية يجب ان تتجمع على اكرم خصائصها , لا على مثل ما تتجمع عليه البهائم من الكلأ و المرعى , او من الحد و السياج !..
الامة هى المجموعة من الناس تربط بينها اصرة العقيدة .. الاصرة فكرة تعمر القلب و العقل , و تصور يفسر الوجود و الحياة , و يرتبط بالله , الذى من نفخة روحه صار الانسان انسانا , و افترق عن البهائم و الوحوش , و افترق تجمعه عن تجمعها , و امتاز بالتكريم عن الله
و قال الله للمؤمنين به فى كل ارض , و فى كل جيل ,و من كل جنس و لون , و من كل فريق و قبيل , على مدار القرون ..
"إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ 92 ( الانبياء )
و فاضل بين الناس بعضهم و بعض على اساس العقيدة , مهما تكن روابط النسب بينهم , و وشائج الجنس و الارض ..
و كان غريبا على البشرية كلها فى ذلك الزمان , ان يتجمع الناس على عقيدة , و الا يتجمعوا على ارض , و لا على جنس , و لا على لون , و لا على تجارة , و لا على اى عرض من الاعراض الزهيدة
كانت هذه المذهبية بتعبير العصر الحاضر مسالة غريبة جدا يوم جاء بها الاسلام ..
و لكن الاسلام حين جمع الناس على اصرة العقيدة , و جعلها هى قاعدة التجمع او قاعدة التفرقة لم يجعل الاكراه على العقيدة قاعدة الحركة فيه , و لا قاعدة التعامل , و لم يجعل شريعة الغاب و الناب هى التى تحكم علاقاته بالاخرين الذين لا يعتنقون عقيدته , و لا يتجمعون على اصرته .."

هذا الدين / 79-91 بتصرف

2-المجتمع الوثني طفر رأساً إلى دين التوحيد الخالص، الذي صحّح كلّ أديان التوحيد الاُخرى، وأزال عنها ماعلق بها من زيف وأساطير.

"من المعلوم انه اصبحت تلك المنطقة مسرحاً للوثنية ولعبادة الاشياء المختلفة مع الايام فقد كانت الطبقة المثقفة من العرب تعبد الكواكب والقمر، فهذا هو المؤرخ العربي الشهير الكلبي الّذي توفى عام 206 هجرية يكتب في هذا الصدد قائلا كان «بنومليح» من خزاعة يعبدون الجن وكانت «حمير» تعبد الشمس، و «كنانة» تعبد القمر، و «تميم» الدبران، و «لخم» و «جذام» المشتري، و«طي» سُهيلا، و «قيس» الشِعرى، و «أسد» عطارداً .
أما الدهماء والذين كانوا يشكلون اغلبية سكان الجزيرة فقد كانوا يعبدون ـ مضافاً إلى الصنم الخاص بالقبيلة أو العائلة ـ ثلا ثمائة وستين صنماً، وكانوا ينسبون أحداث كل يوم من أيام السنة إلى واحد منها .
وقد دخَلَتْ عبادةُ الأصنام والأوثان في مكة ..على يد «عمر بن لحي»، ولكنها لم تكن في بداية أمرها بتلك الصورة الّتي وصلت إليها في ما بعد فقد كانوا يعتبرونها في بداية الامر شفعاء إلى اللّه ووسطاء بينه وبينهم، ولكنهم تجاوزوا هذا الحد في ما بعد حتّى صاروا يعتقدون شيئاً فشيئاً بانها اصحاب قدرة ذاتية مستقلة، وأنها بالتالي آلهة وأرباب .
وكانت الاصنام المنصوبة حول الكعبة تحظى باحترام جميع الطوائف العربية، ولكن الاصنام الخاصة بالقبائل فقد كانت موضع احترام جماعة خاصة فقط، ولأجل أن تبقى حرمة هذه الأصنام والأوثان الخاصة محفوظة لا يمسها أحد بسوء كانوا ينشؤون لها أماكن وبيوت خاصة، وكانت سدانة هذه البيوت والمعابد تنتقل من جيل إلى آخر بالوراثة .
أما الآصنام العائلية فقد كانت العوائل تقتنيها للعبادة كل يوم وليلة، فاذا أراد احدهم السفر كان اخر ما يصنعه في منزله هو ان يتمسح به أيضاً .
وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، واتخذهُ رَبّاً وجعَلَ ثلاثة أثافىّ لقدْره، وإذا ارتحل تركه .
وكان من شَغَفَ أهلِ مكة وَحُبّهم للكعبة والحرم أنه كان لا يسافر منهم أحدٌ إلا حَمَل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، وحباً له فحيثما حلّوا نصبوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة صبابة بها، ويمكن أن تكون هذه هي «الأنصاب» الّتي فُسرت بالاحجار العادية غير المنحوتة وتقابلها الأوثان، وهي الاحجار المنحوتة على هيئة خاصة، وأما «الأصنام» فهي المعمولة من خَشَب أو ذهب أوفضة على صورة انسان .
لقد بلغ خضوعُ العرب أمام الاصنام والأوثان حداً عجيباً جداً، فقد كانوا يعتقدون بأنهم يستطيعون كسبَ رضاها بتقديم القرابين اليها، وكانوا بعد نحر الهدايا يلطخون وجوه الاصنام ورؤوسها بدماء تلك الهدايا، وكانوا يستشيرونها في مهام امورهم، وجلائل شؤونهم، فاذا ارادوا الوقوف على مستقبل الأمر الّذي تصدّوْا له ومعرفة عاقبته أخيرٌ هو أم شرٌ استقسمَ لهم أمين القداح بقدحي الأمر والنهي) وهيَ قطع كُتِبَ على بَعضها (إفْعَلْ) وعلى بعضها الآخر (لا تَفْعَلْ) فيمدُّ أمين القداح يده ويجيل القداح ويخرج واحداً فانْ طَلَع الآمر فعل أو الناهي ترك .
وخلاصة القول، ان الوثنيّة كانت العقيدة الرائجة في الجزيرة العربية، وقد تفشَّتْ فيهم في مظاهرَ متنوعة ومتعددة، وكانت الكعبة المعظمة ـ في الحقيقة ـ محطَّ أصنام العرب الجاهلية وآلهتهم المنحوتة، فقد كان لكل قبيلة في هذا البيت صنم، وبلغ عدد الاصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (360) صنماً في مختلف الاشكال والهيئات والصور، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة، وقصّة ابراهيم .
وكان من جملة تلك الأصنام: «اللات» و «العُزّى» و «مناة» الّتي كانت تعتبرها قريش بنات اللّه ويختص عبادتها بقريش .
وكانت «اللات» تعتبر اُمُّ الالهة، وكان موضعها بالقرب من «الطائف» وكانت من الحجر الابيض، و أما «مناة» فكانت في عقيدتهم إلاهة المصير وربَّة الموت والاجل وكان موضعها بين «مكة» و «المدينة».
ولقد اصطحب «ابوسفيان» معه يوم «اُحد»: «اللات» و «العزّى».
ويروى انه مرض ذات يوم «أبو أُحيحة» وهو رجل من بني اُمية، مرضه الّذي مات فيه، فدخل عليه ابولهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا با احيحة؟ أمن الموت تبكي ولابد منه؟ قال: لاولكنى اخاف ان لا تُعبَد العزى بعدي! قال ابولهب: واللّه ما عُبدَت حياتك (اي لا جلك) ولا تُترك عبادتُها بعدك لموتك!! فقال أبو اُحيحة: الآن علمتُ ان لي خليفة(
ولم تكن هذه هي كل الأَصنام الّتي كانت تعظِّمها وتعبُدُها العربُ بل كانت لقريش اصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان اعظمها «هُبَل»، كما انه لم يكن لكل قبيلة صنم خاص فحسب بل كانت كل عائلة تعبد صنماً خاصاً بها

مضافاً إلى صنم القبيلة وكانت المعبودات تتراوح بين الكواكب، والشمس، والقمر، والحجر، والخشب، والتراب، والتمر، والتماثيل المنحوتة المختلفة في الشكل، والهيكل، والاسم، المنصوبة في الكعبة أو في سائر المعابد .
لقد كانت الاصنام جميعها أو أغلبها معظَّمة عند العرب، يتقربون عندها بالذبائح ويقرّبون لها القرابين، وجرت عادة بعض القبائل انذاك أن تختار من بين أفرادها كل سنة شخصاً في مراسيم خاصة ثم تذبحه عند أقدام اصنامها، وتقبر جسده على مقربة من المذبح .
هذا العرض المختصر يكشف لنا كيف أن ارض الجزيرة العربية برمتها كانت قد اصبحت مسرحاً للاصنام ومستودعاً ضخماً للاوثان، وكيف تحولت هذه البقعة من العالم ببيوتها وازقتها وصحاريها وحتّى بيت اللّه المحرم كانت قد تحولت إلى مخزن للنُصُب المؤلَّهة، والتماثيل المعبودة، ويتجلى هذا الأمر من قول شاعرهم الّذي اسلم وراح يستنكر ما كان عليه من عبادة الاصنام المتعددة الخارجة عن الاحصاء والعدّ، إذ قال:
أَرَبّا واحِداً أمْ ألف رَب * أدينُ إذا تقسَّمَتِ الاُمورُ
عَزلتُ اللاتَ والعزى جميعاً * كذلك يَفعَلُ الجَلِدُ الصَبُور
فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها * ولا صَنَميْ بني عمرو أزُورُ
ولا غنماً أزورُ وكان ربّاً * لنا في الدهر إذ حلمي يسيرُ
ولكن أعبدُ الرحمان رَبِّي * لِيَغْفِرَ ذَنبِىّ الربُّ الغفُورُ(1)
وقد حدثت بسبب الاختلاف والتعددية في عبادة الاصنام والاوثان المؤلَّهة السخيفة الباطلة، تناقضاتٌ، وصراعاتٌ، وحروب ومناحرات، قد جرّت بالتالي ويلات ومآس وخسائر مادية ومعنوية كبرى على تلك الجماعة المتوحشة، الضالة ."

