المختصر المفيد للنظرة والبيان في متشابه القرآن

هذا المجلس لطرح الدراسات والأبحاث.
أضف رد جديد
الرائق
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 30
اشترك في: الخميس ديسمبر 18, 2003 11:44 pm
مكان: جدة
اتصال:

المختصر المفيد للنظرة والبيان في متشابه القرآن

مشاركة بواسطة الرائق »

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
وبعد :-
لما رأيت من فائدة جمة في كتاب " نظرة وبيان في متشابه القرآن " , أضع بين يدي القارء العزيز مختصر لهذا الكتاب , والذي حوى على كثير من القضايا الأصولية الخلافية بين العدلية و أهل الحديث أو كما يفضلون أن يسموا أنفسهم بأهل السنة .
وعلى بركة الله نبدأ , وقبل البدأ نذكر بمؤلف الكاتب , أجزل الله في أجرة وعطائه , ونفعنا بعلمه وجهده . وهو
عبد المجيد بن عبد الرحمن بن الحسن الحوثي .

الكتاب :
نظرة وبيان في متشابه القرآن " دراسة في نظرية التأويل والتشبيه عند أهل البيت وأهل السنة ".




مقدمة البحث

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
وبعد:-
فإن للمتأمل في أحول الأمة وما تفرقت عليه من مناهج اعتقا دية أصولية كانت أم فرعية, يرى ما أصبحت عليه كل فرقة من تعصب لرأيها دون إمعان النظر في أراء المذاهب الأخرى, وقد أدت هذه الطريقة إلى إضعاف القدرة الثقافية الاستنباطية القادرة على تمييز الخطأ من الصواب لدى المسلم نتيجة القمع لحرية الرأي الإسلامي المخالف وإيجاب التقليد عموما, مما أدى إلى انقياد الفرد المسلم إلى التقليد دون الرجوع إلى التمعن من صحة المُقلد, سواء كان عالما مجتهدا أم غير مجتهد.
ولا يخفى على المطلع أن لهذا العامل الدور الكبير في إخفاء وتدليس وتحريف المذاهب الإسلامية, وعدم ظهورها كما هي عند أهلها وأصحابها. ومن هذه المذاهب المذهب الزيدي والذي وللأسف لا يعرف عنه إلا القليل وليت القليل نافع, فأكثر ما قيل عن المذهب الزيدي استنبط من خارج المذهب عن طريق أصحاب المؤلفات في الملل والنحل, والذين لا يمثلون الزبدية رأيا أو اعتقادا.
وسوف نحاول بإذن الله إلقاء الضوء على أهم العقائد الزبدية وتعارضها مع مذهب أهل الحديث, مع النظر في أدلة الفريقين.








بسم الله الرحمن الرحيم

وأتم الصلوات والتسليم على أشرف الأنبياء والمرسلين قائد الغر المحجلين سيد الأولين والآخرين سيدي محمد بن عبدا لله النبي الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين _المقرونين بكتاب العلي العظيم _ صلاة غير مبتورة, وعلى أصحابه الميامين ومن سار بنهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:-
انقسم الناس بعد رسول الهدى في صفات رب الهدى إلى فرقتين, وكل يدعي وصلا بليلا...
ونسأل الله أن يعجل لم شمل هذه الأمة, ويؤتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقنا عذاب النار.
1- الفرقة الأول: ويقال لهم العدلية وهم أهل البيت ومن تبعهم من المعتزلة وبعض فرق الخوارج, وسموا بالعدلية لأنهم قالو بعدل الله وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين.
2- الفرق الثانية: أهل الحديث ( المحدثين, ويطلقون على أنفسهم أهل السنة ولو أن هذا الاسم فيه نظر, فالكل يدعي وصلا بسنة رسول الله ) وبعض الأشاعرة المتفرعين عن أهل الحديث (ولهم أراء تخالف أهل الحديث في بعض المسائل) وفرق المجبرة.
ومحاولة منا للتقريب وجهات النظر بين المسلمين أملين من الله أن يكتب أجرنا مع الصديقين الشهداء إنه أكرم الأكرمين.
وسنخص هذا البحث في النقاش حول الأسماء والصفات وما يجوز فيها على الله عز وجل وما لا يجوز. وسيكون البحث في عدة نقاط:-
• نزول القرآن بلغة العرب
• المحكم والمتشابه
• عقيدة أهل البيت ومن تابعهم
• عقيدة أهل الحديث ( أهل السنة )
• مناقشة مسائل الخلاف

ونستعيذ بالله من الهمزات واللمزات وعليه نتوكل وعلى بركته نبدأ


نزول القرآن بلغة العرب

وقبل البدء بذكر هذا الباب نذكر بالسبب من ذكر هذا الفصل ألا وهو تفسير القرآن. فكما يعلم المطلع أن من أهم الأسس في تفسير القرآن المعرفة باللغة العربية وهي التي تنزل بها القرآن
وفنونها واستخداماتها عند العرب.
أما نزول القرآن فلا يختلف اثنان على أن القرآن نزل بلغة العرب فقد قال الله ((إنا أنزلنه قرءنا عربيا )) وقال ((قرءانا عربيا غير ذي عوج)) ((بلسان عربي مبين)) وقال تعالى ((وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)). فقد ثبت أن القرآن نزل بلسان العرب ولغتهم وطريقتهم في التعبير عن مرادهم, فإذا رأينا الله سبحانه ذكر في القرآن الكريم على السبيل المثال ( الوجه والساق واليد والجنب ) وغيرها من الألفاظ ونسبها إليه عز وجل, وجب علينا أن نبحث عن معانيها في لغة العرب.
فعلى سبيل المثال لا الحصر... يراد بالوجه عند العرب عدة مقاصد. فقد يقصد بالوجه الحقيقة كوجه الإنسان أو وجه الحيوان وغيرهم من المخلوقات, وقد يطلق الوجه مجازا على واجهة الشيء كقول: وجه البيت, وقد يأتي مجازا أيضا ويقصد به ذات الشيء كقولنا: هذا وجه الصواب ( أي هو الصواب ذاته ), ويطلق على الذمة والعهد كما يقال: هذا المال في وجهي ( أي في ضماني وذمتي ) ويطلق على غير ذالك من المعاني.
وكذلك الساق والجنب وغيرها من الألفاظ الموهمة نجد أن لها معان في اللغة تأخذ على الحقيقة وعلى المجاز أيضا. ونستطرد قليلا عند أساليب العرب في كلامهم.
أساليب العرب في كلامهم:-
وللعرب عدة أساليب في التعبير نذكر منها
- الحقيقة:
وهي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب.
- المجاز: وهو نوعان
1- مجاز عقلي: وهو إسناد الفعل أو شبهه إلى غير من هو له بل ملابسه, كما قال تعالى ((في عيشة راضية)), والأصل راض أصحابها, وكقوله تعالى حاكيا عن فرعون ((يهمن ابن لي صرحا)) مع أن الباني حقيقة هم العمال.
2- مجاز لغوي: وهي الكلمة المستعملة لغير ما وضعت له لعلاقة, مع قرينة كما في قوله تعالى في وصف القرآن (( ولكن جعلنه نورا )) وقال في رسوله الكريم ((وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا )) فأطلق السراج والنور على غير معناها الحقيقي كما لا يخفى. وله أقسام وعلاقات كثيرة مذكورة في علم المعاني والبيان, والغرض هنا الاختصار.
3- الكناية: وهي التعبير باللازم وإرادة الملزوم كما قال تعالى (( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا )) فكنى سبحانه وتعالى بقبض اليد عن الشح والإمساك, وكنا ببسطها عن الكرم وكثرة الإعطاء, وهذا مذكور بكثرة في القرآن والسنة ولغة العرب.
ومن أساليب اللغة...
4- الحذف والزيادة: فقد تحذف العرب كلمة وهي تريدها كما قال تعالى (( وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها )), وإنما أراد تعالى أهل القرية, وأصحاب العير.
وقد تزيد العرب كلمة وهي لا تريدها كما قال تعالى (( لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء )), وإنما المعنى ليعلم أهل الكتاب.

المحكم والمتشابه

وبعد أن عرفنا أساليب العرب في التعبير عن مرادهم في اللغة بقي أن نلقي الضوء على ما أخبرنا الله به من محكم القول وتشابهه في القرآن الكريم, إذا يقول الله تعالى (( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشبهات فأما الذين في قلوبه زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألبب )). فأخبر سبحانه أن المحكم هو أم الكتاب وأصله الذي يرد المتشابه إليه, لأن الأم في اللغة هو ما يرجع إليه, ومن ثم سميت الأم أما لأن أولادها يأمونها ويرجعون إليها, ومن ثم سميت مكة بأم القرى لأنها يرجع إليها جميع المسلمين.
ثم أخبر تعالى أن المتشابه يتبعه الذين في قلوبهم زيغ ليصدوا الناس عن الحق ويفتنونهم عن الدين والعقيدة الصحيحة ويتأولونه على ما يوافق أهوائهم. ثم أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم حيث يقولونا ((أمنا به كل)) المحكم والمتشابه ((من عند ربنا )). فإن كان كله من عند الله فلا يجوز أن يخالف أو يناقض بعضه بعضا لأن تعالى قال (( ولو كان من عند غير الله لوجدوا في اختلاف كثيرا )), فلما أمنوا به(( كل من عند ربنا)) فسرو المتشابه على المعاني التي تتوافق مع المحكم من القرآن.
ولكن حتى هذه الآية وقع فيها اختلاف وسنورده إنشاء الله.
فقد فسر أهل الحديث أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله ويقفون على لفظ الجلالة ((إلا الله )), ويقولون أن قوله: ((والراسخون في العلم)) كلام مستأنف, أي الراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا. وعلى هذا التفسير يكون مذهب أهل البيت ومن وافقهم في تأويل المتشابه بناءا على المحكم باطلا. لأن المتشابه على حد تفسيرهم لا يعلمه إلا الله فعبثا يحاول الإنسان معرفته.
ويرد أهل البيت على هذا التفسير: أن الإيمان بالمتشابه واجب على كل مؤمن, فلو كان فلو كان المراد ما قلتم " أن صفة الراسخون أنهم يقولون كل من عند الله " لم بقي لوصفهم بالرسوخ في العلم فائدة لأن كل مؤمن يجب عليه الإيمان بأن كل من المحكم والمتشابه من عند الله, فكل يقول: ((كل من عند ربنا)).
وأيضا إذا كان لا يعلم تأويله إلا الله فلماذا قال حبر الأمة عبدا لله بن عباس: أنا من الراسخين في العلم. وقال أيضا: أنا ممن يعلم تأويله.
ويكفي قبل ذكر دعاء رسول الله له إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أللهم علمه الحكمة وتأويل القرآن.
وكل هذه أدل على أن القرآن يحتاج لتأويل الراسخين في العلم حتى يعوه, فالمحكم لا يؤول.
وعلى هذا بطل القول بأن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله.
وللأسف أن أهل الحديث يرجعون إلى التأويل في كثير من الآيات والأحاديث, ويتوقفون عند الأخر منها.
وسنورد بعض الأمثلة على ذالك:-
((وهو معكم أينما كنت )) قالوا: المقصود علمه " الذهبي في سير أعلام النبلاء, والبيهقي في الأسماء والصفات.
((ءأمنتم من في السماء )) قالوا: من فقوها وبعضهم قال: أي الملائكة. "أمالي العراق ص77.
وقوله ((لاتدركه الأبصار)), قالوا: لا تحيط به الأبصار في الدنيا, ومنهم من قال: لا تحيط به أبصار الكافرين “الإبانة ص74 "
((لن تراني)) قالوا: يعني في الدنيا. وغير هذه الآيات كثير.
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تعالى: يا أبن آدم مرضت فلم تعدني ,فقال العبد : يا رب فكيف أعودك وأنت رب العالمين , فقال الله : أما علمت أن عبدي مرض فلم تعده , أما علمت أنك لو أعدته لوجدتني عنه . مسلم
ففسر النووي في شرحه(16/126) , قال العلماء إنما أضاف المرض له سبحانه ومراده العبد تشريفا للعبد وتقريبا له . قالو : وما معنى وجدتني عنده ؟ قال : أي وجدت ثوابي وكرامتي انتهى . وعلى هذا ....
فإن دعوا التمسك بظاهر القرآن والسنة غير صحيح فهم لا يكتفون بالمحكم فقط ويسكتون عن المتشابه , بل يؤولونه , فلا حجه لهم في تأويل غيرهم لصفات الله , وللأسف يصفونهم بالمعطلة .

