أيها الإنسانيون... أنتم ذاهبون إلى النار
الأحد, 06 يونيو 2010
عبدالله حميد الدين *
كافة بغير اطلاع على أي مصدر أخبار. حكومات عربية تدين. لا أحد يأخذ تلك
الإدانات بأي جدية. وكيف نؤخذ بجدية والعرب تحاصر غزة كما تحاصرها إسرائيل؟
حكومات أو مؤسسات إنسانية حقوقية تدين ولكن بغير أي أثر على مجريات الأمور.
الأمم المتحدة تأسف على المآسي الإنسانية في أحسن الأحوال وتدعو للتريث.
الولايات المتحدة تقف مع إسرائيل كما تقف دائماً مع حلفائها في أمريكا الجنوبية
وفي الشرق الأوسط وفي شرق آسيا. إسرائيل لن تبالي ولن يحرجها الأمر، فهي معنية
بأمنها ووجودها وبعلاقاتها الاقتصادية والتي لن تتأثر بهذه الزوبعة التي ستزول.
على المدى البعيد لا أتصور أن الحدث سيفيد القضية الفلسطينية بقدر ما سيفيد
غيرهم. الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية ستستفيدان كثيراً من هذا.
والحديث الذي بدأ يظهر عن رفع الحصار أو تخفيفه سيتم إخراجه وكأنه إنجاز أمريكي
وتنازل إسرائيلي فيكسبان بذلك ورقة في عملية سلام الكل يعلم أنها سترواح مكانها
لفترة طويلة. إيران أيضاً مستفيدة. فهي تحتاج إلى أي شيء يؤيد المبادرة التركية
بخصوص موضوعها النووي. وما حصل قد يجعل الولايات المتحدة أقل استعداداً
لاستفزاز آخر لتركيا. كما إن إيران تحتاج إلى تهييج قوى الرفض في المنطقة، وهذا
ما حصل.
بعضنا يرى أن في دخول تركيا بهذا الشكل مكسب كبير. ولكن هناك زاوية أخرى للنظر.
تركيا تحاول منذ فترة طويلة الدخول إلى المنطقة العربية، و القضية الفلسطينية
بوابتها الأساسية في ذلك. وكون أكثر القتلى أتراك سيعطي لتلك الجهود زخماً
كبيراً أكثر مما حصل أيام خروج أردوغان مغاضباً في مؤتمر دافوس. وهي تريد
الدخول إلى المنطقة لأكثر من سبب. من جهة يخدم علاقتها وموقعها من الولايات
المتحدة. فالأخيرة بحاجة إلى دولة مسلمة توازن الحضور الشعبي المتزايد لإيران،
وبحاجة إلى دولة كبيرة توازن القدرات الاستراتيجية لإيران. وتركيا يمكن أن تقوم
بهذا الدور مما يعزز دورها الأمريكي الذي تناقص بعد الحرب الباردة. ولا أتصور
إطلاقاً تركيا تتحرك في المنطقة وتتدخل في القضية الفلسطينية بغير بتنسيق مع
الولايات المتحدة بل مع إسرائيل. تركيا لن تفرض نفسها بطريقة تخلق مواجهة مع
الدولتين. هي ليست إيران ولا تريد أن تكون كذلك. من جهة ثانية يخدم علاقتها
بالاتحاد الأوربي والتي تجاهد تركيا من أجل الانضمام إليه. فحضورها في المنطقة
يزيد من قيمتها باعتبارها بوابة أروبا للعالمين العربي والإسلامي. من جهة ثالثة
يعيدها إلى فضائها التقليدي بعد طول غياب مما يفتح لها فرصاً استراتيجية
واقتصادية هائلة. ومن البساطة أن نظن أن تركيا مدفوعة أساساً بدوافع أخلاقية أو
إنسانية في دعمها للقضية الفلسطينية. أو أنها تتحدى الولايات المتحدة وإسرائيل.
ما أراه هو استثمار لمشاكل المنطقة في سبيل خدمة مصالحها الاستراتيجية. الأفراد
ـ ومنهم أردوغان ـ قد يتحركون بدوافع أخلاقية ولكن الدول تتحرك بدوافع أمنية
أولاً، ومصالحية ثانياً، وإذا تحقق هذا وذاك ربما تتحرك أخلاقيا. تركيا كإيران
تلعب الورقة الفلسطينية ولكن بطريقة مختلفة. ولا يعني هذا أنها سيئة، ولا يقلل
هذا من إيجابية ما تقوم به، وإنما أريد وضعه في إطار الواقع لكي لا نذهب بعيداً
في التفسير. أما لغة تهديدها فمتوقعة في مثل هذه الظروف لذلك فلن يأخذها
الإسرائيليون بحرفيتها. وستمضي الأيام ولن تعمل تركيا شيئاً. ولكن المؤكد أن
دورها سيزيد، ولكن سيزيد بموافقة وتنسيق مع إسرائيل وأمريكا، بل لا أستبعد أن
تكون الضربة الإسرائيلية غرضها تذكير تركيا بأن إسرائيل هي المتحكم بمدى الدور
التركي، وليس العكس. وبخصوص علاقة تركيا وإسرائيل وتقاطعها مع القضية
الفلسطينية علينا أن نتذكر أن أيام خروج الرئيس أردوغان مغاضباً في مؤتمر دافوس
كان الأتراك يبحثون تأجير المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا لشركات إسرائيلية
في مقابل إزالة الألغام فيها وتحويلها إلى منطقة زراعية. أردوغان رجل نبيل
ولكنه يمثل دولة ذات مصالح استراتيجية.