صورة للحالة الدينية للعرب قبل الاسلام :
يقول الدكتور ابراهيم عوض :
"الذى يميز الاسلام عن غيره من الاديان هو الوحدانية المطلقة بكل معانيها .. و هذه الوحدانية المطلقة تخالف العقائد التى كانت موجودة ايام ظهور الاسلام .. فالجاهليون كانوا يرفضون تماما هذه الوحدانية و يستغربون بشدة ان يدعو محمد الى اله واحد بدلا من الهة متعددة :" أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ 5 وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ 6 مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ 7 (ص)

و يتضح من هذه الاية الاخيرة ان مفهوم الوحدانية كان جديدا عليهم , فهاهم اولاء يحتجون لتعدد الالهة بانهم لم يسمعوا بالوحدانية
و سواء اكان المفصود ب "الملة الاخرة " هنا عقيدة النصارى فى الالهة ام عقائد الجاهليينت فانه يتبين من هذا النص ان " الشرك بالله " كان هو العقيدة المقررة التى درؤجوا عليها منذ زمن طويل .. حتى ان الوحدانية على بساطتها و منطقيتها قد صدمتهم صدمة عنيفة و استفزتهم الى محاربة الرسول عليه السلام و دعوته بكل طاقتهم .. و قد يدلك على مبلغ العناء الرهيب الذى قاساه الرسول فى دعوة قومه الى الله الواحد كثرة الايات التى تناقشهم فى مفاهيمهم الشركية , ففى سورة النجم مثلا و هى من السور المبكرة , نجده سبحانه و تعالى يعيب عليهم سخف منطقهم الذى يسول لهم ان ينسبوا اليه ثلاثة من اصنامهم هى اللات و العزى و مناة على انها بناته
يقول جل شانه :" أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى 19 وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى 20 أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى 21 تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى 22 إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى 23 أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى 24 فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى 25 وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى 26 إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى 27
و لم يكونون يدعون اى شبهة دون ان يعضوا عليها بالنواجذ فى جدالهم العقيم الذى لم يكن ينفع معه منطق مستقيم
انظر اليهم و قد جاء ذكر عيسى بن مريم عليه السلام امامهم فاذا هم يصيحون "أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ"
و يرد القران على هذا المنطق السخيف مبينا بواعثهم فى هذا الصياح :" مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ 58 ( الزخرف )
و مثل هذا المنطق الملتوى لا تفلح معه عادة اية حجة , و عبثا يبين لهم الرسول بناءا على امر الله انه "إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ" اما عيسى فما"هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ" الزخرف : 59
و لكن كل هذا لم يكن بالنسبة الى عامة جمهورهم الا صيحات فى واد , فهاهو ذا القران فى موضع اخر من السورة ذاتها يعود الى مناقشة هذا المنطق التافه مرة اخرى :" وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ 15 أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ 16 وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ 17 أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ 18 وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ 19
و وجه التفاهة فى هذا التفكير انهم يجعلون ذرية الله اناثا فى الوقت الذى يضيقون هم فيه اشد الضيق و تسود وجوههم خزيا و عارا اذا ولدت للواحد منهم انثى , و لو جروا فى سخفهم على منطق مستقيم لرحبوا اذن بانجاب الاناث بل لافتخروا بهن و استكثروا منهن
و يزداد المرء عجبا حين يرى هؤلاء الذين يكرهون الاناث ( و بعضهم كان يدسهن فى التراب و هن احياء ) يعبدونهم معتقدين انهن يقربن الى الله زلفى .. و مهما يشرح لهم القران ان كل ما فى الكون مخلوق لله و عبد له و يستطيع الله لو اراد ان يصطفى من مخلوقاته ما يشاء فانهم لا يقتنعون .. انهم يكرهون الوحدانية و ينفرون منها اشد النفور :" وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ" الزمر : 45..
من هنا نفهم لماذا يلح القران على مفهوم الوحدانية , و ندرك كذلك مدى الجهد الفادح الذى كان رسولنا الكريم عليه افضل الصلاة و ازكى السلام يبذله
فهاهو سبحانه و تعالى يقول فى سورة الفرقان :" لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا 2
كما يقول فى سورة المؤمنون :" مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ 91
و على ما فى هذه الحجة من بساطة مشرقة تقتحم العقول السليمة اقتحاما نجدهم قد اغلقوا قلوبهم على ما فيها من ظلمات , حتى ان القران ليبدىء من جديد و يعيد فى هذه القضية كأنه لم يقل من قبل شيئا و كأنهم لم يسمعوا و لم يفكروا :" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا"
و هى نفس الحجة السابقة و ان صيغت فى عبارة مختلفة شيئا ما
و هاهم اولاء يعودون الى ترديد نفس مفاهيمهم المهلهلة :" وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ 26 لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ 27 يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ 28 وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ 29 ( الانبياء )

مما دعا القران الى ان يكرر انذاره لهم حتى يعطى من نفسه العذر قبل ان يعاجلهم بعقوبة الدنيا او يرديهم فى قرارة الجحيم :" وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا 4 مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا 5 الكهف
و الى ان يعيد تساؤله السابق المفحم :" أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا 40 الاسراء
كما يامره عليه السلام ان يقول :" الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا 111 الاسراء
و ان يكبره سبحانه تكبيرا , و لم يكتف المشركون بذلك بل اشركوا به سبحانه الجن :" وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ" الانعام : 100
و يحاول القران مرة اخرى ان يجعلهم يفكرون فى تهافت ما يستمسكون به من عقائد باطلة فيقول لهم انه " سبحانه هو الغنى " و يسالهم :" بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ"
كما ان فيه اية تتعرض لعبادة الشمس و القمر و هى :" وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ 37 فصلت
فهذه هى عقيدة الجاهلية فى الالوهية ..
فاما اليهود فان المقيمين منهم بيثرب كانوا يزعمون ان عزيرا ابن الله , مثلما يقول النصارى ان المسيح هو ابن الله , و قد رد القران عليهم و بين ان هذا الاعتقاد هو اعتقاد شركى قديم :" وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 30 ( التوبة )
و العجيب ان بعض المستشرقين يعدون اتهام القران لليهود بانهم يقولون " عزير ابن الله " سرا غامضا يتعصى على الحل لانه ليس فى اسفار العهد القديم ما يشير الى هذا , غافلين عن نقطتين هامتين : الاولى ان محمدا عليه الصلاة و السلام لا يكذب ابدا و قد فرغنا من هذه القضية . ثم انه لا يوجد اى داع يحمله على اتهام اليهود بهذه التهمة الباطلة .
و الثانية انه لو كان محمد عليه السلام قد تقول عليهم ذلك لردوا عليه و لسجل القران حينئذ هذا الرد او لاتت به السنة المطهرة , و هو ما لم يحصل فدل هذا على ان هذا الاتهام صحيح "
مصدر القران /217-225





3- المجتمع الفارغ تماماً تحوّل إلى مجتمع ممتلئ تماماً
فالمجتمع الجاهلى كان مجتمعا فارغا , و هذا ما يفسر لك قلة الاخبار عن العصر الجاهلى مقارنة بغزارتها عن ما بعد الدعوة المحمدية , و قد تحول هذا المجتمع الفارغ على يد ابى الزهراء إلى مجتمع ممتلئ تماماً، بل إلى مجتمع قائد يشكّل الطليعة لحضارة أنارت الدنيا كلّها.
وجعل من ذلك المجتمع الفارغ مجتمعاً ممتلئاً، له نظامه في الحكم، وشريعته في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويقضي على الربا والاحتكار والاستغلال، ويعيد توزيع الثروة على أساس أن لا تكون دولة بين الأغنياء، ويعلن مبادئ التكافل الاجتماعي والضمان الاجتماعي التي لم تنادِ بها التجربة الاجتماعية البشرية إلاّ بعد ذلك بمئات السنين.

فابنُ الصحراء التي لم تكن تفكّر إلاّ في همومها الصغيرة وسدّ جوعتها والتفاخر بين أبنائها ضمن تقسيمها العشائري، ظهر ليوحدها فى سبيل رسالة سامية و يقودها إلى حمل أكبر الهموم