كيف يعرف المحكم من المتشابه ؟؟؟
فإن قيل إذا كان القرآن يحوي المحكم والمتشابه , فكيف السبيل إلى معرفة المحكم من المتشابه , فقد يدعي أحد الفريقين أن الآيات التي يستدل بها هي من المحكم فيما يدعي خصمه غير ذالك ؟؟؟
فيقال له جوابا على هذا أنه يجب أن يعرف ما هو المحكم وما هو المتشابه , فقد عرف علماء الأصول المحكم والمتشابه , فقالو :
المحكم : قال الآمادي في الإحكام "ج 1, ص 237 " : أما المحكم فأصح ما قيل فيه قولان .
الأول : أن المحكم ما ظهر معناه وانكشف كشفا يزيل الإشكال ويرفع الاحتمال وهو موجود في كلام الله , والمتشابه : المقابل به : ما تعارض فيه الاحتمال .... إلخ .
وعلى هذا فقد عرفت أن المتشابه مقابل المحكم , أي أنه لم يظهر ولم يتضح معناه بل تعارضت فيه الاحتمالات . فعرفت أن المتشابه هو ما يكون معناه غير ظاهر , وقد يخالف في بادئ الرأي المحكم , ولكن عند التأمل يكون معناه مطابقا للمحكم بإذن الله .
ولو فرضنا أن الأمر ( المتشابه ) لم يكن واضحا ولن يتضح حتى بعد التأمل والتدبر , لكان الله قد لبس خطابه , ولم يبين مراده " وحاشا الله من ذالك " وهو القائل : ((تبينا لكل شيء)) وقوله (( وما فرطنا في الكتاب من شيء )) وقوله ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس م انزل إليهم )) وقوله ((ليهلك من هلك عن بيته ويحيى من حيى عن بينه )) , فما على المؤمن إلا أن ينظر بعين قلبه وغايته وينزع هوا التعصب للآباء والمشائخ . ونذكر بقوله تعالى (( وما يلفظ من قول إلا ولديه رقيب )) وقول عز من قائل (( ولا يجرمنكم شنئان قوم أن تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )) وصدق الله العظيم .

وبعد أن بينا أساليب العرب في الكلام , ونزول القرآن بلغتهم واسلوبهم في التعبير , وأبنا محكم القول من متشابهه .
ومن ثم نورد عقيدة كل من أهل البيت ومن تبعهم , وأهل الحديث ومن تبعهم في تفسير القرآن واستنباط معانيه .

عقيدة أهل الحديث ( أهل السنة )

وأهل الحديث يقولون : بأن لله وجها ويدا وعينين ورجلا وساقا (كما تليق بجلاله) , ودعواهم أنهم يثبتون ذالك بالقرآن التي وصف الله بها نفسه .
وهناك صفات أخرى مثل : الصدر والفخذ و الحقوا والرأس وفي هذه يقولون من السنة . وللأسف أن هذه الأحاديث أ, أكثرها ضعيفة أو موضوعة .
وهم ينقسمون في ذالك إلى فرقتين :
- فمنهم من ليس بهذه البشاعة والصراحة في التجسيم , فهم يؤولون أحيانا , وأحيانا يقولون نمر على الآيات على ظاهرة ولا نتعرض لها , وكذالك الأحاديث . وهذه الأقوال أقوال بعض القدماء من أهل السنة . وخالفهم في ذالك الفرقة الثانية ....
- وهم الحنابلة المشبهين المصرحين بالتشبيه , فإنهم صرحوا بالتجسيم ولم يتقيدوا بمذاهب أسلافه من أهل السنة . فألفوا في هذه الصفات المؤلفات وبوبوها بأسماء الأعضاء ( اليد والقد والساق والحقوا وغيرها ) ومن ثم يقال بما يليق بجلاله . وهنا نقول حسبنا الله ونعم الوكيل , فأي جلال بقي إن أصبح الخالق كالمخلوق . حتى قال أبو يعلي الحنبلي : ألزموني ما شئتم فإني ألزمته إلا اللحية والعورة ( العواصم 2/283 ) .






عقيدة أهل البيت ومن تابعهم

فمذهب أهل البيت عليهم السلام , أن الله ليس بذي مكان ولا يحتاج إلى مكان , وهو خالق الزمان والمكان, قد كان الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق المكان والزمان مستغنيا عن المكان , فكذالك يكون الله تعالى بعد خلقه للمكان مستغنيا عن المكان , ولا يمر عليه زمان ولا يحويه قطر , ولا تناله العقول ولا تتوهمه , ولا تحده الحدود , ولا تتصوره التصورات , لأن ذالك فيما يجوز في حق المخلوق ولا يجوز في حق الخالق عز وجل .
وليس بذي أجزاء ولا أعضاء , فليس له وجه ولا يد ولا قدم ولا ساق ولا جنب "على وجه الحقيقة في اللغة" ولا شيء من الأعضاء التي تكون للمخلوقين . لأنها صفات المخلوق الضعيف التي خلقه الله عليها . فلا يجوز أن يشابه الله صفات المخلوقين من العوارض والأحداث , لأن العوارض ليس بقديمة والله هو القديم , والأحداث هي المحدثة فتحتاج إلى محدث يحدثها . وعلى هذا يذكر القارئ اللبيب احتجاج الربانيين من كل مللهم على الملحدين في أن هذا الكون يجب أن يكون له صانع , حتى وإن كان الكون قد نتج عن التفاعلات بين إلكترونات الذرة , فمن أوجد الذرة ؟!! فالذرة جسم والجسم عارض ومحدث , والمحدث والعارض لا يحدث محدثا مثله , إلا في وجود قوة خارجية . وعلى هذا بطل كون الله جسما ( وحاشى الله من ضعف الأجسام واحتياجها ) فالأجسام محدثة عارضة .
فنحن لم نعرف الله سبحانه وتعالى إلا من خلال مخلوقاته , لما رأينا أن هذه الأشياء والمخلوقات الموجودة عاجزة على أن توجد وتصور نفسها , فعرفنا أن ما من جسم إلا وله مجسم , وما من صورة إلا ولها مصور ولا من مخلوق إلا وله خالق وهو المستحق للعبادة . ونضيف على هذا نتاجا عما سلف أن الله لا يمكن رؤيته لا في الدنيا ولا في الآخرة , و إلا لوقعت فيه المشابهة بالمخلوقين , وذالك أن المرئي يجب أن تتوفر فيه صفات الرؤيا , كاللون والشكل وغيرها وحاشا الله عن ذالك .


وبعد أن بينا موقف الطرفين من هذه القضية نبدأ بإذن الله بأخذ المسائل واحدة تلو الأخرى والله ولي التوفيق


• مسألة المكان :-
هل الله تعالى يحل في مكان أو ليس في مكان ؟؟؟
فقال أهل الحديث أو كما يفضلون تسميتهم أهل السنة أن الله فوق العرش ويزعومون أن العرش فوق السماء وقد رو ذالك في صحاحهم " أن بين الأرض والسماء مسيرة خمسمائة سنة , ومن كل سماء إلا سماء مسيرة خمسمائة سنة , وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة , وفوق السماء السابعة بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض , ثم فوق ذالك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض , ثم فوق ذالك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تبارك وتعالى فوق ذالك "(( أبو داود (4/231 رقم 4723 ) وابن ماجة (1/69 برقم 193 )أحمد في مسنده (1/206) واللفظ له)) .
وفي رواية " إن عرشه على سماواته كها كذا _ وقال بإصبعه مثل القبة عليه _ وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب !!! " سنن أبي داود كتاب السنة باب الجهمية " . وبعضهم يقول إن الله على العرش دون أن يكون العرش على أة عال كما في الرواية السابقة .
وبهذا يكونوا قد أثبتوا المكان لله تعالى بقولهم أنه في جهة أو فوق _تعالى الله عن ذالك_ .

ونحن نقول كما تقدم أن الله لا يجوز أن يحويه زمان ولا مكان .

استدلال أهل السنة أن الله فوق العرش :-
واستدلوا بآيات متشابهات منها قول الله (( الرحمن على العرش استوى )) وقوله (( خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش )) وقال تعالى (( وكان عرشه على الماء )) وقال (( رب العرش العظيم )) وقوله تعالى (( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية )) .
فقالوا : إذا فقد قال الله إنه إستوى على العرش فلا بد أن يكون الله على العرش كما أخبر عن نفسه .
وقالوا : نحن نبقي الآيات كما هي على ظاهرها ولا نحرفها , ولا نتأولها كما فعل غيرنا من تأويل المعنى الحقيقي على المجازي , فقد أولو الاستواء بالاستيلاء , وأولو العرش بمعنى الملك .
لأن ذالك ( التأويل ) خروج عن ظاهر القرآن ومعناه , وذالك لا يجوز , بل تحمل على الظاهر لأننا لا نعلم تأويله (( وما يعلم تأويله إلا الله )) بل نؤمن به كما جاء من دون تأويل .