وقد أثارت المأساة تعاطفاً وسخطاً عالميين. وارتفعت وتيرة الانتقادات الموجهة
ضد إسرائيل، وتحفز كثير من الناشطين للقيام بأعمال سلمية متنوعة لمواجهة دولة
إسرائيل. سفن حرية أخرى يتم إعدادها كتلك التي يعمل عليها مجموعة شباب في
السعودية تنطلق من جدة. أصوات مطالبة بمقاطعة المنتجات الإسرائيلية الآتية من
مستعمرات الضفة الغربية ارتفعت وحققت نجاحات في جامعات أمريكية. مظاهرات أمام
سفارات الدولة العبرية. وغير ذلك. ولكن ستهدأ تلك الأمواج. ثم سيموت العشرات
داخل فلسطين كما كانوا يموتون بصمت بعيداً عن الإعلام وعن الأحداث الرمزية ولن
يسخط حينها إلا القليل القليل من أجلهم.
في خضم هذه المأساة نحن بحاجة إلى تعزيز مسار آخر في المواجهة مع إسرائيل. غير
المسار السياسي وغير المسار المسلح وغير المسار الإنساني. تلك تشترك في أنها
تواجة إسرائيل الدولة. وأتصور أن مواجهة إسرائيل الدولة لن تجدي كثيراً
لاستعادة كافة الحقوق من إسرائيل ولكنها تبقى ضرورية وحيوية للحد من توسع
إسرائيل وزيادة غطرستها.إلا أن إسرائيل ليست دولة فحسب، وإنما هي فكرة أيضاً.
ونحن إلى الآن لا نواجه الفكرة بالقدر الكافي.
الفيلسوف والسياسي شيشرو قال عن روما: "روما ليست مكاناً، روما فكرة". عبارة في
غاية العمق والبساطة. فالأمبراطورية الرومانية ليست روما المدينة، ولا
الأمبراطور أو حكومته، ولا الأراضي أو الشعوب المنضوية. تلك تجليات روما. روما
هي فكرة تعيش في العقول. وإسرائيل أيضاً فكرة قبل أن تكون أرضاً ودولة. وتلك
الفكرة مركبة من عناصر متعددة ربما المركزي فيها هو "عرق يهودي في الشتات".
أياً كان هي فكرة والدولة أحد تجلياتها. وأتصور أن الدخول إلى عمق العقل
الإسرائيلي وزعزعة الفكرة التي قامت عليها إسرائيل سيؤثر بطريقة مختلفة تكمل
وتعزز الجهود السياسية والمسلحة والإنسانية.
استراتيجية مواجهة فكرة إسرائيل لا تجد الاهتمام المطلوب لأن تنفيذها يتطلب دعم
عملية السلام وبعض التطبيع الذي يسمح بالوصول إلى بعض النخب الإسرائيلية التي
مستعدة للسماع. ومعظمنا غير مستعد نفسياً لذلك. أنا مقتنع بضرورة التفكير في
الأمر ولكن شخصياً لا أدري هل مستعد نفسياً للجلوس في جامعة تل أبيب مع أساتذة
أو طلاب إسرائيليين؟ وهو شرط أساسي لإنجاح الاستراتيجية لأن الأفكار لن تنقل
عبر الكتب والمقالات، وإنما عبر اللقاءات والحوارات الشفهية بل والصداقات. سبب
آخر يحول دون تلك الاستراتيجية هو أننا نخشى على أفكارنا. فلا يمكن النفاذ إلى
عقل أحد، ما لم تسمح له هو بالنفاذ إلى عقلك. النفاذ من جهة واحدة يتحول إلى
خطاب استعلائي مقيت ومرفوض. إذا أردنا أن نواجه فكرة إسرائيل فإننا سنفتح
عقولنا لهم بقدر ما سنحاول أن نصل إلى عقولهم. ونحن أيضاً غير مستعدين لهذا.
أسئلتنا التي سنطرحها عليهم سيطرحونها بذاتها علينا. سنثير عليهم أمثلة،
وسيثيرون علينا العشرات. المأساة هذه أثارت علينا أسئلة. أسلم ناشط على إحدى
السفن فاستبشرنا لأنه خلص نفسه من النار. هل مجيئه على السفينة كان بغير قيمة
قبل إسلامه؟ ماذا لو لم يسلم؟ بل ماذا عمن لم يسلم؟ ماذا عن إيميلي هينوشويز
فنانة وطالبة جامعية أمريكية فقأ الإسرائيليون عينها هذا الأسبوع وهي تتظاهر في
الضفة الغربية ضد ما حصل للسفن. لم تسلم. فهل نقول لها بصمت وفي زوايا خفية من
عقولنا: أنت كافرة ضحيت في سبيل الخير في هذه الحياة ولكنك في الحياة التالية
في الجحيم مع الجندي الذي فقأ عينك؟ *ربما نخشى اكتشاف أن رؤيتنا نحن
والإسرائيليون للعالم متشابهة. كلنا يحتكر أمراً ما وكلنا ينفي وجود من ليس
منا. بعضنا في الدنيا وبعضنا في الآخرة. وجهان لعملة واحدة. والفرق الجوهري
بيننا هو أنهم أقوى ونحن أضعف*. فالمفارقة هي أنه لن يحصل تغيير ذا شأن ما لم
نواجه فكرة إسرائيل، ولكن لا يمكن مواجهة فكرة إسرائيل بغير مواجهة أنفسنا
أولاً
http://www.daralhayat.com/PDF_ksa/Files ... 06_p12.pdf