يقول الاستاذ جمال البنا :
"لا يمكن أن نقدر الثورية القرآنية إلا عندما نأخذ صورة عن المجتمع الجاهلى والأصول التى كان يقوم عليها وأودى بها الإسلام.
كانت الجاهلية تقوم على :
أ . ديـــن.
ب . اقتـصاد.
ج . تقاليد وأوضاع فرضها تفاعل الدين بالاقتصاد بعد أن تفاعل هذان مع مناخ الجزيرة وتأثير الصحراء العميق وانفتاحها أو انغلاقها …
وكانت الوثنية هى الديانة الغالبة، وكان لقريش أصنام فى جوف الكعبة، كان أعظمها هبل (وهو الذى فخر به أبو سفيان يوم أحد) وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى. أدركته قريش وهو كذلك فجعلوا له يدا من ذهب، ومن الكتَّاب من يظن أن هبل تحريف "لأبولو" الإله اليونانى المعروف.
واتخذ أهل كل دار صنما يعبده وإذا أراد السفر تمسح به حتى يكون ذلك آخر ما يفعله قبيل سفره، وإذا قدم تمسح به قبل أن يدخل على أهله .
وفى بعض الحالات كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا‍ وجعل ثلاثة أثافى لقدره وإذا أرتحل تركه فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك !
وإذا لم يجد حجراً جمع حثيه من التراب وحلب عليها شاته ثم طاف بها !
وكان للأصنام الكبرى مثل هبل والعزى كهنة يتحدثون باسمها، كما كانوا يضعون تقاليد تتعلق بنياقهم أشار إليها القرآن ﴿ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْر لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾
﴿ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾
وكذلك ما ادعوه من بحيرة وسائبة وحام ..
وواضح تماماً أن الدين لم يكن من القوى المؤثرة فى حياة المجتمع الجاهلى. فقد كان استكمالاً سقيما وضحلاً لجانب من جوانب المشاعر النفسية يتماثل مع الحالة الفكرية لهؤلاء التجار أو الرعاة أو الذين يعيشون على الغارات، ويأخذ شكل بعض الطقوس، وإذا كان للدين من قوة، فإنها تعود إلى العصبية، وأنه إرث الأباء والأجداد، والتمسك بهؤلاء جزء من "مناخ" المجتمع الجاهلى، وكانت جِدَّه الإسلام من أكبر ما دفع العرب لرفضه لأنه كان يقضى بأن يخالف دين الأباء والأجداد وهو ما جعل رجلاً مثل أبى طالب يقف هذا الموقف.
وكان المجتمع الجاهلى يعتمد فى اقتصاده على الرعى الذى كان يقوم به عادة الأطفال والنساء والعبيد، والتجارة التى كانت صلب عمل قريش وأصل ثروتها بحيث تغلغل الوعى التجارى فى نفسية القرشيين وكان على القرآن، لكى يثير اهتمامهم أن يتحدث عن "تجارة" لا تبور، وتختلف التجارة عن الصناعة التى تقوم على التكييف والإضافة، أو عن الزراعة التى تعتمد على العمل والمتابعة فى أنها لا تتطلب شيئا من هذا، ولا تمثل "قيمة مضافة" وإنما هى عملية نقل المنتجات إلى الأسواق لبيعها هناك. بأثمان تزيد أضعافاً عما دفع فيها.. وأهتبالً الفرص، والتحكم فى الأسواق وما إلى هذا كله من دهاء تجارى يستهدف الربح ..
وكان المصدر الثالث من مصادر الاقتصاد هو الغارات على الجيران فعندما تشح السماء، فلا يسقط المطر، ولا يكون هناك مجال لرعى. أو عندما تتعسر عليهم سبل التجارة.. فليس إلا الغارة على الآخرين والاستحواذ على ثرواتهم قسراً وقد تضطرهم الظروف فلا يدخرون أحداً.
وأحيانا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
باستثناء الرعى الذى كان يتيح لمن يرعى التعامل مع الطبيعة، والسير فى الخلاء، وأن حياة الراعى تقضى ما بين الأرض والسموات فضلا عما تتطلبه حرفته من تعامل مع الحيوان يقوم على الحرص عليه وتمكينه من غذائه والخروج به فى الصباح والعودة عند المساء. نقول باستثناء الرعى، فإن الغارات كمصدر اقتصادي لا تتضمن إلا قيم السلب والنهب وأما التجارة فإنها تقوم على الذكاء التجارى وتطبيق دستور التجار كافة "أشتر بأرخص الأسعار وبع بأغلاها" ولا جدال فى أنها تتطلب ذكاء ومهارة وخبرة وحسن تقدير ولكنها كلها فى النهاية تصب فى وازع الربح. وتختلف التجارة فى هذا عن الزراعة – أم الحضارة القديمة أو الصناعة أم الحضارة الحديثة فكل واحدة منهما تغرس فى الإنسان مهارات وملكات تمثل إضافة خلاقة وسلوكاً سلبيا فى حالة الزراعة وإيجابيا فى حالة الصناعة.
وهنا يتفق الاقتصاد الجاهلى مع الدين الجاهلى فى أنه لا يقوم على قيم أو أسس أو مبادئ موضوعية.
وكان المجتمع الجاهلى الذى تأثر بالدين من ناحية، وبالاقتصاد من ناحية أخرى يصطنع عادات ويضم علاقات تفى بالاحتياجات التى تتطلبها حياة البداوة.. أبرزها الولع بشرب الخمر والاستمتاع الحسى بالنساء وتسوية العلاقات بالحرب، التى كانت – كما أشرنا – مورداً من موارد الاقتصاد، ووسيلة لحسم المنازعات بين القبائل المختلفة.
وقد استحوذت الخمر على نفس العربى الجاهلى، لأن مجالسها كانت تملأ فراغ يومه، ولأنها كانت تضرم فى نفسه الحمية، والفخر، والشجاعة، ولهذا قال شاعرهم :
ونشربها فتجعلنا ملوكاً وأسـداً ما ينهنهنا اللـقاء
وقالوا فى رثاء ربيعة بن مكدم :
لا تنفرى يا ناق منه فإنه شريب خمر مسعر لحروب
كما كانت تغذى الشهوات الحسية، وهذه كلها ملاك الفضائل لدى العربى الجاهلى، وتشجع على حسم العلاقات ما بين القبائل بعضها ببعض بالعنف والحرب، وما بين الرجل والأنثى بالاستمتاع الحسى..
وتعد قصائد امرئ القيس ومعلقة طرفة بن العبد تمثيلا دقيقاً لما كان يملأ حياة الشاب العربى النابه فى الجاهلية، وهى تضم العناصر الثلاث التى قام عليها المجتمع الجاهلى وأشرنا إليها آنفا وتضمنتها أبيات طرفة المشهورة :
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك، لم أحفل متى قام عودى
فمنهن سبقى العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف مجنباً
كسيد الغضاء نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
ببهكنة تحت الخباء المعمد
وبصفة عامة فإن الشعر الجاهلى عن المرأة يعبر عن عاطفة حسية، واستمتاع جنسى باستثناء الحالات القليلة عن الحب العذرى، وهذا هو ما كان يتفق مع المجتمع الجاهلى – مجتمع الحرب أو الشرب مما لم يكن يسمح بمشاركة المرأة، ومن ثم فقد اقتصرت العلاقة ما بين الرجل والمرأة على الصلة الجنسية ولا ينفى هذا أن جانبا من جوانب الحمية، أرتبط بالعرض وأحاط المرأة بصيانة خاصة، ولكن هذا لم ينشأ من سمو المشاعر، ولا من سمو منزلة المرأة، ولكنه كان من مقتضيات الحمية الجاهلية، وقد يدل على هذا أن ثلاثة أنماط من أنماط الزواج الأربعة التى كانت شائعة فى الجاهلية وتحدثت عنها عائشة كانت أقرب إلى الدعارة كزواج الاستبضاع، وهو أن يعتزل الزوج زوجته عند بدء طهرها ويقول لها أرسلى إلى فلان فاستبضعى منه ويعتزلها ولا يمسها حتى يتبين حملها "وإنما يفعل ذلك رغبة فى نجابه الولد !!" بالإضافة إلى نمطين آخرين ينشآن عن العلاقة بالعاهرات، مما ينم على أن حاسة الشرف عند الجاهلى لم تكن بالصورة الشائعة عند الناس .
وكان العامل الذى اكسب القبيلة العربية تماسكها فى الجاهلية هو "العصبية" وهى كلمة تغلغلت عميقاً فى جذور المجتمع العربى، وعنى الإسلام أول ما عنى بالقضاء عليها ونجح فى هذا فترة الخلافة الراشدة، ولكنها عادت مع بنى أمية وتمثلت فى موقعة مرج راهط ثم سارت حتى بلغت الأندلس، وكانت سبب تنازع القبائل العدنية واليمنية وأعتبرها ابن خلدون أساس تماسك الملك وكان من العسير اقتلاعها لأن المجتمع الجاهلى بُنِىّ عليها فهى الانتماء وكانوا يقولون إن العرب تنتمى للأباء والأسلاف بينما الأعاجم تنتمى إلى الأماكن والأوطان، وكان عرف القبيلة هو القانون من يحترمه يظفر بحمايتها ومن ينتهكه يحرم من هذه الحماية، ويعد "مهدور الدم" وعرف القبيلة "ذاتى" لا يعرف الموضوعية وشعاره "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" وأن يغضب ألف سيف عندما يغضب شيخ القبيلة "لا يسألون لم غضب" وعن هذه الذاتية المفرطة نشأت عادة الثأر واكتسبت قداستها "وذاتيتها" بمعنى أن ثأر المقتول لا يطلب عند قاتله فحسب، وإنما يطلب عند "قبيلة" قاتله، ولا يقتصر على القاتل، وإنما يشمل أسرة القاتل كلها وقد نشأت أقسى وأطول الحروب نتيجة لثارات كان يمكن أن تسوى لو ضبط الثار ولم يترك ليشمل القبيلة كلها، وما يعنيه هذا من الحرب كحرب البسوس – لأن كليب أصاب بسهمه ناقة البسوس وهى ضيفة جساس – أخى زوجة كليب جليلة – الذى رأى فى ذلك خفراً لذمته ولجواره. فذهب إلى كليب وقتله وهكذا اشتعلت الحرب أربعين عاماً ما بين قبيلة بكر وتغلب وقضت على زهرة فرسان القبيلتين.
كما اشتعلت الحرب بين عبس وذبيان نتيجة سباق بين داحس، وهو حصان قيس بن زهير العبسى، والغبراء وهى فرس حمل بن بدر الذبيانى، وكاد أن يسبق داحس لولاً أن رجالاً كمنوا له وردوه عن سيره فسبقت الغبراء ونشبت الحرب بين عيس وذبيان حتى كادت تفنى القبيلتين ..
وكان يمكن لهذه الحرب الضروس أن لا تنشب أصلاً، أو كان يمكن أن تحسم بالصلح، لولا غلبة العصبية والغلو فى الثأر ..
وصور جعفر بن أبى طالب مجتمع الجاهلية أمام النجاشى فقال "أيها الملك. كنا قوماً أهل جاهلية. نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوى منا الضعيف .."
على أن هذا لا يعنى تجرد عرب الجاهلية من الفضائل فقد كان فى سجيتهم الكرم والشجاعة والأنفة، ولم يخضع العرب لحكم الملوك ولا لطاعة السلاطين ولم تكن لهم حضارة تقضى على الفطرة التى كانت غالبة عليهم، وقد برزوا فى أحد الفنون الرفيعة وهو الشعر فكان محل فخرهم وكانت القصائد الممتازة تعلق على الكعبة، ومن ثم حملت أسم "المعلقات".
كانت الطينة التى جُبل منها العربى الجاهلى طينة فطرية صلبة، ولكن غشيتها غشاوات الجهل والعصبية فحجبت قوتها وانحرفت بها إلى المسارات الضالة، وكان لابد أن يتخلص المجتمع الجاهلى منها حتى تظهر طبيعتها الحرة.. القوية، وهذا ما قامت به ثجاء القرآن فقضى قضاءً مبرما على الأوضاع الجاهلية. لقد عرفهم على "الله" تعالى وكشف لهم عن عوالم قدرته، ورحمته، وخلقه لهذا الكون العجيب من سماوات وأرضين، وتسييرها كلها بنظام دقيق ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾. وأنه تعالى هو مصدر القيم العظمى من رحمة وعدل ومساواة وحب التى تضمنتها الأسماء الحسنى، وأكد لهم تأكيد اليقين إن هناك بعثاً بعد الموت ونشراً من القبور وحساباً وثواباً وجنة ونار.. يقوم على العدل بميزان لا يغفل مثقال ذرة ...
فأٍين هذه الصورة الرائعة والآفاق الجديدة اللانهاية زماناً ومكاناً من أوثانهم تلك القبيحة الجامدة ؟ لقد كان لابد لهذه الأوثان أن تزول حتى وإن لم يسقطها الرسول واحداً بعد واحد عندما دخل مكة فسقطت الأوثان وأرتفع "لا إله إلا الله"..
أما الغارات التى كانت مصدر رزق عندما يحل القحط فقد قضى عليها الإسلام بما أوجده من نظم للزكاة وللتكامل الاقتصادى .
وكانت قضية العصبية من أصعب القضايا، وقد قضت عليها أخُوَّة الإسلام وإشاعة قيم المساواة الخ.. وندد بها الرسول بصورة تنفر منها النفوس فشبهها بالخرء يدهده الجُعل بأنفه وقال دعوها فإنها مُنتنة .
ولئن كانت عوامل التحول التى سنشير إليها فى الفصل المقبل سمحت بعودتها بدرجات متفاوتة، فما كان فى العهد النبوى والراشدى لأعز عزيز فى العرب أن يقول ما قاله مهلهل "بؤ بشسع نعل كليب " وعندما وطأ رجل من فزاره إزار جبله بن الأبهم ولطمه هذا لطمة أدمت أنفه أراد عمر الاقتصاص منه وارتاع جبله وقال "أتقصه منى وأنا ملك وهذا سوقه ؟" فقال عمر إن الإسلام سوى بينكما ..
وفض الإسلام مجالس الخمر التى كانت سلوة الجاهلية وتسليتها وأحل محلها مجالس للذكر والعلم والعمل الصالح ..
وعمد القرآن إلى الثأر فألزمه جادة العدالة وأن يكون فى شكل "قصاص" مع ترغيب فى العفو فإن لم يكن ففى الدية .
أما المرأة، وأما الرقيق فقد كانا همان من هموم الإسلام ..ووضع نظم الزواج والطلاق بما يحقق فى أرادة القرآن من محبة وسكينة ..
وعندما نزل القرآن خشع بلغاء العرب وشعراء القبائل أمامه فتصدر، وتأخر الشعر ووضع القرآن أساساً ليظهر النثر البعيد عن سجع الكهان، ولتتقدم الكتابة وليستلهم العرب من معانى القرآن ما لم يكن يجدوه فى الشعر الجاهلى الذى كانت مادته الفخر والغزل والاستمتاع الحسى والتعصب القبلي.