الجواب على استدلالهم :-
فنقول لهم أولا في مسألة التأويل : نريد منهم أن يثبتوا على هذه القاعدة التي قرروها : وهي عدم جواز التأويل والبقاء على الظاهر دون الأخذ بالتأويل ( ولس التأويل في جزء وتحريمه في أخر ) . فيلزمهم ما قرروه أن لا يؤولوا ولا في آية واحدة.وعليهم الإيمان بها كما جاءت على ظاهرها .
فإذا التزموا ذالك قلنا لهم :
صحيح أن الله قال (( على العرش استوى )) وقال (( ثم استوى على العرش )) , وغير ذالك من الآيات التي لا يمكن لأحد أن نكرانها . ولاكن على مبدأكم بالأخذ بالظاهر وعدم التأويل هنالك آيات يناقض ويعارض ظاهرها الآيات السابقة . فإما أن تثبتوا على ما أنتم عليه وتقعوا في التناقض أو تتأولوا بعضها فتخرجوا عن قاعدتكم في عدم التأويل .
الآيات التي يناقض ظاهرها ما استدلوا به :-
فنقول : قال تعالى (( وهو الله في السموات والأرض )) (( ءأمنتم من في السماء )) (( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله )) . فأخبر الله عن نفسه بأنه في السماوات وفي الأرض على ظاهر الآيات . وهذا يناقض قولهم بأن الله فوق العرش الذي فوق الماء الذي فوق الأوعال التي فوق السماء ( أي ليست في السماء ولا في الأرض ) وهنا التناقض . فلا مخرج من هذا التناقض إلا بالتأويل على المجاز وغيره من أساليب العرب . وأيضا قوله تعالى (( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد )) وغيرها كثير من الآيات التي يناقض ظاهرها ظاهر الآيات التي استدلوا بها على مكن الله , وقول إبراهيم (( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين )) فقال خليل الله أنه ذاهب إلى الله وهو لم يصعد إلى العرش , إنما ذهب إلى ناحية من الأرض بعيدا .
أما ما يخص السنة فنختصر ونذكر الحديث الذي رواه مسلم (4/1990 برقم 2569 ) في زيارة المريض أن الله سبحانه وتعالى يقول: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني, قال: يا رب كيف أعدك وأنت رب العالمين, فقال الله: أما علمت أن عبدي فلان مرض ولم تعده, أما علمت أنك لو أعدته لوجدتني عنده.
ويستفاد من هذا الحديث فائدتان, وفيه جواب عليهم من وجهين:
الأول: أن الله ليس فوق العرش كما ادعوا, بل عند المريض.
الثاني: يدل ظاهر الحديث أن الله يمرض وينسب إليه المرض, وليس هناك أحد من المسلمين يجوز نسبة المرض إلى الله ولا يبيحون حمل هذا الحديث على ظاهره.
فيلزم أهل السنة ( أهل الحديث ) أمرين:
1 – إما أن لا يتأولوا ويأخذوا بالظاهر كما هي دعواهم, فينسبوا المرض إلى الله –تعالى عن ذالك.
2- أن يقولوا بخلاف الظاهر فيتأولوا الحديث , فيقولوا إنما عبر الله عن مرض عبده بمرضه وسماه بذالك , وأن من زار عبده كأنما زار الله وذالك تشريفا للعبد ورفعا لدرجته , وهو تعبير من الله على سبيل الكناية . وعلى هذا يكونوا قد عدلوا عن ما قرروه من عدم جواز التأويل والأخذ بالظاهر الذي أخذوه عن أسلافهم تعصبا وتعنتا .
وفي حديث آخر لمناجات موسى لربه يقول : يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك ؟ , قال يا موسى أنا جليس من ذكرني . (كتاب الذكر)
وفي حديث أخر : يا رب أين أجدك ؟ , قال : تجدني في قلب كل ذاكر.( نفس المصدر السابق )
وغيرها من الأحاديث كحديث السجود , وقرب المر أه من ربها وهي في قعر بيتها , وغيرها كثير .
إذا فهل نأخذ الآيات والأحاديث على ظاهرها ولا نؤول فيقع التناقض , وهو غير جائز لقول الله (( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلفا كثيرا )) . إذا لم يبق الحل إلا التأويل ليسلم القرآن من التناقض و الاختلاف , وهو الذي يقول به أهل البيت ومن تابعهم , ويعملونه في القرآن وصحيح السنة .
وفي الحقيقة أن أهل السنة يتأولون أيضا كما سنبين فيما بعد .
ولاكن يا عيبا على من حرم على غيره وأباح لنفسه .


التأويل الصحيح لهذه الآيات عند أهل البيت عليهم السلام :-
فأهل البيت يؤولون الآيات المتشابهة على ما يوافق المحكم , وعلى ما يوافق تنزيه الله سبحانه وتعالى عن المكان والزمان , وعن الشبه بالمخلوقين في كل شيء من الأشياء , أو صفة من الصفات .
فقول الله (( خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش )) يفيد استواء الله على العرش.
ولا بد أولا من معرفة كلمة استوى في لغة العرب , وكذا معنى العرش , والبحث عن معانيها في القواميس العربية .
وبعد البحث تبين أن استوى تطلق على معاني , منها استوى بمعنى : اكتمل وتم, كما قال تعالى ((ولما بلغ أشده واستوى)) أي استقام وتم , وكما قال ((فاستوى على سوقه)) أي اشتد على سوقه واكتمل . ومنها استوى بمعنى استقر على الشيء, كما قال تعالى ((فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجنا من القوم الظالمين)) أي إذا استقررت على الفلك .
وجاء معنى استوى أيضا في لغة العرب بمعنى استو لا على الشيء , كما قال الشاعر :
إذا ما غزى قوما أباح حريمهم وأضحى على ما ملكوه قد استوى
وقال آخر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهرا ق
وقال آخر :
إذا ما علونا استوينا عليهم جعلناهم مرعى لنسر وطائر
(دفع شبهة التشبيه وهامش ص 121) .
فهاذ ه معاني الاستواء في اللغة العربية .