أسقطت ثورية القرآن الآلهة المعبودة، وآلهة السلطة، وآلهة المال، وآلهة الشهوات التى طالما استبدت بالناس، وأحلت محلها عبادة الله وحده – الرمز والمثل الأعلى، والخالق الحكيم الرحيم العليم الذى يلهم الخير والعدل والحرية ويوجب المساواة والأخوة بين الناس ويضع أصرهم والأغلال التى كانت عليهم وينقذهم من الظلمات إلى النور.
كانت هذه المعانى هى ثورية القرآن، وعندما تغلغلت فى نفوس المؤمنين الأول فإنهم أقاموا عالماً من الحب والأخوة والمساواة والعمل لما يرضى الله .
إن شعب فرنسا عندما تعرف بعد هذا التاريخ بألف عام على شعارات الحرية، والمساواة التى نادى بها عدد من المفكرين ثار وأسقط الملكية ودمر الباستيل وأقام الجمهورية.
فكيف عندما تأتى هذه المعانى فى أقوى صورة، ويصدع بها القرآن ويدعو إليها الرسول الذى جعل القيادة خدمة ورسالة بعد أن كانت تعاليا وسيطرة...
وعندما حج الرسول حجة الوداع، كان الإسلام قد غرس بذور ثورته وأودى بالأوضاع الجاهلية التى أشرنا إليها.. وأوجد أوضاعاً مختلفة كل الاختلاف"

و الخلاصة هى كما اقر القس يوسف الحداد :

(كانت شخصية محمد بن عبد الله الهاشمى القرشى ، النبى العربى ، مجموعة عبقريات مكنته من تأسيس أمة و دين و دولة من لا شىء .)

فكل هذه الطفرة الشاملة- التى لا مثيل لها فى حركات التغيير الاجتماعى - كان سببها و محورها انسان واحد بدا هذه الدعوة لوحده و اسس و قاد و ربى التيار الجديد لوحده ,هو محمد صلى الله عليه و اله و سلم الذى اسس امة من لا شىء

وكلّ هذه التحوّلات الكبيرة تمّت في مدّة قصيرة جدّاً نسبياً في حساب التحوّلات الاجتماعية.
و كان الصحابة يدركون هذه الحقيقة كما تجد فى الكلام الماثور عن جعفر بن أبي طالب عند النجاشي ملك الحبشة عندما اراد مَبعوثاً قريش استعادتَهما إلى مكة:
أيّها الملك، كُنّا قوماً أهلَ جاهِليَّة، نعبدُ الاصنام، ونأكلُ الميتة، ونأتي الفواحِشَ، ونقطعُ الأرْحام، ونسيء الجوارِ ويأكلُ القوىُ مِنّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتّى بعث اللّه إلينا رسولا منّا نعرف نسبَه وصدقَه وأمانَتَه وعفافَه، فدعانا إلى اللّه لنوحِّده ونعبده، ونخلعُ ما كنّا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرَنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسْنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدّماء، ونَهانا عنِ الفَواحِش وقول الزُور، وأكل مالِ اليَتيمِ، وقذفِ المحصَناتِ، وأمَرنا أنْ نَعبُدَ اللّه وَ حدَهُ لا نشركُ بِهِ شيئاً، وأمَرَنا بالصّلاةِ والزّكاةِ والصِيام قالت: فعدّد عليه امور الإسلام حتّى قال: وصدّقناهُ، واَمَنّا به واتَّبْعناهُ على ما جاء به من اللّه فعبدنا اللّه وحدَه فلم نشرك به شيئاً وحرَّمنا ما حرّمَ عَلَيْنا وأحللنا ما أحلَّ لنا، فَعدا علينا قومَنا فَعذَّبُونا وفنونا عن ديننا ليردُّونا إلى عبادة الأَوثان مِنْ عِبادَة اللّه تعالى، وأنْ نَسْتَحِلَّ ما كنا نَستحِلَّ من الخَبائث"

و الماثور عن الصحابة فى ذلك المعنى كثير
_________________
الساكت عن الحق شيطان اخرس

الغزالى
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 60
اشترك في: الجمعة مارس 04, 2005 2:00 pm

مشاركة بواسطة الغزالى »

2- ليس جزءا من تيار , بل التيار الجديد جزء منه :

الامر المعجز الثانى فى شخصية محمد صلى الله عليه و اله و سلم انه لم يكن جزءا من تيار , فاى تغيير اجتماعى شامل إذا كان وليد الظروف والمؤثّرات المحسوسة فلا يمكن أن يكون مرتجلا ومفاجئاً ومنقطع الصلة عن مراحل تمهّد له، وعن تيار يسبقه ويظلّ ينمو ويمتدّ فكرياً وروحياً حتى تنضج في داخله القيادة الكفوءة لتزعّمه، وللعمل من أجل تطوير المجتمع على أساسه.
وخلافاً لذلك نجد أنّ ابا الزهراء في تاريخ الرسالة الجديدة لم يكن حلقةً من سلسلة، ولم يكن يمثّل جزءً من تيار
و الحنفاء الذين وجدوا قبله كانوا افرادا معدودين مشتتين
و لم يكونوا يمثلون تيارا اصلا
اى لم يكونوا يمثلون تيارا حركيا و فكريا منظما كالذى جرت العادة فى التغيير الاجتماعى على تحققه
فقد كانوا مجرد افراد معدودين مشتتين
و لم يكن عندهم الا موقف سلبى من العقيدة الوثنية دون ان يكون لديهم اى بديل فكرى ناضج فكانوا يتوقون الى ديانة اكثر منطقا الا انه لم يكن لديهم تصور عن كنهها و كان من بينهم زيد بن عمرو بن نفيل الذى تميز كما روى باستقلاله الفذ و كان يقر بشجاعة بجهله بالطريقة التى يمكنه بها عبادة الخالق
و هذا على فرض صحة ما نسب اليهم من اشعار و خطب و الا فما اثبته المحققون من وقوع الوضع فى حالة مهمة كحالة امية بن ابى الصلت يجعل الباحث يشك فى صحة اغلب ما نسب اليهم

و ليقارن الباحث بين شخصية محمد و بين هؤلاء الحنفاء ليرى الفرق الهائل بينه ةو بينهم فى الانتاج و الانجاز و التاثير مع انهم من بيئة واحدة
فالذين يقارنون بين محمد و بين الحنفاء يغالطون مغالطة واضحة فلا يوجد اى مقارنة و الفرق هائل بين محمد و بينهم و هذا واضح لمن تامل تاثير و انتاج هؤلاء الحنفاء و تامل انتاج و تاثير محمد صلى الله عليه و اله و سلم
وأمّا التيار الذي تكوّن من صفوة المسلمين الأوائل على يد النبي فقد كان من صنع الرسالة والقائد، ولم يكن هو المناخ المسبق الذي ولدت فيه الرسالة وتكوّن القائد.
اى كان التيار الجديد مجرد جزء من محمد و لولاه لما وجد هذا التيار ,و هذه ظاهرة خارقة للعادة تماما فى عمليات التغيير الاجتماعى , فلا يوجد اى عملية تغيير اجتماعى تشبه هذا الذى حققه محمد صلى الله عليه و اله و سلم و ليس خرق العادة الا هذا .

و كما يقول الشهيد محمد باقر الصدر :"ومن أجل ذلك نجد أنّ الفارق بين عطاء النبى وعطاء أيّ واحد من هؤلاء لم يكن فارق درجة كالفوارق التي تبدو بين بذرة واُخرى من البذور التي تكوّن التيار الجديد، بل كان فارقاً أساسياً لا حدّ له
وهذا يبرهن على أنّ محمدا: لم يكن جزءً من تيار، بل كان التيّار الجديد جزءً منه."

اضف الى تامل ما سبق تامل ما اجتمع فى شخصية محمد من كمالات لا تجتمع فى انسان فضلا ان يكون هذا الانسان ابن بيئة وثنية جاهلة متخلفة كالبيئة المكية

يقول الاستاذ عباس العقاد فى كتابه القيم " عبقرية محمد ":
"كان محمد مستكملا للصفات التى لا غنى عنها فى انجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ
كانت له فصاحة اللسان و اللغة
و كانت له القدرة على تاليف القلوب و جمع الثقة
و كانت له قوة الايمان بدعوته و غيرته البالغة على نجاحها
و هذه صفات للرسول غير احوال الرسول , و لكنها هى التى عليها المدار فى تبليغ الرسالة "

و هذه اضواء على القمم التى بلغها محمد صلى الله عليه و اله و سلم

القمة فى الفصاحة :
لا يشك من تامل ما روى عن محمد صلى الله عليه و اله و سلم انه بلغ القمة فى الفصاحة , و الروايات تفيد تواترا معنويا بذلك بلا شك , و لا يتسع المقام لبيان ذلك لكن نحيل الباحث على كتب الحديث ليتاملها ان كان لديه ريب فى ذلك و سيجد اى منصف ان محمدا بلغ بالفعل قمة الفصاحة و ان ما يقال عن انه اوتى جوامع الكلم ليس مجرد كلام انشائى يمدحه المسلمون به بل هى حقيقة مؤكدة تفيدها مجموع الروايات المتواترة عنه

و من الكتب المفيدة فى ذلك " المجازات النبوية " للشريف الرضى رحمه الله .



القمة فى القيادة العسكرية :

المتواتر عن الرسول صلى الله عليه و اله و سلم انه كان من اعظم القادة العسكريين ,و لن تجد فى زمانه و بيئته مثله فى ذلك
و هو ما اقر به خصومه
يقول القس يوسف درة الحداد و هو من اعتى خصوم الاسلام :
"كان محمد عبقرية عسكرية و من اعظم قواد العالم العسكريين فى التصميم و التنفيذ ..
و هو يقود الغزوات و الحملات بذاته يعرف كيف يهيىء الحملة و كيف يقودها و كيف يعود منها غالبا و كيف ينقلب مغلوبا , و التصرف فى حال الهزيمة ابرع من نشوة الظفر , يتوسع بالجهاد كلما ازداد قوة , و لا يعلن عن اهدافه الا متى حان وقتها . يعرف كيف يستشير و كيف ياخذ براى صائب , و كيف يفرض رايه فى الظرف الحاسم و لو خالف راى زعماء الصحابة كما حدث فى اسرى بدر و صلح الحديبية و غزو تبوك
و يكون هو بذاته الاسوة الحسنة فى المعركة
فلولا موقفه البطولى فى هزيمة احد , و حصار المدينة لقضى على الاسلام , و لولا موقفه الجرىء فى معركة حنين لخسر فتح مكة و نصر الاسلام"

و يقول الاستاذ العقاد :" لم يكن النبى رجلا مقاتلا يطلب الحرب للحرب او يطلبها و له مندوحة عنها , و لكنه مع هذا كان نعم القائد البصير اذا وجبت الحرب و دعته اليها المصلحة اللازمة , يعلم من فنونها بالالهام ما لم يعلمه غيره بالدرس و المرانة , و يصيب فى اختيار وقته و تسيير جيشه و ترسيم خططه اصابة التوفيق و اصابة الحساب و اصابة الاستشارة , و قد كانت غزوة بدر هى التجربة الاولى للنبى عليه السلام فى ادارة المعارك , فلم يانف ان يستمع فيها الى مشورة الحباب بن المنذر حين اقترح عليه الانتقال الى غير المكان الذى نزل فيه , ثم وعى من تجربة واحدة ما قل ان يعيه القادة المنقطعون للحرب من تجارب شتى , فلو تتبع حروبه عليه السلام ناقد عسكرى من اساطين فن الحرب فى العصر الحديث ليقترح وراء خططه مقترحا او ينبه الى خطا , لاعياه التعديل "
ثم عقد الاستاذ العقاد مقارنة بين محمد صلى الله عليه و اله و سلم و بين نابليون , لانه كما يقول يبين لنا السبق فى خطط النبى العسكرية , بالمضاهاة بينها و بين خطط هذا القائد العظيم
1- فنابليون كان يوجه همه الاول الى القضاء على قوة العدو العسكرية باسرع ما يستطيع , فلم يكن يعنيه ضرب المدن و لا اقتحام المواقع , و انما كانت عنايته الكبرى منصرفة الى مبادرة الجيش الذى يعتمد عليه العدو بهجمة سريعة يفاجئه بها اكثر الاحيان ,و هو على يقين ان الفوز فى هذه الهجمة يغنيه عن المحاولات التى يلجا اليها جلة القواد
و عنده انه يستفيد بخطته تلك ثلاث امور : ان يختار الموقع الملائم , و ان يختار الفرصة , و ان يعاجل العدو قبل تمام استعداده
و كان النبى عليه السلام سابقا الى تلك الخطط فى جميع تفصيلاتها
فكان لا يبدا احدا بالعدوان , و لكنه اذا علم بعزم الاعداء على قتاله لم يمهلهم حتى يهاجموه جهد ما تواتيه الاحوال , بل ربما وصل اليه الخبر كما حدث فى غزوة تبوك و الناس مجدبون و القيظ ملتهب و الشدة بالغة , فلا يثنيه ذلك عن الخطة التى تعودها , و لا يكف عن التاهب السريع و عن حض المسلمين على جمع الاموال و جمع الرجال , و لا يبالى ما ارجف به المافقون الذين توقعوا الهزيمة للجيش المحمدى فلم يحدث ما توقعوه
و كان يعند الى القوة العسكرية حيث اصابها , فيقضى على عزائم اعدائه بالقضاء عليها , و لا يضيع الوقت فى انتظار ما يختاره اولئك الاعداء , و اضعاف انصاره بتركه زمام الحركة فى ايدى الهاجمين , الا ان يكون الهجوم وبالا على المقدمين عليه , كما حدث فى غزوة الخندق
2- و كان نابليون يقول ان نسبة القوة المعنوية الى الكثرة العددية كنسبة 3 الى 1
و النبى كان عظيم الاعتماد على القوة هذه القوة المعنوية التى هى فى الحقيقة قوة الايمان ,و ربما بلغت نسبة هذه القوة الى الكثرة العددية كنسبة 5 الى 1 فى بعض المعارك , مع رجحان الفئة الكثيرة فى السلاح و الركاب الى جانب رجحانهم فى عدد الجنود , و معجزة الايمان هنا اعظم جدا من اكبر مزية بلغها نابليون بفضل ما اودع نفوس رجاله من صبر و عزيمة
فالنبى كان يحارب عربا بعرب . و قرشيين بقرشيين , و قبائل من السلالة العربية بقبائل من صميم تلك السلالة , فلا يقال هنا ان الفضل لقوم على قوم فى المزايا الجسدية او المزايا النفسية كما يمكن ان يقال هذا فى جيوش نابليون , و كل فضل هنا فهو فضل العقيدة و الايمان
2- و قد كان نابليون مع اهتمامه بالقضاء على القوة العسكرية لا يغفل القضاء على القوة المالية و التجارية التى يتناولها اقتداره , فكان يحارب الانجليز بمنع تجارتهم و سفنهم ان تصل الى القارة الاوروبية , و تحويل المعاملات عن طريق انجلترا الى فرنسا
و هكذا كان النبى عليه السلام يحارب قريشا فى تجارتها , و يبعث السريا فى اثر القوافل كلما سمع بقافلة منها
و انكر بعض المتعصبين من كتاب اوروبا هذه السرايا و سموها قطاع طريق , و هى سنة المصادرة بعينها التى اقرها القانون الدولى و عمل بها قادة الجيوش فى جميع العصور ..
3- و قد اسلفنا ان نابليون كان يوجه همه الى الجيش و لا يقتحم المدن او يشغل باله بمحاصرتها لغير ضرورة عاجلة
و نرجع الى غزوات النبى عليه السلام فلا نرى انه حاصر محلة الا ان يكون الحصار هو الوسيلة الوحيدة العاجلة لمبادرة القوة التى عسى ان تخرج منها قبل استعدادها , او قبل نجاحها فى الغدر و الوقيعة , كما حدث فى حصار بنى قريظة و بنى قينقاع , فكان الحصار هنا كمبادرة الجيش بالهجوم فى الميدان المختار بغير كبير اختلاف
5- و كان نابليون معتدا برايه فى الفنون العسكرية و لا سيما الخطط الحربية , و لكنه كان مع هذا الاعتداد الشديد لا يستغنى عن مشاورة اصحابه فى مجلس الحرب الاعلى قبل ابتداء الزحف او قبل العزم على القتال
و محمد عليه السلام كان على رجاحة رايه يستشير صحبه فى خطط القتال و حيل الدفاع و يقبل مشورتهم احسن قبول , و من ذلك ما صنعه ببدر و المعنا اله انفا .. و قيل فى روايات كثيرة انه عمل بمشورة سلمان الفارسى فى حفر الخندق .. فحفر الخندق و عمل النبى بيديه الكريمتين فى حفره ..
و لكن المشاورة هنا هى المقصود بالمضاهاة بين ما سبق اليه النبى و ما نبغ فيه نابليون , فهذه خصلة معهودة فى كبار القواد لا تقدح فيما عرفوا به من قدرة على وضع الخطط و ابتكار الاساليب
6- و لم يعرف عن قائد حديث انه كان يعنى بالاستطلاع و الاستدلال عناية نابليون
و كانت فراسة النبى فى ذلك مضرب الامثال .. و كان صلوات الله عليه انما يعول فى استطلاع اخبار كل مكان على اهله و اقرب الناس الى العلم بفجاجه و دروبه , و يعقد ما يسمى اليوم مجلس الحرب قبل ان يبدا القتال فيسمع من كل فيما هو خبير به من فنون حرب او دلائل استطلاع ..


القمة فى السياسة:
لا يرتاب عاقل فى ان محمد صلى الله عليه و اله و سلم كان فى القمة فى مجال السياسة , كيف لا و هو الذى اسس امة من لا شىء ؟, و قد اقر بذلك خصومه , يقول القس الحداد :
"كان محمد عبقرية سياسية يعرف كيف يجمع المؤيدين و الانصار و يداور المنافقين و الاشرار و يعرف كيف يساوم و يقاوم و كيف يماطل و يقاتل و كيف ينكسر و ينتصر.., و تلك الهجرة البارعة الباهرة من عاصمة الشرك العربى و بلد الاضطهاد الى المدينة ليحتل منها و بها البلد الذى يحاول اغتياله .. و هكذا توج سياسته الدينية الفذة بحجة الوداع التى جمع بها العرب جميعا حول شخصه

و كان محمد عبقرية دبلوماسية , و قد تجلت بعهد الاخاء بين المهاجرين و الانصار , و عهد الموادعة بين المسلمين و اليهود , و عهد المودة بين المسلمين و المسيحيين , و برعت فى مهادنة المنافقين حتى النهاية , و فى المعاهدات و الاحلاف مع الاعراب بعد الغزوات الناجحة , و فى العفو العام عن بنى قومه و الد خصومه اهل مكة بعد الفتح , و فى تاليف قلوب زعماء مكة بعد فتحها بتوزيع غنائم اخصامهم قبائل هوازن عليهم ,و فازت فى تفكيك التضامن بين اليهود و الاحزاب فى حملة الخندق الحاسمة .. و تفضيل معاهدة عدم اعتداء مع قريش فى الحديبية على قتال غير مكفول و فتح غير مامون , و انتصرت فى تحقيق فتح سهل , بعد فشل طارىء كاجلاء بنى النضير بعد هزيمة احد ,و القضاء على قريظة بعد حصار المدينة المخيف يوم الخندق , و غزو خيبر و قرى الشمال اليهودية بعد صلح الحديبية الذى اعتبره عمر و جماعته مشينا , و الحملة الجبارة على مشارف الشام بعد حصار الطائف الفاشل , و توج دبلوماسيته الظافرة بمبايعة وفود العرب العامة"
و كما يقول الاستاذ العقاد : " تجلت عبقرية محمد فى سياسة الامور كما تجلت فى قيادة الجيوش"