كما أن العرش يطلق على معاني منها : الكرسي , كما قال تعالى حاكيا عن سليمان ((أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين )) , فالعرش هنا بمعنى الكرسي الذي يجلس فوقه , ويسمى عرش المملكة .
ومن معاني العرش أيضا : الملك والنفوذ والسيطرة , مثل أن تقول امتد عرش بني فلان إلى منطقة كذا ومنطقة كذا ,تعني امتد ملكهم وسيطرتهم على تلك المناطق , وكما قال الشاعر :
رأوا عرشي تثلم جانباه فلما أن تثلم أفردوني .
يقول : لما رأوا ملكه سقط وانهار تركوه وحيدا .
وقال آخر :
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم بعتيبة بن الحارث بن شهاب .
ولا يريد الشاعر أنه حطم كاراسيهم ,غنما هدم ملكهم وأباد سلطتهم .
فهذه معاني معروفة للعرش في لغة العرب . ولا زلنا نستخدم هذه المعاني كأن نقول : استوى الملك فلان على عرش مملكته في يوم كذا في عام كذا , ولا نريد بذالك أنه جلس على كرسيه في تلك الفترة , وإنما المعنى أنه استولى على الملك في تلك الفترة .
إذا : فلا يجوز أن نفسر قوله تعالى (( ثم استوى على العرش )) بمعنى استقر على الكرسي , لأنه يلزم مخالفة بقية الآيات التي أخبرـ : أن الله في السماء والأرض , ومعنا أينما كنا , وأنه ليس كمثله شيء .
وأيضا إذا قلنا : أن الله مستقر على كرسي وسرير –كما قالوا- كان الكرسي و العرش أكبر من الله , فلم يعد (الله أكبر) بل العرش والكرسي أكبر , لأن المعروف أنه لا يصح أن يكون الجالس فوق الكرسي أو السرير إلا ويكون الحامل أكبر من المحمول , والظرف أكبر من المظروف .
فامتنع أن يكون الاستواء بمعنى الاستقرار والعرش بمعنى الكرسي أو السرير من جهة العقل ,لأنه لا يعقل أن يكون مخلوق لله (العرش والكرسي) أكبر من الله . ومن جهة القرآن والآيات التي تخالف ظاهر هذه الآية . فمنا بقي إلا أن نحمل الإتسواء على معنى الاستيلاء . فيكون معنى الآية : أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش , يعني استولى على الملك , أي استو لا على السماوات والأرض وما فيها وسيطر عليها , لأنها ملكه تعالى فلا يخرج شيء عن إرادته وقدرته .
إذا هذا المعنى الذي ذكرنا للآية معنى عربي جاءت اللغة العربية , و باستعمالنا إيه سلمنا من التناقض بين الآيات وبقينا على تنزيه الله , أنه لا يحويه مكان ولا يكون في مكان .
ويمكن أن نحمل العرش على حقيقته والاستواء على الاستيلاء , دون أن ندخل في تشبيه أو تجسيم فنقول : أنه يمكن أن يكون العرش على حقيقته وهو مخلوق عظيم , ولاكن لا على أن الله استقر عليه , بل على أن الله خلق مخلوقا كبيرا عظيما وسع السماوات والأرض فهو أعظم منا وأكبر . وعبر الله عن الإسيلاء عليه بالاستواء عليه , وخصه بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وأعظمها . وأما تسميته عرش الله فليس لحلوله فيه , وإنما مثل ذالك كمثل كوله صلى الله عليه وآله وسلم : من أسبغ وضوءه ثم مشى إلى بيت من بيوت الله .... ) فسما المساجد بيوتا لله . كما هو حال المسجد الحرام فيسمى بيت الله , تميزا له وتشريفا عن سائر البقاع بأن نسبه الله وأضافها إليه , لأن الله جعلها محل عبادته وذكره , وليس على معنى أن حل فيها _تعالا الله عن ذالك .
ونسب الله أيضا ناقة صالح إليه فقال ((ناقة الله وسقيها) , وليس المراد أن الله يركبها أو يستقر عليها .
فيمكن أن يكون عرش الرحمن مخلوقا عظيما خلقه الله ليكون قبلة للملائكة يطوفون به ويتوجهون بعبادتهم إليه , كما هي الكعبة للإنس , من دون أن يكون الله مستقرا عليه –تعالى الله عن ذالك .
وتعين أحد هذين المعنيين المذكورين للعرش( الملك أو العرش على الحقيقة دون استقرار لله عليه ) يرجع فيه إلى القرائن من السياق ونحوه بحسب كل آية , فمثلا الأرجح في آية (( ثم استوى على العرش )) أن المراد هو الملك , بينما الأرجح في قوله (( الذين يحملون العرش ومن حوله )) وقوله ((وترا الملئكة حافيين من حول العرش )) أن المراد به المعنى الحقيقي دون استقرار لله عليه .
إذا وجب أن نحمل العرش وما أشهه من الألفاظ على ما يصح في اللغة , ويكون القرآن معه سليما من التناقض والاختلاف .
المعنى من قوله تعالى (( ويحمل عرش ربك فوقهم ))
فعلى ما تقدم من معاني العرش يفسر قوله (( ويحمل عرش ربك فوقهم ثمنية )) فيحتمل أن يكون المقصود هو العرش على الحقيقة ويحمله الملائكة , ولاكن لا على معنى أن الله سبحانه فوق ذالك العرش , وأنه محمول للملائكة –تعالى عن ذالك - .
ويحتمل أن يكون المعنى : ويتحمل ملك الله وأمره ثمانية من الملائكة , كما يقال مثلا : يحمل عرش مملكة كذا ويتحمله ثلاثة أشخاص , الملك والنائب الأول والثاني . يعني أنهم يقومون بالأعمال وترجع إليهم الأمور في إدارة المملكة .
وعلى هذا المعنى يمكن حمل قوله تعالى (( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمنية )) على التحمل , فهو معنى جائز في لغة العرب , فيكون التحمل مجازا كما أحبر الله سبحانه عن الظالمين وتحملهم أوزارهم (( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيمة ومن أوزار الذين يضلونهم )) , فليس المعنى أنهم يحملون أوزارهم ويعرفونها فوق ظهورهم على الحقيقة , بل المعنى أنهم يتحملونها ويكونون مسؤولين عنها . فكذالك قوله تعالى (( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية )) أي يتحمل ملك الله وأمره وتنفيذ ما أراد من الحساب والعقاب ثمانية من الملائكة .
المعنى من قوله تعالى (( وكان عرشه على الماء ))
وهذه الآية من ما استدل به أهل الحديث على أن العرش يقصد به الحقيقة لا المجاز . فقالوا إنه لا يمكن تفسير العرش هنا إلا بالعرش على الحقيقة .
نقول :
“.ن تفسير العرش هنا بالملك ولا مانع منه , وذالك على معنى أن أول شيء في الخلق هو الماء " قال ابن حجر في فتح الباري (6/289) في قوله (( وكان عرشه على الماء )) قال الطيبي : هو فصل مستقل لأن القديم لم يسبقه شيء , ولم يعارضه في الأولوية , ولاكن أشار بقوله : ((وكان عرشه على الماء)) إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم لكونهما خلقا قبل خلق السماوات والأرض , ولم يكن تحت العرش إلا ذالك الماء انتهى . " . إذا فكان معنى وكان عرشه على الماء أي كان ملكه على الماء وسيطرته , لأنه لم يكن هناك شيء غير الماء , فلم يكن الله قد خلق أرضا ولا سماء ولا إنسا ولا حيوانا ولا غيرهم عدا الماء ((وجعلنا من الماء كل شيء حي)) . وإنما كانت مملكته هي الماء , كما يقال كان عرش بني فلا على منطقة كذا ثم امتد إلى غيرها من المناطق .
ومن معاني العرش أيضا
قال تعالى (( وترى الملائكة حافين من حول العرش )) وقوله (( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم )) . ويجوز حمل هاتين الآيتين على الظاهر , فظاهر هاتين الآيتين يفيد بأن هنالك عرشا حقيقة , ولاكن على الظاهر نفسه في هاتين الآيتين ما يفيد أن الله فوق العرش , أو أن الملائكة يحملونه تعالى , أو أنهم ( الملائكة ) حافين به تعالى , فلا دليل لأهل السنة في هاتين الآيتين على علا إثبات المكان لله تعالى . فيمكن أن يكون عرش الرحمن مخلوقا عظيما خلقه الله ليكون قبلة للملائكة يطوفون به ويتوجهون بعبادتهم إليه , كما هي الكعبة للإنس , من دون أن يكون الله مستقرا عليه –تعالى الله عن ذالك .
وأما بعض أئمة أهل البيت يحملون الآية على المجاز وأن الله عبر عن تعظيم الملائكة له أبلغ تعظيم بقوله ((حافين)) حيث كان المخاطبون لا يعرفون التعظيم البالغ إلا للملوك , عند الحفوف بها وهي على أسرتها , فعبر الله عن تعظيم الملائكة له بذالك ((حافين)) .
معنى (ثم) في قوله (( ثم استوى ))
فيقال: هل معنى ثم للتعقيب أي أن الله لم يكن مستول على العرش ثم استولى عليه ؟
نقول : نعم إن ثم للتعقيب , ولا كن لا على معنى أنه لم لكن مستولن ثم استولى , بل على معنى أن الله لم يكن قد خلق العرش لأنه لم يكن إلا هو , ثم بعد خلقه إياه استولى عليه , لأنه لا يكون الاستيلاء إلا على شيء موجود , ولا يمكن الاستيلاء على شيء غير موجود , لأن الاستيلاء على المعدوم محال عقلا .
فالمعنى أن الله بعد أن خلق العرش استولى عليه , ومعنى استولى عليه , أنه تعالى أجرى ملكه حسب إرادته وتصرفه ومشيئته , لا يخرج شيء منه عن سطرته وتصرفه .
تفسير سدرة المنتهى :-
وهذا مما يشكل على بعض الناس من توهم أن لله مكان , إذ ورد في حديث المعراج أن الرسول اسريا به إلى سدرة المنتهى . وما قيل : أن لله حجبا تحجبه عنه صلوات الله عليه وعلى آله .
فنقول : إن سدرة المنتهى هو مكان في السماء وهو أعلى مكان في السماء تصل إليه المخلوقات ولا يستطيعون تجاوزه والخروج منه عن نطاق السماوات والأرض , كما قال تعالى (( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذوا إلا بسلطن )) , أي لا يستطيع أحد من الأنس والجان أن ينفذ من هذه الأقطار إلى بإذن الله وقوته و مشيئته .
وما يقوم به العلماء والمكتشفين من التنقل في والإبحار في السماء, ما هوا إلى في جزء بسيط من السماء الدنيا.
إذا فسدرة المنتهى في أعلى السماء شرف الله نبيه بالوصول إليها, لأنه مكان عظيم لا يصله إلا من شرف عند الله تعالى. وليس مكان تواجد الله وحاشى الله عن ذلك.
تفسير الحجاب في حقه تعالى:-
وأما معنى الحجب التي تطلق على الله فليست على معنى الحجب الحقيقية, وهي أنها أجسام تحجب عباده عنه, لأنه لو قلنا ذالك لكانت الحجب أكبر وأعظم من الله. لأنه من المعروف أن الشيء لا يحجبه ويغطيه إلا شيء أكبر منه وأعظم في الحجب, وأن المحجوب أصغر من الحاجب, فالله لا يجوز عليه الحجب الحقيقي.
فالمعنى أن الله بصفاته وعظمته وجلاله محجوب عن عقولنا, فلا تستطيع عقولنا تصوره أو الوصول إلى كنهه تعالى.
فإن سأل سائل وقال: ما هي الحجب التي تحجبنا عن رؤية الله.
قلنا: هي الموانع.
فإن قال: وما هي هذه الموانع.
قلنا: هي أن الله ليس بجسم فلا يرى حقيقة إلا الأجسام.
ومما يؤكد بطلان قول أن بيننا وبين الله حجب على الحقيقة قوله تعالى (( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد )), وغيرها من الآيات والأحاديث. التي تنافي القول السابق.
فإن قالوا: نأول الآية السابقة.
قلنا: تأويل الحجب أولا. أم تأخذون ما تريدين وتتركون الباقي بلا تأويل أو مستند.
ومما يزيد من صحة المعنى الذي ذهبنا إليه في الحجاب قوله تعالى لنبيه (( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا )) فهل معنى ذالك أن الله سيجعل بين رسوله والمشركين إن قرأ القرآن ستارة تحجبه عنهم ؟!!
وأيضا قوله تعالى ((وفي ءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب )) فالمعنى أن بيننا وبينك مانع لا نستطيع معه أن نتبعك ولا نستجيب لكلامك. فالحجاب بيننا وبين الله حجاب معنوي, وهو"الحجاب" أننا لا نستطيع تصوره "الله" أو تخيله أو معرفة كنهه, لأنه متعالي عن الهيئة أو الصورة, لأنها من صفات الأجسام.
تفسير آية النجم (( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى )):-
حيث قال بعدها (( ولقد راءاه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ))
فالقاب هو شق القوس, فالقوس يتكون من شقين أو قابين.
فكان رسول الله متدليا بمقدار قوس كامل.
ويمكن أن يقون المعنى مقدار رميتين بالقوس .
وعلى هذا فمعنا الآية (( فكان قاب قوسين أو أدنى )) , يحتمل أن يكون جبريل عليه السلام في صورته التي هو عليها كان قاب قوسين أو أدنى من الرسول فليس في الآية أن الله هو الذي كان قاب قوسين , أو الرسول تجاه الله . وبهذا المعنى قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين .
ويحتمل أن يكون المعنى أن الرسول كان قاب قوسين أو أدنى من أعلى منطقة في السماء لم يصلها غيره . ونرجح المعنى الأول لما في الآية التي تلتها من إفادة بقوله تعالى (( ولقد راءاه نزلة أخرى )).
معنى كلام الله تعالى:_
وكلام الله ووحيه يكون على طرق متعددة, منها:
ما يكون في المنام كما جاء إبراهيم عليه السلام (( إني أرى في المنام أني أذبحك )) فقال إسماعيل (( يا أبتي افعل ما تأمر )), فسمى هذه الرؤيا أمرا لأنها وحي من الله تعالى إلى إبراهيم.
وفي حديث الرسول صلاوات الله عليه وعلى آله " الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة ".
ومنها ما يكون عن طريق الوحي, وهي أن يرسل الله رسولا فيوحي بإذنه إلى من يشاء, كما يرسل الله بعض ملائكته إلى أحد البشر ليبلغوه كلام الله. وفي حديث رواه الإمام الهادي إلى رسول الله “ أن رسول الله سأل جبريل عن الوحي, فقال: أخذه من الملك الذي فوقي والملك الذي فوقي يأخذه من الذي فوقه, فقال الرسول: كيف يأخذه ذالك الملك ويعلمه, قال: يلقى في قلبه إلقاء, ويلهمه إياه إلهاما “ (رسائل الإمام الهادي).
إذا فمعنى ((وكلم الله موسى تكليما )) أي خلق الله كلاما يسمعه موسى مباشرة, دون أن يحمله جبريل أو ملك من الملائكة. فخلق الله الصوت فسماه كلامه, فسمي كلامه لأنه ( الله ) هو الذي أوجده من العدم وأنشأه, كما يسمى ما أوجد الإنسان من شعر أو قول كلاما له. وإنما الفرق بين كلام الله وكلام الإنسان أن كلام الإنسان يصدر عن طريق جهازه المتكون من حلق وفم و حنجرة. فهوا يصدر عن الجهاز التنفسي والآلة التي جعلها الله فيه للكلام.
وكلام الله صوت خلقه الله ليكلم الله به من أراد أن يكلمه, وسمي هذا الصوت كلام الله لأن الله هو الذي أوجده, كما يقال أرض الله وسماؤه, وجنته وناره مضافة إليه, لأنه هو الذي خلقها و أوجدها من العدم.
فهذا معنى التكليم من الله, وليس على معنى أن الكلام يخرج من الله أو أنه يعود إليه, أو أن الله في جهة والمتلقي في جهة أخرى. فهذا الكلام لا يجوز على الله.
وليس الكلام على ما يراه بعض من أن الله يتكلم من لسان وشفتين وأن هذا اللسان صادر عن هذه الآلة, فالواقع أن الراديو يتكلم والتلفاز أيضا, مع أن الكلام ينسب إلى المتكلم في الأصل.
وقولهم: أن الصوت لو كان حالا في الشجرة لكانت هي المتكلمة ولم بكن الكلام كلام الله لأن الكلام لمن حل فيه. وهذا باطل, لأن الكلام لمن أوجده وليس لمن حل فيه, وإلا لكان الكلام الذي نسمعه في الراديو وغيرها من الأجهزة كلامهم _الأجهزة_ وليس كلام المتكلم به ( المذيع أو القارئ أو غيرهم ممن يتكلم عبر التلفاز ). فعلمت أن الكلام لمن أوجده وليس لمن حل فيه. فمعنى كلام الله (( وكلم الله موسي تكليما )) أي خلق الله كلاما وصوتا في الشجرة, وقال (( يا موسى إني أنا الله رب العالمين )). وفي هذه الآية نفي لقولهم وردا على ما يلزموه من الأخذ بالظاهر وعدم التأويل, فلوا حملنا الآية على ظاهرة لكانت الشجرة هي الله لأن الكلام ((إني أنا الله)) خرج من الشجرة. وأيضا تفيد أن الله عز وجل في الوادي الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة.
إذا فكلام الله في الآية السابقة أن الله خلق الكلام و وضعه في الشجرة و أنطقها به.
تفسير الآيات التي توهم أن لله مكانا:-
فالآيات التي استدللنا بها على بطلان مذهب أهل السنة, وهو أن الله فوق العرش هي في نفسها متشابهة, ولا نقول بحملها على الظاهر لأنها توهم أن لله مكان. وإنما أوردناها لنلزمهم على مذهبهم في الأخذ بالظاهر, وأنه يلزمهم التناقض في القرآن إن عملوا بما قرروه من الأخذ بالظاهر ورد التأويل وعدم الأخذ به.