القمة فى الادارة :
المتواتر عن محمد صلى الله عليه و اله و سلم انه كان فى القمة فى امور الادارة , و لن تجد فى زمانه و بيئته مثله
يقول القس الحداد :" كان محمد عبقرية ادارية فى تنظيم شئون الحياة الدينية و الاجتماعية و السياسية و الحربية"
و يقول الاستاذ العقاد :" كان يوصى بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعى او العمل المجتمع الذى يحتاج الى تدبير , و من حديثه الماثور " اذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا احدهم " و من اعماله الماثورة انه كان يرسل الجيش و عليه امير و خليفة للامير و خليفة للخليفة اذا اصيب من تقدمه بما اقعده عن القيادة , و كان قوام الرئاسة و الامامة عنده شرطان هما جماع الشروط فى كل رئاسة , و هما الكفاءة و الحب :" ايما رجل استعمل رجلا على عشرة انفس علم ان فى العشرة افضل ممن استعمل فقد غش الله و غش رسوله و غش جماعة المسلمين"
" و ايما رجل ام قوما و هم له كارهون لم تجز صلاته اذنيه "
و كان الى عنايته باسناد الامر الى المدير القادر عليه حريصا على تقرير التبعات فى الشئون ما كبر منها و ما صغر , على النهج الذى اوضحه صلوات الله عليه حيث قال :" كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته "..
و قد كانت اوامر الاسلام و نواهيه معروفة لطائفة كبيرة من المسلمين انصارا كانوا او مهاجرين و لكنه عليه السلام لم يترك احدا يدعى لنفسه حقا فى اقامة الحدود , و اكراه الناس على طاعة الاوامر و اجتناب النواهى غير من لهم ولاية الامر و سياسة الناس ..
و ما اكثر ما سمعنا فى ايامنا الاخيرة عن الامن و النظام و توطيد اركان الشريعة و القانون , و لكننا لا نعرف فى كل ما قيل كلاما هو اجمل لوجوه الصواب فى هذه المسالة من قول النبى :" السمع و الطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة " ..
نظام و فوق النظام سلطان , و فوق السلطان برهان من الشرع و العقل لا شك فيه , و جميع اولئك على سماحة لا تتعسف النزاع و لا تتعسف الريبة و لا تلتمس الغلواء..
على ان الادارة العليا انما تتجلى فى تدبير الشئون العامة حين تصطدم بالاهواء و تنذر بالفتنة و النزاع . فليست الادارة كلها نصوصا و قواعد يجرى الحاكم فى تنفيذها مجرى الالات و الموازين التى تصرف الشئون على نسق واحد , و لكنها فى كثير من الاحيان علاج نفوس و قيادة اخطار لا امان فيها من الانحراف القليل هنا او الانحراف القليل هناك
و ذلك هو المجال الذى تمت فيه عبقرية محمد فى حلول التوفيق و اتقاء الشرور احسن تمام . فما عرض له تدبير امر من معضلات الشقاق بعد الرسالة و لا قبلها الا و اشار فيه باعدل الاراء و ادناها الى السلم و الارضاء ..
صنع ذلك يوم هاجر من مكة الى المدينة فاستقبلته الوفود تتنافس على ضيافته و نزوله , و هو يشفق ان يقدح فى نفوسها شرر الغيرة بتمييز اناس منهم على اناس او اختيار محلة دون محلة , فترك لناقته خطامها تسير و يفسح الناس لها طريقها حتى بركت حيث طاب لها ان تبرك . و فصلت فيما لو فصل فيه انسان كبير او صغير لما مضى فصله بغير جريرة لا تؤمن عقباها بعد ساعتها , و لو امنت فى تلك الساعة على دخل و سوء طوية ..
و صنع ذلك يوم فضل بالغنائم اناسا من اهل مكة الضعيف ايمانهم على اناس من الانصار الذين صدقوا الاسلام و ثبتوا على الجهاد , فلما غضب المفضولون لم يكن اسرع منه الى ارضائهم بالحجة التى لا تغلب من يدين بها بل تريه انه هو الغالب الكاسب و انها تصيب منه المقنع و الاقناع فى وقت واحد .. كلام مدير فيه الادارة و الساسة هبة من هبات الخلق و التكوين ..


القمة فى الحكمة :
المتواتر ايضا عن محمد صلى الله عليه و اله و سلم انه كان فى القمة فى الحكمة , و قد اوتى حقا جوامع الكلام
و يكفى بيانا لذلك ان يطالع الباحث المنصف كتب الشيخ محمد الغزالى رحمه الله :
1- جدد حياتك : و هو كتاب عقد فيه الغزالى رحمه الله مقارنة بين الهدى المحمدى و بين افضل ما توصلت اليه عقول و خبرات الغربيين فى مجال تنمية الانسان و ارشاده الى السعادة كما فى كتاب " دع القلق و ابدا الحياة " ل ديل كارنيجى و هو من اكثر الكتب مبيعا فى العالم , و يتضح للقارىء ان محمد صلى الله عليه و اله و سلم قد سبق كارنيجى و امثاله الى افضل و اروع ما قرروه , و المفارقة ان كارنيجى هذا مات منتحرا كما قيل فتامل !


2- كتاب " خلق المسلم " و فيه يبين الغزالى رحمه الله روعة الهدى المحمدى فى الخلق و سياسة النفس
و يبين كيف تفوق الهدى المحمدى على كل ما قدمه الحكماء فى هذا الميدان

و الاحاديث التى استند اليها الغزالى رحمه الله تفيد بمجموعها تواتر معنويا لا ريب فيه فى بلوغ محمد صلى الله عليه و اله و سلم قمة الحكمة , و على الاقل لا شك فى انه تفوق تماما على زمانه و بيئته فى ذلك و فى غيره تفوقا لا يخفى على بصير


القمة فى الربانية

المتواتر ايضا عن محمد صلى الله عليه و اله و سلم انه بلغ القمة فى الربانية و العبادة و الذكر للخالق و الدعاء و تعليم الناس ان يعبدوا خالقهم و يذكروه , و هذا مما لا يرتاب فيه مطلع منصف , بل لا يوجد انسان مشى على الارض قاد الناس الى عبادة الله و معرفته و ذكره و كافح فى سبيل ذلك مثل محمد صلى الله عليه و اله و سلم
و مع ذلك يرتاب بعض من عميت بصائرهم فى انه كان يفترى على الله !!!

يقول الشيخ محمد الغزالى رحمه الله :" وسط اولئك الصالحين المصلحين تلمح – فى خشوع و توقير – محمد بن عبد الله صاحب الرسالة الخاتمة , و ملتقى العقائد و الفضائل التى ناط القدر بها صلاح الاولين و الاخرين ..
و لن يعرف محمدا ابدا من سفه نفسه , و حقر عقله و قلبه ..
لا يعرف محمدا صلى الله عليه و اله و سلم من احتبس فى سجن الدنايا , او قعد عن نصرة الحق و الخير ..

و العالم من ازله الى ابده لا يعرف انسانا استغرق فى التامل العالى , و مشى على الارض و قلبه فى السماء , كما يعرف فى سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه و اله و سلم
انه خير من حقق فى نفسه – و فى الذين من حوله – حياة الانسان الكامل
الانسان الربانى المستخلف فى ملكوت الله , لينقل اليه اطرافا من حقيقة هذه الخلافة الكبيرة
و فى المواريث العقلية و العاطفية التى تركها هذا النبى الكريم , ترى كل العناصر التى يستطيع بها اى انسان ان يقوم بوظيفته الصحيحة فى الحياة "
و حتى يقف الباحث على شىء من ذلك فليطالع كتاب " الجانب العاطفى من الاسلام " للشيخ الغزالى رحمه الله و ليتامل مجموع ما ذكره الغزالى من احاديث ابى الزهراء ليقطع بانه كان فى قمة الربانية ,و انه لا يشك فى صدقه الا مريض العقل او الاحساس
و من لم يطلع على تراث المسلمين و انتاجهم فى ميدان العاطفة و السلوك و العرفان فهو لم يعرف الاسلام اصلا
فالاسلام ليس مجرد عقائد نظرية او فقه و تشريعات بل هو مع ذلك عاطفة و نور يغمر القلوب و يحييها و يعرج بها
و من اروع ما يقرا فى ذلك احياء علوم الدين لابى حامد الغزالى و مدارج السالكين لابن القيم و كتاب " الجانب العاطفى من الاسلام " للشيخ محمد الغزالى
و الكتب فى ذلك كثيرة جدا عند مختلف الفرق الاسلامية
بل من لم يطلع على هذا الجانب من الاسلام فهو لا يعرف الاسلام
الساكت عن الحق شيطان اخرس

الغزالى
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 60
اشترك في: الجمعة مارس 04, 2005 2:00 pm

مشاركة بواسطة الغزالى »

3- لا اعداد فكرى او عملى :
" يبرهن التاريخ على أنّ القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية لتيار جديد إذا تركّزت كلّها في محور واحد من خلال حركة تطوّر فكري واجتماعي معيّن فلابدّ أن يكون في هذا المحور من القدرة والثقافة والمعرفة مايتناسب مع ذلك، ولابدّ من أن يكون تواجدها فيه طبقاً لما يعرف عادةً من أساليب في حياة الناس، ولابدّ من ممارسة متدرّجة أنضجته ووضعته على خطّ القيادة لذلك التيار.

وخلافاً لذلك نجد أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) قد مارس بنفسه القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية، دون أن يكون تاريخه يرشّحه لذلك من الناحية الثقافية
ودون أن تكون له أيّ ممارسات تمهيدية لهذا العمل القياديّ المفاجئ."
الحقيقة الواضحة ان محمدا صلى الله عليه و اله و سلم لم يتلق اى اعداد فكرى يناسب ما حققه و ما قدمه , اى لو فرضنا جدلا و تنزلا انه تعلم من ورقة بن نوفل او غيره بعض القصص و الحكايات فهذا لا يفسر كل هذا العلم الذى جاء به و يدرك هذه الحقيقة من يعرفون قيمة مضمون القران و الاحاديث النبوية
و مع ذلك فالحقيقة ان محمد لم يتلقى اصلا اى اعداد فكرى لا مناسب و لا غير مناسب , و اعداؤه انما يكذبون الكذبة ثم يصدقونها ثم يريدون منا ان نصدقها !
فكل ما يقال عن تعلمه من ورقة او غيره كلام فارغ و افتراء مكشوف , و الحديث الذى يحتجون به على ذلك انما يثبت عكس ما يريدون اى يثبت نبوة محمد و ايمان ورقة بنبوته و تبعيته له