وبعد أن بينا بطلان الذي ذهبوا إليه, فلا بد من تأويل تلك الآيات وتفسيرها وحملها على المعنى تقبلها اللغة العربية, وهو الواجب علينا القيام به. وقد قال ابن عباس إذا: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه من الشعر فإنه ديوان العرب. (الأسماء والصفات –ص: 325 -).
معنى قوله تعالى (( وهو الله في السموات وفي الأرض )) وقوله (( وهو معكم أينما كنتم )) وقول رسوله الكريم عن ربه: أنا جليس من ذكرني. :-
فهذه الآيات إذا تأملها الإنسان لا تفهم المكان إطلاقا. لأنه لو فهم منها المكان لأدى إلى التناقض بين الآيات والأحاديث. لأنه مرة يقول: في السماء وأخرى يقول: في الأرض. ومرة يقول معنى ومرة يقول عند أعناق دوابنا, ومرة عند المريض في بيته, ومرة حاضرا كل ملأ وشاهدا كل نجوى.
وهذه لا تجوز إلا بالقول بسرعة الانتقال في هذه المواضع وهذا لا يجوز على الله لأن الانتقال من صفات الأجسام, وأيضا لا يجوز على الأزلي أن يتغير, فالأزلي يبقى من الأزل إلى الأزل دون تغير ولوا انتقل أو تغير لم يعد أزليا. أو يقال أنه كبير حتى يغطي بكبره تلك المواضع, وهذا أيضا لا يجوز على الله ولا يقول به أحد.
فلم يبقى إلا أن نعرف أن هذه الآيات تعبير من الله لنا بما نفهمه من أن الله مراقب لنا وشاهد علينا, وخبير بأعمالنا وبما نفعله, وأن الله خالق من في السماء ومن في الأرض ورازقهم ومدبر شؤونهم, لا يغيب عنه شيء من أفعالهم و حركاتهم. فهذا هو معنى أن الله في السماوات والأرض, لا على معنى أنه يحل حلولا بذاته.
ولاكن أهل السنة يؤولون كثير من هذه الآيات, فقوله (( وهو الله في السموات والأرض )), قالو: علمه.
وقوله (( ونحن أقرب إليه منكم ولاكن لا تبصرون )), قالوا: قدرته الله.
وللأسف أنهم يؤولون مثل هذه الآيات وعندما نؤول آيات أخرى في القرآن يلقون التهم ويبطلون تأويلنا ويحرمونه, كما سموا المعتزلة معطلة لأنهم يؤولون صفات الله على المجاز لا على الحقيقة. أليس هذا عين التعصب ؟!!
وإن تأملت في الآيات التي أولوها وجدتها من المتشابه الذي يختلف في معناه, ومع هذا تجدهم يؤولون بعضه وقد قالوا أن هذا المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله.
وتراهم يرفضون تأويلات صحيحة تقبلها اللغة مثل تأويل الاستواء بالاستيلاء, ويؤولونها بما لا تقبلها اللغة ولا تجد لها طرفا عند العرب, مثل قولهم: استواء الله على العرش هو استواء على الحقيقة ولاكن بما يليق بجلاله. ونحن نقول هنا: كل استواء لله, سواء كان استيلاء أم اعتلاء على الشيء حقيقة فكلها تليق بجلاله, فلم يخرجكم هذا عن كونه استواء على الحقيقة لا يجوز إلا في حق الأجسام.
بطلان قولهم يد لا كالأيادي ونحوه:-
ونبدأ هنا بالوجه. حيث قالوا أن لله وجه, وهذا ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله.
قلنا: وما معنى الوجه الذي ذكره الله ورسوله.
قالوا: وجه يليق بجلاله, لا كالوجوه.
قلنا: وما معنى وجه يليق بجلاله, وما معنى لا كالوجوه ؟
فقولكم يليق بجلاله لا يغير في المعنى من شيء, فعندما نقول: يد أحمد تليق بجلال أحمد أو تليق بأحمد, وجب علينا أن نعرف ماهية أحمد وماهية جلاله, كذا النهج عند قولنا يد الله تليق بجلاله, وجب أن نعرف ماهية الله وماهية جلاله حتى نعرف كيف تكون هذه اللياقة.
وأما قولكم: وجه لا كالوجوه, فهذا ينبثق عنه معنيين.
أولهم: أنه وجه لا كالوجه المحسوسة الحقيقية, فيكون المقصود به وجه على المجاز لا الحقيقة.
الثاني: أن يكون المقصود به وجه على الحقيقة ولكن لا كالوجوه الحقيقية التي تعرف. وإن قلنا بهذا لم نخرج عن كون الوجه عضوا حقيقيا مجسما وإن اختلفت صفاته, وهذا ما لا يجوز في الله سبحانه وتعالى.
وأيضا نضيف أن هذا القول (يد تليق بجلاله ونحوها ) لا وجود له في لغة العرب, إلا على ما ذكرنا سابقاً, وقد بينا بطلان القول الثاني. وإن خرج عن هذه المعني, فلن يخرج إلا إلى معنا واحد يؤدي إلى التناقض, وهو كقولنا: يد ليس بيد, أو وجه ليس بوجه وغيرها من المقولات التي لا يعرف لها أصل في اللغة على المعنى الصحيح. والله من وراء القصد.
معنى قوله (( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله )):-
أي أنه هو الذي في الأرض معبود وفي السماء أيضا . فقد ورد هذا المعنى عن قتادة, فإنه قال في تفسير الآية: هو الذي يعبد في السماء ويعبد (ما) في الأرض.
وهذا المعنى و الاستخدام في اللغة مازال مستخدما حيث يقال عن الرئيس مثلا: هو رئيس في اليمن ورئيس في مصر.
ومما يقال للذين يوجبون لله مكانا وهو العرش: أين كان الله قبل أن يخلققلت:اوات والأرض أو العرش أو أي مكان, ولم يكن قد خلق الله شيء, حيث لم يكن موجودا إلا هو ؟؟؟ فبنماذا سيجيبون ؟ فإن قالوا: في عماء كما في حديث الترمذي (5/288 رقم 3109 ) الذي فيه " قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق ؟ , قال: كان في عماء, ما تحته هواء, وما فوقه هواء ". والعماء هو السحاب.
قلنا فأين كان قبل خلق العماء ؟ !! فما أجابوا به في الله قبل خلق الأشياء أجبنا به بعد خلقها.
معنى (( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم )) وقوله (( وهو معكم أينما كنتم )):-
فليس المعنى أنه قريب قرب مماسة أو قرب الجسم, بل المعنى أنه مدبر وعالم وحافظ وشاهد على أعمالنا كلها, لا يخفى عليه شيء منها. لأننا في الشاهد نعرف أنه لا يعلم أعمالنا إلا من كان معنا, فعبر الله لنا بما نفهمه, وحتى لا نظن أننا إذا لم نستطع أن نرى الله فنتصور أنه غائب عنا غير مطلع على أعمالنا, فأخبرنا أنه معنا أينما كنا وهو أقرب إلينا من حبل الوريد, عالم بأعمالنا وحركاتنا.
مسألة في عدم جواز الانتقال على الله:-
وهذه مسألة تتعلق بالمكان فأهل السنة أو الحديث يقولون بأن الله يطلع وينزل ويذهب ويجيء.
وقد رووا في صحاحهم الأحاديث الكثيرة ومنها التي عن أبي هريرة في أن الله ينزل في الثلث الأخر من الليل إلى السماء الدنيا, ورووا أن النبي قال: آخر وطأة وطأها الرحمن بوج. الطبراني (24/241 رقم: 609 و 614 ) وفي بعض الروايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم " لما أسري بي أتى بي جبريل إلى الصخرة, فقال يا محمد من هاهنا عرج ربك إلى السماء. ( دفع شبهة التشبيه ص 223 ).
ويقولون في قوله (( وجاء ربك )) وقوله (( وهل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام )) أن معناها أن الله يجيء بذاته, وهذا مما يثبته بعضهم, وبعضهم يتأول هذه الآية, والبعض الأخر يتركها كما هي ولا يتعرض لتفسيرها, وإنما يمر عليها مرورا الكرام.
ومذهبا أهل البيت ومن تبعنا أنه لا يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله على الحقيقة لأن الله لا يزال ولا يحول ولا يجوز عليه الصعود ولا الهبوط ولا الانتقال , بل تأخذ على المجاز , فالله يستخدم في القرآن أساليب وألفاظ كثيرة منها : الحقيقة والمجاز والكناية والاستعارة , وأساليب العرب في الخطاب , لأن القرآن بلسان عربي غير ذي عوج .
معنى الآيات التي تثبت العلو لله تعالى:-
في قول الله (( يخافون ربهم من فوقهم )) وقوله (( وهو القاهر فوق عباده )), وقوله (( ورافعك إلي )), قول الله تعالى (( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه )) وغيرها من الآيات التي يثبت ظاهرها العلو لله تعالى وأنه فوق جهة دون جهة, وهي ليس على ظاهرها, فالآيات المتقدمة تفيد العلو المعنوي لا الحقيقي.
فمعنى (( يخافون ربهم من فوقهم )) أي يخافون الله القاهر من فوقهم كما قال تعالى في آية أخرى (( وهو القاهر فوق عباده )), يعني أن الله المستولي والمسيطر عليهم. كما إذا شخص يرتفع عن الناس وهم لا يريدون طاعته فيقولون له: كيف تريد أن تتأمر علينا ومازال فلان فوقك, فلا يريدون بذالك المعنى الحقيقي, وإنما يريدون المعنى المعنوي أي أن سلطته أعلى منك وأنك تحت أمره.
فمعنا الآية كما قلنا: يخافون الله الذي هو أعظم منهم وملكه أعظم من ملكهم وقدرته أعظم من قدرتهم.
ومعنى (( ورافعك إلي )) أي أراد الله سبحانه وتعالى أني رافعك إلى محل عبادتالسماء,ماوات, أي رافعك من الأرض إلى السماء عند محل أوليائي من ملائكة وأنبياء ورسل.والمعروف أن عيسى عليه السلام رفعه الله إلى السماء فهو في السماء وليس على السماء, بينما الله عند أهل السنة على العرش الذي هو فوق السماء. فكيف يقولون أن معنى "رافعك إلي" أي إلى مكاني, والله إنما هو عندهم فوق العرش وليس في السماء التي هي تحي العرش. مع أن أهل السنة يروون في حديث الإسراء والمعراج أن الرسول التقى بعيسى في السماء. فالله رفع عيسى من الأرض عند اليهود الذين آذوه إلى السماء مكان أوليائه.
ونحن نستخدم هذا المعنى, فمثلا : إذا كان هناك موظف في الريف يشكو إلى الوزير إلى الوزير من أهل المنطقة التي جعله عليها بأنهم يؤذونه ويتعبونه, فيقول له الوزير : نحن سنرفعك إلينا , فليس معنى ذالك أنه سيجلسه بجانبه , وإنما بمعنى أننا سنرفعك إلى الوزارة نفسها حيث ستجد الراحة , وستكون مع المقربين إلينا .
وأما قوله تعالى (( وإليه يصعد الكلم الطيب )), فلا يمكن أن يحمل الصعود فيه على الحقيقة إطلاقا, وذالك لأن الكلام صوت, وهو لا يرتفع إلى السماء ارتفاعا حقيقيا كما يعرفه كل عاقل. ولو ادعى مدع أن الصوت يرتفع إلى السماء, لارتفع كل صوت, الطيب منه والخبيث ولم يكن هنالك فرق, بينما الله قال أن الذي يرتفع هو الكلم الطيب. كما يؤيد ذالك أن الدراسات الحديثة أثبتت أن الأصوات تبقى في الغلاف الجوي وتنحصر فيه. وكذا قوله تعالى (( والعمل الصالح يرفعه ))ورد في الصلاة والصيام والحج والزكاة, وهي ليست أشياء محسوسة يمكن رفعها على الحقيقة. وإنما هذا تعبير مجازي عن قبولها من الله سبحانه وتعالى.
وهذا كما يقول موظف لموظف تحته: رفعت بعملك إلى الرئيس. أي كتبت بعملك وأصلته إلى الرئيس. وكثير من المخاطبات تقع على هذا الوجه.
فمعنى الآية أن الله يقبل العمل الصالح من الأعمال والأقوال. أو يرفعه في كتاب الأبرار وهو في عليين, كتاب يكتب في الأعمال الصالحة لإنسان في السماء.
أما قوله تعالى (( أءمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض )) فليس المعنى أن الله في السماء, بل المعنى: أأمنتم من في السماء ملكه وسيطرته.
وقد يقول القائل: أما على هذا المعنى فالله أيضا ملكه وسيطرته على الأرض, فلما اختص السماء بهذا الحكم ؟
نقول إن السماء اختصت بذالك الحكم لأنها محل إدارة ملك الله تعالى, ففيها أولياؤه وملائكته الموكل إليهم إدارة شؤون هذا الملك, وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون, فالسماء محل السيطرة والملك ومنها يقوم الملائكة بعملهم في الكون.
ويمكن أن يكون المعنى: أأمنتم الملائكة الذين في السماء, أو أأمنتم جبريل الذي في السماء أن يخسف بكم الأرض, أي ينزل بكم العذاب بأمر الله كما فعل بقوم لوط حين رفعهم بشق جناحه وقلب عاليها سافلها.
ولا مانع من هذا المعنى, لأن الله لم يقل أأمنتم الله الذي في السماء, بل قال أأمنتم من في السماء, ومن هنا اسم موصول مبهم, بينه بقوله: في السماء, والله ليس في السماء كما أوضحنا, لأنه لا يجوز عليه الحلول.
معنى قول الله (( أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة )).
وقبل إيراد المعنى نبين أنه ليس في الآية ما يثبت المجيء لله بذاته كما قالوا, وما في الآية إنما هو استفهام إنكاري من الله على المشركين.
والمعنى هل أنت منتظرون أن ينزل الله والملائكة في ظلل من الغمام حتى تؤمنوا. فلم يخبر الله عن نفسه بل أخبر عن عقيدتهم واستنكرها.
ثم أننا لو حملنا الآية على الظاهر للزم أن يكون الغمام أكبر من الله, لأن الله حال في الغمام, والظرف أكبر من المظروف بالطبيعة. فلم يعد الله هو الأكبر, بل العكس وحاشا الله عن ذلك.
فالمعنى اللائق من أن الله يأتيهم في ظلل من الغمام, أي يأتيهم أمره وعذابه أو ملائكته مثلما قال سليما (( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها )) يعني يرسل إليهم جنوده ولم يكن معهم. وكما قد يقول رئيس دولة لأعدائه: سآتيكم بجيش و قواي تدمرك, مع أنه لن يأتي معهم.
ومما يؤيد هذا قوله تعالى (( فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم )) فإن هذه الآية لا يمكن حملها على الظاهر لأنه ما من أحد يقول أن الله جاء وخرب بيوتهم بنفسه, وأنه جاء مجيئا حقيقيا.
وإنما المعنى أتى عذابه وأتى جنده يخربونها من القواعد, وانظر كيف قال الله (( فأتهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين )) أي أن الله مكن المؤمنين منهم ومن الانتصار عليهم من حيث لم يتوقعوا, وهذا معنى: أتاهم من حيث لم يحتسبوا. وقوله تعالى ((يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين )) فيه تفسير لقوله تعالى (( فأتهم الله )) بأنه العذاب والخراب الذي أتاهم على أيدي المؤمنين, والقرآن يفسر بعضهم بعضا.
المعنى من قوله تعالى (( وجاء ربك والملك صفا )):-
معناه: جاء أمر الله وحكمه وتنفيذه وما وعد به من الحساب والعقاب. مثلما يقال: جاء فلان الموت, فهل معنى ذالك أن الموت شيء ملموس وجسم ينتقل وينزل إلى الإنسان. وإنما الموت هو عبارة عن سلب الروح. فعلى هذا يكون الإتيان والمجيء مجازيا. وهكذا في بقيت الآيات التي توهم المكان أو الزوال أو الانتقال, أو الحلول أو غيرها من صفات الأجسام.
ومعنى قوله تعالى (( في مقعد صدق عند مليك مقتدر )), كما يقال مثلا: فلان عند فلان أغلى من أبيه وأمه وأبيه. فليس معنى ذالك أنه جالس عنده, ولا يريد المتكلم الظرفية المكانية. فكلمة عند لها معنيين, مجازي معنوي, وحقيقي ظرفي.
فمعنى ((عند مليك مقتدر)), أي قريبين من الله سبحانه وتعالى قربا معنويا. فكما قد جاء في الروايات: أنه أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد.
ومن المعاني للعندية ما يقال مثلا: عندي يا فلان كذا سيارة. فلم يقصد المتكلم أنهن بجانبه, بل أنهن في ملكه, لأنه قد يقول ذالك وسياراته التي يذكرها بعيدة عنه.
فمعنى (( وما عند الله خير )), أي ما سيعطيهم جزاء أعمالهم, وقوله (( فعند الله ثواب الدنيا والآخرة )) أي هو مالك لثواب الدنيا والآخرة. وكذالك قوله تعالى (( وعنده علم الساعة )) أي أن علمها بحوزته. وأيضا قول الله (( وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها )) أي أنه تعالى عنده علم الأشياء كلها. وفي هذه الآية أكبر دليل على وجوب التأويل على المجاز في بعض الأقوال, وإلا فما هي مفاتيح العلم ؟! أهي مفاتيح حقيقية مجسمة ؟!! , أم معنوية مجازية. ويلزم أن يعينوا محل هذه المفاتيح لأنها عند الله أهي فوق العرش عند الله, أم غيرها من المواضع. فنبئونا بعلم..... فلا مخرج إلا الرجوع إلى التأويل, وعدم إلزام الأخذ بالظاهر كما يوجبوا على غيرهم فيما يريدون. ومما يؤسف أن أهل الحديث يسمون الذين يتأولون صفات الله بالمعطلة و (( كبرت كلمة تخرج من أفواههم )).
وحسبنا الله ونعم الوكيل