لقد جاهد خصوم الاسلام سلفا و خلفا لاثبات معلم للنبى و لكن لا اهمية لذلك فحتى لو فرضنا جدلا انه تعلم بعض القصص من ورقة او غيره فليس فى هذا التعلم المزعوم ما يعتبر اعدادا فكريا يناسب ما جاء به ابو الزهراء و ما حققه
و مع ذلك فكل محاولات خصوم الاسلام فى ذلك الصدد تخبط و تكلف و تعنت حيث عمدوا الى افراد من الذين امنوا بنبوة ابى الزهراء ليزعموا انهم اساتذته ! كابن سلام و سلمان رضى الله عنهما,و كذلك ورقة بن نوفل حسب رواية البخارى التى يحتج بها خصوم الاسلام
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز فى " النبا العظيم ":
(و اما الذين لقوه بعد النبوة فقد سمع منهم و سمعوا منه و لكنهم كانوا له سائلين و عنه اخذين و كان هو لهم معلما و واعظا و منذرا و مبشرا
و اما الذين راهم من قبل فان امر لقائه اياهم لم يكن سترا مستورا بل كان معه فى كل مرة شاهد : فكان عمه ابو طالب رفيقا له حين راى راهب الشام و كانت زوجه خديجة رفيقة له حين لقى ورقة فماذا سمعه هذا الرفيقان من علوم الاستاذين ؟! هلا حدثنا التاريخ بخبر ما جرى ؟ .. على ان التاريخ لم يسكت بل نبانا بما كان من امر الرجلين فقد حدثنا عن راهب الشام انه لما راى الغلام راى فيه من سيما النبوة الاخيرة و حليتها فى الكتب السابقة ما انطقه بتبشير عمه قائلا : ان هذا الغلام سيكون له شان عظيم
و حدثنا عن ورقة انه لما سمع ما قصه عليه النبى من صفة الوحى وجد فيها من خصائص الناموس الذى نزل على موسى ما جعله يعترف بنبوته و يتمنى ان يعيش حتى يكون من انصاره )
و لا يخفى على بصير ان محمدا قد واجه اهل الكتاب بثقة مطلقة لا تصدر ابدا عن انسان تلقى من احد اليهود او النصارى علوما فضلا ان يتتلمذ عليه و لو حدث شىء من ذلك لما واجههم بكل هذه الثقة المطلقة ,بل لقد تعامل معهم باستاذية
و كما يقول الدكتور محمد عبد الله دراز :"هل كان فى العلماء يومئذ من يصلح ان تكون له على محمد و قرانه تلك اليد العلمية ؟
يقول الملحدون انفسهم :" ان القران هو الاثر التاريخى الوحيد الذى يمثل روح عصره اصدق تمثيل " و هذه كلمة حق فى حدود معناها الصحيح .. فليقراوا الزهراوين البقرة و ال عمران و ما فيهما من المحاورة لعلماء اليهود و النصارى فى العقائد و التواريخ و الاحكام , او ليقراوا ما شاؤا من السور المدنية و المكية التى فيها ذكر اهل الكتاب , و لينظروا باى لسان يتكلم عنهم القران , و كيف يصور لنا علومهم بانها الجهالات , و عقائدهم بانها الضلالات او الخرافات , و اعمالهم بانها الجرائم و المنكرات
فان انت احببت زيادة البيان فاليك نموذجا من وصفه و تفنيده لاغلاطهم و مغالطاتهم التاريخية ( يا اهل الكتاب لم تحاجون فى ابراهيم و ما انزلت التوراة و الانجيل الا من بعده افلا تعقلون ) ( ام تقولون ان ابراهيم و اسماعيل و اسحق و يعقوب و الاسبط كانوا هودا او نصارى )(ان اول بيت وضع للناس للذى ببكة ) ( كل الطعام كان حلا لبنى اسرائيل الا ما حرم اسرائيل على نفسه ) و هذا طرف من وصفه و تفنيده لخرافاتهم الدينية (و ما مسنا من لغوب )(و ما كفر سليمان ) (لقد سمع الله قول الذين قالوا ان الله فقير و نحن اغنياء )(و قالت اليهود يد الله مغلولة )(و قالت اليهود عزير ابن الله )( و قالت اليهود و النصارى نحن ابناء الله و احباؤه – لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم) .( لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة )..
فانظر كيف صور القران عقيدة هؤلاء علماء الدين فى زمنه و لا سيما علماء النصارى فقد كان طابع الشرك فى ديانتهم لا يخفى على احد حتى ان الاميين فطنوا له فاتخذوا منه عزاءا لهم فى شركهم (و لما ضرب ابن مريم مثلا اذا قومك منه يصدون و قالوا االهتنا خير ام هو ) بل اتخذوا منه حجة على ان التوحيد الذى دعاهم اليه القران بدع فى الدين لم يسبق اليه فقالوا ( ما سمعنا بهذا فى الملة الاخرة ) يعنون ملة النصرانية

و هذه سلسلة اخرى من جرائمهم يسردها القران متواصلة الحلقات (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً 155 وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا 156 وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا 157 بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 158 وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا 159 فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا 160 وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)

فهل ترى فى هذا كله صورة اساتذة يتلقى عنهم صاحب القران علومه ؟ ام بالعكس ترى منه معلما يصحح لهم اغلاطهم و ينعى عليهم سوء حالهم )

و كما يقول بعض العلماء :" يقولون أن النبي كان عالما بالديانات وذكيا ولهذا كوّن دينا يلفق بين الديانات ويخلط بينها. وليس دينه من الله.
وهنا نسألهم كيف تعلم؟ وما حجم التعلم ؟ وما هو الدين الأساسي له ليقوم بالتلفيق بين الديانات؟
وجوابهم هو : إن النبي تعلم من بحيرا الراهب ومن ورقة بن نوفل وكلاهما مسيحي . وأما حجم العلوم فهو كل الديانات المسيحية واليهودية وغيرها، وأما الدين الأساسي فغير معروف ولكن شيوخه مسيحيون .
وهنا لنتأمل هذه الأجوبة :
فقد اجتمع الرسول ببحيرى الراهب في بصرى سويعات، وكان معه جده عبد المطلب ، فهل كان يمتلك بحيرى قمعا لزق العلوم العجيبة بدماغ الناس في ساعة واحدة؟ لا نعرف كيف يصدق جاهل هذه الحجة. ولم يثبت أبدا تتلمذه على بحيرى وإنما القصة تقول إن بحيرى توسّم في محمد النبوة و أوصى جده برعايته. فأين هذه القصة من دعوى تعلمه عليه وأخذه الدين منه وتمرده على الديانة النصرانية.
ورقة بن نوفل لم يكن على علاقة بالرسول متماسة وإنما كان عم خديجة زوجة الرسول ولم يكن على علاقة به، والأقرب عندي انه مسيحي رغم شك الكثير من الباحثين بمسيحيته ، وذلك لورود نص بأنه من القسيسين وهذا لا يطلق على غير المسيحي وقد ورد انه متنصّر بروايات غير واضحة الثبوت، وأما قصة بدء الوحي التي ترويها السيد عائشة ..فليس فيها أكثر من اقتراح أمنا السيدة خديجة سلام الله عليها، أن تعرض أمر ما عراه على ورقة، فأشار عليها ورقة إن هذه علامات النبوة, فأين ما يزعمون من التعلم والدراسة؟"

و لو كان هناك ادنى احتمال لتعلم النبى من ورقة لكانت هذه ابرز و اشهر حجج كفار مكة عليه , و لما اضطروا الى الادعاء بانه يتعلم من اعجمى , و البعض يتوهمون ان القران ربما نسب اليهم ما لم يقولوه و هو وهم مرضى ليس اكثر ,فمن يتوهم ان الصحابة كانوا مهتمين باختراع اتهام على لسان قريش لم تقله و وضعه فى المصحف ثم تاليف رد عليه, هو انسان مريض لا يستحق الالتفات الى اوهامه , فالقران بلا ريب عند اى عاقل ان لم يكن كتابا الهيا فهو على الاقل وثيقة تاريخية صادقة بل اصح وثيقة تعرفنا باحداث و اراء تلك الفترة
يقول الدكتور طه حسين :
"القرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي . ونص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه ...أن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية . وهذه القضية غريبة حين تسمعها ؛ ولكنها بديهية حين تفكر فيها قليلا . فليس من اليسير أن نفهم الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة هي هذه الصلة التي توجد بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه . وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا على أسراره ودقائقه . وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدا كله على العرب . فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه ، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر . إنما كان القرآن جديدا في أسلوب ، جديدا فيما يدعو إليه ، جديدا فيما شرع للناس من دين وقانون ، ولكنه كان كتابا عربيا ؛ لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره ، أي في العصر الجاهلي . وفي القرآن رد على الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من الوثنية ، وفيه رد على اليهود ، وفيه رد على النصارى ، وفيه رد على الصائبة والمجوس . وهو لا يرد على يهود فلسطين ، ولا على نصارى الروم ، ومجوس الفرس ، وصائبة الجزيرة وحدهم ، وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها . ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر ، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه ، وضحوا في سبيل تأييده ومعارضته بالأموال والحياة .. وكذلك كانت الحال حين ظهر الإسلام : هاجم الوثنية فعارضوه الوثنيون ، هاجم اليهود فعارضه اليهود ، هاجم النصارى فعارضه النصارى , ولم تكن هذه المعارضة هينة ولا لينة ، وإنما كانت تقدر بمقدار ما كان لأهلها من قوة ومنعة وبأس في الحياة الاجتماعية والسياسية . فأما وثنية قريش فقد أخرجت النبي من مكة ونصبت له الحرب واضطرت أصحابه إلى الهجرة . وأما يهودية اليهود فقد ألبت عليه وجاهدته جهادا عقليا وجدليا ، ثم انتهت إلى الحرب والقتال . وأما نصرانية النصارى فلم تكن معارضتها للإسلام إبان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية . لماذا ؟ لأن البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية ، إنما كانت وثنية في مكة ، يهودية في المدينة . ولو ظهر النبي في الحيرة أو في نجران للقى من النصارى هاتين المدينتين مثل ما لقى من مشركي مكة ويهود المدينة ...

فالقرآن إذن أصدق تمثيلا للحياة الدينية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي ."

و اما ان محمدا صلى الله عليه و اله و سلم لم يتلق اعداد عملى على هذا العمل القيادى المفاجىء فهذا لا يشك فيه منصف