• مسألة الأعضاء:-
وفي مسألة الأعضاء يثبت أهل السنة لله الوجه و اليد والساق والجنب وغيرها. ونبدأ بمسألة الوجه.
الوجه:-
قال تعالى (( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )) وقال (( كل شيء هالك إلا وجهه )) وقال سبحان (( وأينما تولوا فثم وجه الله )) وفي موضع أخر يقول المولى (( إنما نطعمكم لوجه الله )) (( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى )).
وعلى العاقل المتأمل أن يرى القرآن ويقرأه بلغة العرب حتى يعيه.
وقالوا:رب: فلان في وجهي, أي في ذمتي. وقالوا : هذا وجه الصواب , أي الصواب ذاته . وتحدى الله العرب لغتهم في قوله (( وقالت طائفة من الكتاب أمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا ءاخره )) أي أول النهار. وغيرها من المعاني.
فإن ذهبنا لقوله تعالى (( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )) وقوله (( كل شيء هالك إلا وجهه )), أي يبقى الله المتعالي عن الفناء والهلاك.
وقوله (( وأينما تولوا فثم وجه الله )), أي فثم الله المجيب السميع العليم.
ومعنى (( إنما نطعمكم لوجه الله )), أي نطعمك إطعاما خالصا لله تعالى لا نريد لغيره هذا العمل.
وقوله تعالى (( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى )), أي إلا مقصودا به الله تعالى المتعالي على كل شيء, وخالصا به له.
مسألة العين:-
ومن ثم ننتقل إلى العين, حيث أثبت أهل السنة لله العين. واستندوا في إثباتهم هذا على عدد من الآيات, كقوله تعالى (( تجري بأعيننا )), وقوله (( ولتصنع على عيني )), وقال (( واصنع الفلك بأعيننا )), وقال (( فإنك بأعيننا )).
وسنتناول هذه الآيات آيتا آية.
معنى (( تجري بأعيننا )):-
أي تجري السفينة بعلمنا و إحاطتنا ومعرفتنا ورقابتنا. ويقال:ل: فلان عين عليك أي رقيب. ويقال : سأضع فلان تحت العين , أي تحت الرقابة . وليس المعنى كما ذهب الكثير من أهل السنة أن العين هي على الحقيقة. لأن ذالك سيقود إلى أن السفينة تجري وتسير في بواسطة عين الله. فللباء في اللغة عدة استخدامات وقد ذكرها ابن مالك في ألفيته حيث قال:
بالباء استعن وعد عوض الصق ومثل مع ومن وعن بها انطق.
أو أنها تسير ملتصقة بعين الله, أو تكون على معنى التعدية أي أن السفينة توقع السير على هذه العين ؟!!!. أو تكون في معنى المحل, فيكون المعنى أن السفينة تجري في عين الله. وكل هذه المعني باطله عند أهل السنة أصلا فكيف يقولون بأن العين هي على الحقيقة.
المعنى من قوله (( ولتصنع على عيني )) ولو أردنا أن نحمل الآية على ظاهرها كما يرى أهل السنة وأنها تدل على أن لله عيننا, فسيكون معنى الآية أن الله يضع موسى فوق عينه.
أما المعنى الصحيح أنك تكبر وتنموا تحت إشرافي وتربيتي وتوفيقي, فأصل الله له أمور حياته حتى استقام وكبر فبعثه نبيا, وكما قال الله (( فرددنه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن )), وقال في آية أخرى (( واصطنعتك لنفسي )), فليس لله نفسا ولا روح كما للمخلوقين, وإنما المعنى جهزتك لخدمتي والقيام بما أطلب منك القيام به.
شبه يلزمهم حلها قبل القول أن لله عين:
أول هذه الشبه هي ما يلزمهم من القول بالعين الحقيقية في بقية الآية (( تجري بأعيننا )), حيث أن هذا يلزمهم المماسة والفوقية والحالية للسفينة مع العين الحقيقية لله.
ثانيا أن الله ذكر في القرآن أن له عين, وفي موضع آخر ذكر أن له أعين, وهي جمع وأقل الجمع ثلاثة. فهل سيقولون أن لله عينا واحدة, أم ثلاثا أم أكثر من ذلك. فإن قالو أن لله عينا واحد فقد ألغوا الآية الأخرى, وإن قالوا بأن له ثلاثا أو أكثر, فهذا ما لا يقول به مسلم.
ولم يكن لهم أن يقولوا أن له عز وجل عينين لأنه لم يرد في القرآن أو السنة أن له عينين.
اختلاف وسائل الإدراك في المخلوق أما الله فيدر بلا آلة.
وقد يرد سؤال أو إشكال: أن الله إنما قال له عين وأعين لكي يصح أن يرانا بها, لأنه لا تكون الرؤية إلا بالعين.
والجواب على ذلك: أن الرؤيا هي الإدراك للصور سواء كان الإدراك بالعين أم بغيرها. وليس بالضرورة أن تكون الرؤيا الإدراك بالعين فقط. فالرؤيا قد تتم بغير العين, فالنائم قد يرى صورا وأشكالا لأول مرة في منامه دون عين, وهذا تمما ما كما يحدث في الرؤيا والتي هي جزء من أجزاء النبوة. فقد ير النائم رسول الله على صورته الحقيقية وهو لم يره من قبل قط. وإنسان إنما يدرك بالعين لأن الله خلقها له ليدرك بها فتكون وسيلة الإدراك الخاصة به. كما للخفاش وسيلته الخاصة, فهوا يدرك عن طريق ارتداد الموجات الصوتية عن الأجسام فيتلقاها بجهازه الترددي الذي جعله الله له ليدرك به.
مسألة الجنب:-
ومما يستدلون به على أن لله جنبا قوله تعالى (( يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله )).
ولكن عند النظر في لغة العرب نجد أن الجنب يطلق على الحقيقة وعلى المجاز. فيطلق الجنب حقيقة على العضو من الإنسان أو الحيوان, ويطلق مجازا على الجهة كما قال الشاعر:
كأنه خارج من جنب صفحته سفود شرب نسوه مفتأد
والجنب الحقيقي في حق الله لا يجوز, والمجازي بمعنى الجهة على الحقيقة لا يجوز أيضا, وإنما التفريط في جهة الله, هو الجهة المعوية, وليست على الحقيقة. كأن تقول: قصرت جهتك, فليس القصد الجهة التي أنت فيها حقيقة.
فمعنى الآية أي يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وهو جنب الطاعة.
مسألة اليدين:-
ومن الآيات التي يتوهم بها ويستدل بها على أن لله يد قوله تعالى (( بل يداه مبسوطتان )) وقوله (( يد الله فوق أيديهم )). وسنبدأ بتفسير الآيات التي ذكرت أن لله يدا.
تفسير قوله تعالى (( بل يداه مبسوطتان )):-
وسنقدمها على ما سواها من الآيات لأنها أكثر ما يستدلون به على أن لله يد على الحقيقة. فقد قال الله (( قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغينا وكفرا )), فقال أهل السنة: إذا قد قال الله (( بل يداه مبسوطتان )) فقد أثبت لنفسه اليدين.
فنقول: يجب أولا أن ننظر في معنى الآية بكاملها, فما معنى قوله تعالى (( وقالت اليهود يد الله مغلولة )), فهل قصد اليهود أن يد الله مغلولة إلى عنقه حقيقة, وغل اليد معناه رفع اليد و ربطها إلى العنق ؟!! , أم أنهم قصدوا بقولهم (( يد الله مغلولة )) أنه بخيل لا ينفق عليهم ولا يسبل لهم ما يريدون من النعم ؟!! . فالمشهور من كلام العرب والعبارات العربية أنهم يقولون: فلان يده مقبوضة و فلان يده مغلولة كناية عن البخل, فهم لا يريدون بذلك القبض أو الغل الحقيقي الحسي. كما يقولون أيضا: وفلان يده مبسوطة ويريدون بذالك أنه كريم, وهذا معلوم في اللغة وأوضح عند من له أدنى معرفة بالكلام العربي.
إذا فعند ذكر البسط والغل أو القبض لليد في القرآن يجوز أن يكون المقصد منها: كناية عن الكرم والإعطاء, والبخل والإقتار. ومما يؤكد المعنى الذي ذهبنا إليه من أن الله قصد بقوله بل يداه مبسوطتان قوله تعالى في موضع آخر (( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط )) وما من قائل بأن المقصود بهذه الآية اليد الحقيقية الحسية المغلولة أو المبسوطة. فعلى هذا يصبح معنى الآية أن اليهود يقولون على الله أنه بخيل بينما يرد الله عليهم أن كريم جدا.
وقد يقول قائل: لماذا لم يكتف الله بذكر يد واحدة ردا عليهم ؟؟
فنقول: إن السبب أنه لما كان الإنسان الكريم بيد واحدة, فالذي يعطي بيديه الثنتين يكون أشد في الكرم, فعبر الله بذالك عن سعة كرمه وفضله ونعمته. مثلما يقال: فلان يخرج المال بيده ورجله, كناية عن شدة جودة وكرمة في الإنفاق. فالله مدح نفسه بأبلغ المدائح والأوصاف, فالآية كما قلنا جواب على قول اليهود إن الله فقير بقولهم (( يد الله مغلولة )), فأجاب الله عليهم بأنه أكرم الأكرمين على طريق الكناية بقوله (( بل يداه مبسوطتان )) وتوضح هذه الكناية الجملة التي بعدها في قوله (( ينفق كيفا يشاء )). ومما يؤسف أن إخواننا أهل السنة يحملون الآيات التي تكون في حق الإنسان على المجاز و بينما الآيات التي تكون في حق الله يحملونها على الحقيقة رغم قرب معنى الآيات التي تكون في الله للمجاز منها للحقيقة.
تفسير قول الله (( يد الله فوق أيديهم )):-
وقوله تعالى (( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم )), فالمعنى المعروف عند كل إنسان للآية هو أن الذين يبايعون الرسول كأنهم يبايعون الله ويعاهدونه, فلا يظنوا ويعتقدوا أنهم إنما يبايعون إنسانا مثلهم, إنما يبايعون الله الذي أرسله, فالعهد الذي يقطعونه على أنفسهم, واليد التي يقسمون لها بالله وهي يد رسول الله هي كأنها يد الله سبحانه وتعالى.
فالله هو الأمر بهذا العهد وهو الموجب له عليهم, ويد الله فوق أيدي الجميع, ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه. ومعنى (( يد الله فوق أيديهم )), يعني أن قوة الله قاهرة ومستولية عليهم جميعا, فلا يضيعوا هذا العهد الذي قطعوه.
وقد تكون الآية تعبيرا وكناية عن رضاء الله بهذه البيعة ومباركته لها. وعلى الأرجح أن هذا المعنى أقرب للفهم و أوضح. فكما إذا تبايع ثلاثة مثلا يتماسك اثنان منهم ويأتي الثالث فيضع يده فوق أيديهم, فلما كان الرضا بالبيعة في المخلوق بهذه الطريقة عبر الله عن رضاه بتلك البيعة بقوله (( يد الله فوق أيديهم )).
تفسير (( لأخذنا منه باليمين )) ونحوها...
ومما يستدلون به أيضا قوله تعالى (( لأخذنا منه باليمين )) وقوله (( والسماء بنينها بأييد )) وقال تعالى (( لما خلقت بيدي )).
وفي الأحاديث التي يرونها عن النبي: أن الله خلق آدم من قبضة خلقها من جميع الأرض "الترمذي(5/204) “. وفي رواية أخرى أن الله لما خمر طينة آدم ضرب بيده فيه فخرج كل طيب من يمينه وكل خبث من يده الأخرى, ثم خلط بينهما فمن ثم يخرج الحي من الميت, ويخرج الميت من الحي. ( طبقات ابن سعد (1/27) ).
ومعنى (( والسماء بنينها بأييد )) يعني بنيناها بقدرة عظيمة.
وقالوا في قوله تعالى (( لما خلقت بيدي )) أنها خصوصية لآدم دون سائر البشر, لأنه لا خصوصية إذا قلنا خلقه بقدرته, لأن سائر البشر كذلك.
فنقول: ليس بالضرورة أن يكون المقصود بقول الله (( خلقت بيدي )) أنه خلقه بيده المخصوصة ا)),ذكرتموها.لأن الله تعالى قد قال في خلق الأنعام (( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعما )), فهل أحد سيقول إن الله جعل الأنعام بيده وصنعها ؟!
أو أن للأنعام خصوصية وتفضيل مثل آدم, لأنه تعالى خلقها بيديه ؟! . فليس الأمر كذالك فإن أراد الله شيء إنما هو كما قال (( إنما أمره إذا أراد شيء أن يقول له كن فيكون )), وكذالك خلق الله آدم وصوره. وإنما عبر الله عن ذالك بقوله (( بيدي )) كناية عن أنه خلقه تعالى بقدرة مباشرة, بلا واسطة وسبب كما خلق سائر البشر من ذكر وأنثى بماء مهين, نطفة ثم مضغة ثم علقة ثم كسا العظام لحما ثم أنشأه خلقا آخر كما يشاء سبحانه.
ثم إنهم جعلوا لله يدا يمنى, واستدلوا بظاهر قوله تعالى (( لأخذنا منه باليمين )).
والمعنى الصحيح أن اليمين تطلق على غير الجهة اليمنى من الشيء. فهي تطلق أيضا بمعنى القوة والقدرة.
قال فراء:اليمين القوة والقدرة, قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين. ( الأسماء والصفات ص:313 ).
وكذا يروا أن عبيد الله بن زياد, حينما ولاة معاوية على العرق, قال في رسالة له إليه: إني قد ضبطت العرق بشمالي, ويميني فارغة, فاشغلها بالحجاز. ( الكامل لابن الأثير ). أما بالنسبة Tلليد اليسر. فقد أثبت بعضهم أن لله يدا يسر كما في حديث رواه مسلم ( ثم يطوي الأرضيين بشماله ), ومرة أخرى يقولون كلتا يديه يمين كما روا مسلم في صحيحه أيضا, عن رسول الله أنه قال: كلتا يدي ربي يمين. " البيهقي في الأسماء والصفات ص: 306 “.
معنى قوله تعالى (( والسموات مطويات بيمينه )):-
وهذه الآية مما أورده أهل السنة لإثبات أن لله يدا يمنى ورووا حديثا عن رسول الله أنه جاءه يهودي فقال: يا محمد إن الله جعل السماوات على إصبع والأرضيين على إصبع, والجبال والشجر على إصبع, والماء والثرى على إصبع, وسائر الخلق على إصبع وسائر الخلق على إصبع....إلى قوله فضحك النبي ( في رواية مسلم ).
وفي رواية أخرى للبخاري: فضحك الرسول تصديقا لقول اليهودي, فأنزل الله تعالى (( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيمة )) ( البيهقي في الأسماء والصفات, ص: 316 ).
وهذه الزيادة الموجودة في بعض صحاحهم وغير الموجودة في بعض، الظاهر أنها زيادة من بعض الرواة، لأنه لا ملاءمة بين قول الله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره )، وبين ضحك النبي تصديقاً لليهودي، ولأن الزيادة واضحة ومعرفة بنفسها أنها من كلام الراوي.
أو أن ضحك النبي صلى الله عليه وأله وسلم إن صح الحديث كان ضحك سخرية واستهزاء بعقيدة اليهود، لتخيلهم الله سبحانه وتصويرهم له في صورة آدمي له أصابع والحديث، في مورد الاستهزاء والسخرية في كلام اليهود.
لأن الله ليس بذي أعضاء ولا أجزاء ولا ينشغل بشيء ولذلك نفى الله ما قالت اليهود من التشبيه لله وجعلهم له أصابع ويدين بقوله ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسموات مطويت بيمينه ).
فكما قلنا قبل: إن العرب تعبر عن اليد بالقوة والسيطرة ولا زال الناس يقولون بلاد كذا في يد فلان وهؤلاء الناس في يد فلان، يريدون أن البلاد تلك أو الناس تحت سيطرته وقدرته.
فيكون معنى الآية السابقة على هذا المعنى، يعني أن السماوات والأرض تحت سيطرته وملكه كما قال تعالى (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار).
أي أنه ليس لأحد ملك كما كان في الدنيا.
ولو أرادوا أن يفسروا هذه الآية على ظاهرها لأصبح الله مشغولا بيد يقبض بها الأرض واليمين يمسك بها السماوات فكيف يحاسب عباده وهو مشغول، تعالى الله عن ذلك.

هل سيثبتون لله يداً واحدة أم يدين ثنتين أم أيدي كثيرة:
فقد قال الله تعالى ( يد الله فوق أيديهم ) وقال تعالى (والسماء بنينها بأيد). وقال تعالى ( بل يداه مبسوطتان ).فإدا كانت الآيات على الظاهر كما يريدون وأن له تعالى يدين أحداهما يمين فسيقعون في التناقض على القول بحمل الآيات على ظاهرها، ففي آية يقول الله يد واحدة وفي أخرى يقول أيدي.
فكيف سيكون إله مرة بيد ومرة أخرى بيدين ومرة ثالثة بأيدي كثيرة.
فإن قالوا: ليس لله إلا يدين ثنتين وإنما ذكر الجمع من الأيادي على سبيل المجاز.
فنقول: قد رجعتم إذا إلى التأويل الذي تقولون أنكم لا تعملون به وتشنعون على من قال به، فكيف ترضون هذا التأويل ولا ترضون بأن تأويل قوله تعالى ( بل يداه مبسوطتان ) بالكرم والإنعام.
ثم نقول لكم إن أردتم أن تثبتوا على الظاهر بعد الأخذ بالتأويل فما معنى قول الله تعالى حاكيا عن داود ( وداود ذو الأيدي ) ؟!
وللأسف أن أهل السنة يئولون بعض آيات القرآن مثل قوله تعالى (فاليوم ننسهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) الذي يناقض قوله تعالى (( وما كان ربك نسيا )). فقد أولو الآية السابقة بأن الله يتركهم تعبيرا عن ترك الله لهم وعدم إثباتهم وعدم قبول أعمالهم فكأنه نسيهم. كما تقول لشخص لم يعطك عطاء كنت قد طلبته في السابق: ألم تنسني حين طلبتك ؟!! .
وأيضا يتأولون قول الله تعالى عن القرآن (( مصدقا لما بين يديه من الكتب )). وأيضا قوله تعالى (( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )), وغيرها من الآيات الكثير التي لجأو إلى التأويل فيها, وإلا حصل التناقض. ومما يؤسف أنهم ينعتون من يتأول صفات الله التي تثبت الجسمية لله بالمعطلة. ولا نقول إلا:
نعيب الناس والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا.
مسألة الساق:-
فنقول:أهل السنة بقوله تعالى (( يوم يكشف عن ساق )) على أن لله ساقا.
فنقول : إن الآية لم تذكر أن لله ساق , وإنما جاء ذكر الساق بدون صاحب , فيجوز أن يكون المقصود بالساق ساق نبي أو ملائكة أو غيرهم , فلم يقل الله يوم يكشف الله أو أي عبارة تدل على نفس المعنى . فلا يصح الاستدلال بالآية السابقة على أن لله ساق. ومن ثم رووا حديثا عن رسول الله في المستدرك على الصحيحين ( 4/626 رقم: 8736 ) وفيه يقول الرسول..... إلى قوله: يقول الله: هل بينكم وبين ربكم علامة تعرفون بها ربكم, فيقولون: نعم الساق فيكشف عن ساق فيخروا سجدا أجمعين..... الخ.
ونحن نقول لهم أن العقيدة لا تأخذ بالأحاديث غير المتفق على صحتها. فلا يصح لكم إلزام أحد بهذه الأحاديث وما ذهبتم إليه.
وإن قال قائل: إذا ما معنى الساق في الآية الكريمة ؟
نقول: إن العرب في لغتهم يعبرون عن كشف الساق بالأمر الشديد, فإذا اشتدت الحرب عند العرب وحمي الوطيس قالوا: قامت الحرب على ساقها, وقد سئل ابن عباس عن معنى الآية فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه في الشعر فإنه ديوان العرب, أما سمعتم قول الشاعر:
قامت الحرب بنا على ساق
قال ابن عباس: هذا يوم كرب وشدة. كما نقول لشخص أمامه أمر مهم: هذا أمر مهم فلابد أن تشمر له.
قال البيهقي في الأسماء والصفات ص 325: وقال أبو سليمان: وقال غيره-أي ابن عباس-من أهل التفسير والتأويل في قوله (( يوم يكشف عن ساق )), أي عن الأمر الشديد وأنشد:
قد شمرت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا.
وقال الفراء: أنشدني بعض العرب لجد طرفة:
كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر الصراح.