و بهذا يتبين اعجاز الشخصية المحمدية فلا يوجد انسان يمكنه ان يحدث كل هذا
و من كان فى ريب فى هذا مع وضوحه فليات باسم انسان مثل محمد
فالخلاصة : ان الشخصية المحمدية يعجز اى انسان ان يقدم و يحقق ما قدمته و ما حققته , و يعجز اى انسان ان ياتى بمثلها
و كما يقول الاستاذ جمال البنا :"اننا اذا وضعنا مآثر اكبر الزعماء و القادة الذين انجبتهم البشرية امام مآثر محمد , لبدت الاولى ضئيلة , قميئة معيبة امام الثانية
فقد كان محمد نبيا جاء بدين ناجح و سياسيا بنى اساس دولة ورثت الامبراطوريات القديمة و مشرعا وضع قانونا عبقريا يشمل العقوبة الجنائية و العلاقات الشخصية و الاوضاع الاقتصادية و الاجتماعية , و بليغا جاء بجوامع الكلم و اعتبرت احاديثه قبسا من الحكمة , و قائدا عسكريا مظفرا , و مثلا اعلى فى الخلق الكريم ..
من ذا يسامى هذه المآثر او يظفر بمثل هذه المنزلة ؟
لقد كان الاسكندر فاتحا عسكريا مظفرا , و تتلمذ على يد اعجوبة البشرية ارسطو و لكنه لم يكن المشرع و لم يكن النبى و ما اكثر ما غلبته انفعالته و ورطته فى منكرات
و كان اعجوبة البشرية ارسطو فريدا فى الفلسفة و المنطق و الاداب و العلوم , و لكنه لم يكن رجل الدولة و لا رجل الدين و لا القائد العسكرى .و كان قيصر رجل دولة و رجل سياسة و اداب و قائدا منتصرا , و لكنه لم يكن رجل الدين او المشرع ...و كان نابليون رجل دولة و رجل سياسة و قائدا عسكريا و مشرعا , و لكنه لم يكن صاحب الدين او رجل اللغة و الادب او المثل الاعلى فى الاخلاق
و كان كل من شكسبير و جوته علما من اعلام الادب و الشعر و المسرح و لكنهما كانا اصفارا فى السياسة و التشريع و القيادة العسكرية او الرسالة الدينية
ان الشخصية الباهرة غير العادية للرسول قد فرضت نفسها .. و كل هذا يصدر من عربى ..لم يتعلم على يد فيلسوف ..
اذا لم يكن هذا وحيا و اذا لم يكن محمد (ص) نبيا فان البديل الوحيد هو ان يكون محمد كما كان يرى اليونان و الرومان الها او نصف اله ! "
و يقول الدكتور مصطفى محمود :
" ان تبلغ الذروة فى الخطابة فانت ديموستين .. و ان تبلغ الذروة فى الشعر فانت بيرون , و ان تبلغ الذروة فى الزعامة فانت بركليس , و ان تبلغ الذروة فى الحكمة فانت لقمان , و ان تبلغ القمة فى فنون الحرب فانت نابليون , و ان تبلغ الذروة فى التشريع فانت سولون
اما ان تكون كل هؤلاء , و ان تمتحنك الايام فى كل صفة فتبلغ فيها غاية المدى فهو الاعجاز بعينه
و اذا حدث هذا فانه لا يفسر الا بانه نبوة و مدد و عون من الله الوهاب وحده
و هذا هو برهانى على نبوة محمد
فها انت ذا امام رجل اذا تحدث كان ابلغ البلغاء , و اذا نطق كان افصح الفصحاء .. و هذه احاديثه المجموعة تشهد لنا بانها من جوامع الكلم
فاذا ذهب هذا المحدث الهادىء ليحارب راينا فيه مقاتلا فذا و مخططا عسكريا من الطراز الاول ..
هذا محمد النبى و قد اجتمعت فيه كمالات بلغ فى كل منها الذروة , فهو العابد المبتهل الذى يذوب خشوعا و يفنى حبا , و هو المقاتل الصنديد الذى يتعرض لجحافل الموت ثابت القدم .. و هو المخطط العبقرى الذى يرسم الخطط فيتفوق على اهل الحرفة , و هو السياسى الحاذق الذى يحرك المجاميع و يمسك بمقاليد المشاعر .. و هو المحدث الذى ينطق بجوامع الكلم , و هو الاب و الزوج و الصديق , و هو صاحب الدعوة الذى يقيم نظاما و ينشىء دولة من عدم ( من قبائل و شراذم متفرقة لا تعرف الا قطع الطريق و الثار و التفاخر بالاحساب و الانساب ) .. و هو الكريم الحليم الودود الرءوف الصبور الباش البسام اللطيف المعشر , لا تمنعه الاعباء الجسام من ملاطفة الطفل و الوليد فيحمله على كتفه راكعا و ساجدا و قائما , و لا من مغازلة زوجة فى حنان , لا ينضب لعواطفه معين , و كانه يستمد من بحر
هذه الذات هى المعجزة .

و اجتماع هذه الكمالات فى ذات واحدة معجزة و ليست عبقرية
فالعبقرية ان تتفوق فى صفة واحدة و حسب
اما ان تكون ذواتنا مجمع كمالات فهنا نبوة
هنا امر لا يمكن ان يكون الا بمدد الهى و عصمة و توفيق و تمكين و افاضة ممن عنده كنوز كل شىء
و هذا برهانى على نبوة محمد
اننا امام ذات متفردة تماما
مستوفية اسباب الكمال جامعة لاقصى الاطراف فى كل شىء
فاعلة منفعلة نشيطة مؤثرة , تصنع بطلا من كل رجل تلمسه ..
نحن لسنا اذن امام ابراهام لنكولن , و لا امام جيفارا ..
نحن لسنا امام مصلح اجتماعى
و لا امام ثورة اسبارتاكوس الاجتماعية

لا لقد هزلت التشبيهات "

و اقول صدقت يا دكتور مصطفى: لقد هزلت التشبيهات
و نحن نتحدى اى انسان من منكرى نبوة محمد صلى الله عليه و اله و سلم او المرتابين فى نبوته ان ياتينا باسم لانسان واحد قدم و حقق مثل ما قدمه و حققه محمد
فمجموع ما قدمه و ما حققه محمد لا يقدر عليه انسان
و هذا واضح للغاية لكل عاقل يتامل ما تواتر و استفاض و اشتهر عن هذه الشخصية

يقول القس يوسف الحداد :" كانت شخصية محمد بن عبد الله الهاشمى القرشى ، النبى العربى ، مجموعة عبقريات مكنته من تأسيس أمة و دين و دولة من لا شىء .
و هذا لم يجتمع لأحد من عظماء البشرية . كان محمد عبقرية دينية ... و كان محمد عبقرية سياسية ... و كان عبقرية دبلوماسية ... و كان محمد عبقرية عسكرية ... و كان محمد عبقرية إدارية ... و كان محمد عبقرية تشريعية ... و أخيرا كان محمد عبقرية أدبية) القران و الكتاب /1065-1067


و انصح كل عاقل تدبر ما سبق ان يتامل جيدا هذه الكلمة المعبرة التى كتبها الامام محمد عبده , و التى تلخص كل ما نريد قوله :
(ما هذا الذى رفع نفسه فوق النفوس ؟ ما الذى اعلى راسه على الرؤوس ؟ ما الذى سما بهمته على الهمم حتى انتدب لارشاد الامم و كفالته لهم كشف الغمم بل و احياء الرمم ؟ ما كان ذلك الا ما القى الله فى روعه من حاجة العالم الى مقوم لما زاغ من عقائدهم و مصلح لما فسد من اخلاقهم و عوائدهم , ما كان ذلك الا وجدانه ريح العناية الالهية تنصره فى عمله و تمده فى الانتهاء الى امله قبل بلوغ اجله
ما هو الا الوحى السماوى قام لديه مقام القائد و الجندى .
ارايت كيف نهض وحيدا فريدا يدعو الناس كافة الى التوحيد , و الاعتقاد بالعلى المجيد , و الكل ما بين وثنية مفرقة و دهرية و زندقة ؟
نادى فى الوثنيين بترك اوثانهم و نبذ معبوداتهم , و فى المشبهين المنغمسين فى الخلط بين اللاهوت الاقدس و بين الجسمانيات بالتطهر من تشبيههم , و فى الثنوية بافراد اله واحد بالتصرف فى الاكوان و رد كل شىء فى الوجود اليه , صاح بذوى الزعامة ليهبطوا الى مصاف العامة فى الاستكانة الى سلطان معبود واحد هو فاطر السموات و الارض ..
وخز بوعظه عبيد العادات و اسراء التقليد ليعتقوا ارواحهم مما استعبدوا له .. مال على قراء الكتب السماوية و القائمين على ما اودعته من الشرائع الالهية فبكت الواقفين عند حروفها بغباوتهم , و شدد النكير على المحرفين لها , الصارفين لالفاظها اتلى غير ما قصد من وحيها اتباعا لشهواتهم و دعاهم الى فهمها و التحقق بسر علمها حتى يكونوا على نور من ربهم
و لفت كل انسان الى ما اودع فيه من المواهب الالهية و دعا الناس اجمعين ذكورا و اناثا عامة و سادات الى عرفان انفسهم و انهم من نوع خصه الله بالعقل و ميزه بالفكر و شرفه بهما و بحرية الارادة فيما يرشده اليه عقله و فكره ..دعا الناس كافة الى الاستعداد فى هذه الحياة لما سيلاقون فى الحياة الاخرى و بين لهم ان خير يتزوده العامل هو الاخلاص لله فى العبادة و الاخلاص للعباد فى العدل و النصيحة و الرشاد

قام بهذه الدعوة العظيمة وحده , و لا حول و لا قوة , كل هذا كان منه ,.و الناس احباء ما الفوا و ان كان خسران الدنيا و حرمان الاخرة , اعداء ما جهلوا و ان كان رغد العيش و عزة السيادة و منتهى السعادة , كل هذا و القوم حواليه اعداء انفسهم و عبيد شهواتهم لا يفقهون دعوته و لا يعقلون رسالته , عقدت اهداب بصائر العامة منهم باهواء الخاصة و حجبت عقول الخاصة بغرور العزة عن النظر..
لكنه فى فقره و ضعفه كان يقارعهم بالحجة و يناضلهم بالدليل و ياخذهم بالنصيحة و يزعجهم بالزجر و ينبههم للعبر و يحوطهم مع ذلك بالموعظة الحسنة , كانما هو سلطان قاهر فى حكمه , عادل فى امره و نهيه , او اب حكيم فى تربية ابنائه شديد الحرص على مصالحهم , رؤوف بهم فى شدته رحيم فى سلطته
ما هذه القوة فى ذلك الضعف ؟ ما هذا السلطان فى مظنة العجز ؟..
ما هذا الرشاد فى غمرات الجاهلية ؟
ان هو الا خطاب الجبروت الاعلى, قارعة القدرة العظمى , نداء العناية العليا , ذلك خطاب الله القادر على كل شىء الذى وسع كل شىء رحمة و علما , ذلك امر الله الصادع يقرع الاذان و يشق الحجب و يمزق الغلف و ينفذ الى القلوب , على لسان من اختاره لينطق به و اختصه بذلك و هو اضعف قومه ليقيم من هذا الاختصاص برهانا عليه بعيدا عن الظنة بريئا من التهمة لاتيانه على غير المعتاد بين خلقه
اى برهان على النبوة اعظم من هذا ؟ ..
بعيد عن مدارس العلم صاح بالعلماء ليمحصوا ما كانوا يعلمون
فى ناحية عن ينابيع العرفان جاء يرشد العرفاء
ناشىء بين الواهمين هب لتقويم عوج الحكماء
غريب فى اقرب الشعوب الى سذاجة الطليعة و ابعدها عن فهم نظام الخليقة و النظر فى سننه البديعة , اخذ يقرر للعالم اجمع اصول الشريعة , و يخط للسعادة طرقا لن يهلك سالكها , و لن يخلص تاركها
ما هذا الخطاب المفحم ؟ ما ذلك الدليل الملجم ؟
أأقول ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم ؟
لا لا اقول ذلك , و لكن اقول كما امره الله ان يصف نفسه : ان هو الا بشرا مثلكم يوحى اليه ".
----------
المراجع :
1- المرسل الرسول الرسالة / الشهيد محمد باقر الصدر
2- هذا الدين / الشهيد سيد قطب
3- عبقرية محمد / عباس العقاد
4- سيد المرسلين / جعفر السبحانى
5- تثوير القران / جمال البنا
6- الاسلام و العقلانية / جمال البنا
7- القران و الكتاب / القس يوسف الحداد
8- مصدر القران / الدكتور ابراهيم عوض
9- محمد / مصطفى محمود
10- رسالة التوحيد / الامام محمد عبده
الساكت عن الحق شيطان اخرس

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الدراسات والأبحاث“