مسألة القدم:-
أما في هذه الصفة المزعومة وهي القدم لله تعالى, فقد أثبت أهل السنة القدم لله بالأحاديث المروية عندهم. فقد رووا عن رسول الله أنه قال: لا تزال النار يلقى فيها فتقول هل من مزيد, حتى يضع الله قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض, وتقول: قط قط.
وأما قولنا على هذا الإثبات من قدم أوجبوها للعلي العظيم: أن هذا الإثبات لم يستند إلى دليل قطعي تقوم عليه العقيدة بل إلى أحاديث تفردتم بذكرها, فلا حجة لكم بها على غيركم, ممن لم يرووها. وأما عن قولنا في الحديث السابق وما شابهه من الأحاديث, فنقول: أنها مكذوبة على رسول الله لمخالفتها القرآن. فقد قال تعالى (( لم يكن له كفأ أحد )) بينما الحديث السابق يثبت الجسمية لله نتيجة لإثبات القدم, والجسم كما لا يخفى على أحد من التجسيم يوجب المحادة, والمحادة مكافأة للمحاد في الحد الذي تحده. وتناقض أيضا قوله تعالى (( هو الأول والأخر )), فالقول بالجسمية ينقض كون الجسم أزلياً, لأن الجسم لا يصير إلى بمجسم. فعلى هذا لا يجوز أن يكون الأزلي جسما, وكذا الله لأنه أزلي.
مسألة النفس:-
ومما يثبته أهل السنة لله النفس.
فزعموا أن إثباتهم للنفس مأخوذ من القرآن حين وصف الله نفسه بأن له نفسا. ونقول:له (( واصطنعتك لنفسي )), وغيرها من الآيات التي يثبت ظاهرها أن لله نفسا على الحقيقة.
ونقول : قد قال الله تعالى أن له نفسا , ولاكن النفس في اللغة تأتي بمعنى عدة منها النفس بمعنى الروح , ومنها تأتي النفس بمعنى الدم , كقول الفقهاء : إن الذي لا نفس له سائل لا تكون نجسة. يعنون لا دم فيه. ويقصد أيضا بالنفس تأكيد الشيء, مثل قولنا: هذا نفس الواقع, نعني هذا الواقع نفسه.
معنى قوله تعالى ((واصطنعتك لنفسي)) وقوله ((تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك)):-
وبعد أن بينا المعاني التي ترد من قولنا "نفس" في اللغة, تبين لنا أن المقصود من قوله تعالى (( واصطنعتك لنفسي )) أي اصطنعتك لي ولرسالتي. وأما قوله تعالى (( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك )), أي تعلم سري وغيبي ولا أعلم سرك وغيبك. لأن العرب عن النفس بما في السر, والذي حكاه الله عن يوسف (( فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم )). ومن المعلوم أن السر لا يكون محله الروح ولا يقال سري عند روح فلان, بل سري عند فلان.
ومما يدل على ما ذهبنا إليه من تفسير قول عيسى (( إنك تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك )) أنه أتبعها بقول (( إنك أنت علم الغيوب )).
وعلى معنى أن النفس تعبر عن الشيء نفسه, جاء قوله تعالى (( ويحذركم الله نفسه )), أي ويحذركم الله إياه. وهذا معلوم كما يقول القائل: جئتك بنفسي, ولا يريد بذالك أنه جاءه بروحه, وإنما جئتك أنا ولم أرسل غيري.
وفي بعض الكلام لا بد من ذكر النفس, كما إذا أراد أحد أن يقول إنه ظلم نفسه, فيقول: ظلمت نفسي. لأنه قبيح من الكلام أن يقول: ظلمتني, وهو يريد القول: ظلمت نفسي.
فقوله تعالى (( واصطنعتك لنفسي )) أي اصطنعتك لي, وليس المعنى اصطنعتك لروحي.
وكذالك قوله تعالى (( ويحذركم الله نفسه )), فلم يرد بها يحذركم الله روحه, بل يحذركم الله إياه.
ومما يشكل على البعض قول الله (( ونفخت فيه من روحي )). والمعنى الصحيح للآية أن الله سبحان وتعالى نفخ في آدم الروح فإذا هو حي. والروح التي نفخ منها آدم ليس من روح حقيقة لأن الله ليس له روح. ولاكن الروح نسبة لله لأنه هو خالقها والمتصرف فيها. فلا يخفى على المدرك أنه في حالة الوفاة يقال: أخذ الله أمانته, فكل ما وهبنا الله هو أمانة إن أطعنا الله به فقد حفظنا هذه الأمانة وإن عصيناه بها فقد فرطنا في هذه الأمانة. فلم نرزق العقل مثلا بلا سبب, بل لنعرف الحق من الباطل. فمن أهمل عقله تعمدا فقد فرط في هذه الأمانة (العقل).
تفسير قول الله تعالى (( الله نور السموات والأرض )):-
قال تعالى (( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مبركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء من يشاء ويضرب الله الأمثل للناس والله بكل شيء عليم )).
ويا أسف لبعض الجهال حين يقولون: أن الله نور, وقوفا عند ظاهر الآية.
ونبين هنا المقصد بالنور الذي ذكره الله في الآية:-
فمعنى أن الله نور السماوات والأرض بمعنى أن الله هدى الخلق بنوره, وهو نور الإسلام والدين الذي هداهم به وأخرجهم من الظلمات إلى النور. فهذا معنى النور في حق الله سبحانه.
لأن النور يستخدم في اللغة للهادي, فالهادي إلى الشيء, والدال عليه يسمى نورا, لأنه يهدينا إلى الطريق وينورها لنا, ويدلنا عليها, ولذالك سمي الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال تعالى (( إنا أرسلنك شهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا )), فهل كان النبي على ظاهر الآية شعلة أو مصباحا يضيء لغيره ؟!!
مسألة الرؤية:-
وهذه المسألة من أهم المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين أهل السنة وأهل البيت ومن تبعهم.
فأهل السنة مطبقون على القول برؤية الله يوم القيام. بينما أهل البيت ومن تبعهم مجمعون على عدم الرؤية في حق الله في الدنيا و الآخرة.
لأن الرؤيا على الحقيقة لا المجاز إنما هي انعكاس للأشعة وارتدادها من الجسم المرئي إلى عدسة العين, فترتسم صورة الجسم في العين, فيرى الإنسان ما يرى من الأجسام. وهذا معنى الرؤيا في حق الإنسان.
فإذا كنا سنرى الله وجب أن يكون الله جسما حتى تسقط عليه الأشعة فترتد علينا, ويجب أيضا أن يكون الله في جهة أمام الرائي حتى يرى, وهذا يخالف قوله تعالى (( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد )), فكيف يجتمع نقيضان " أمام الرائي, وداخله “. واستدلالنا بهذه الآية إنما هو على مقتضى الظاهر الذي يقولون به في آية الرؤية وفي غيرها, فلزمهم هذه المحال على القول بالظاهر في الآيات. وإن كنا لا نفسر الآية على ظاهرها, وإنما نقوم نبطل كلامهم على مقتضى مذهبهم.
وسنقوم بعرض أدلة المثبتين للرؤية والنافيين لها, ومناقشة جميع الأدلة, وإثبات الصحيح منها. وقبل عرض الأدلة نبطل قول الذين يثبتون الرؤيا في حق الله بناءا على ظاهر الآية السابقة, ويتأولون طبيعة هذه الرؤيا, فيقولون يرى الله بحاسة سادسة.
بطلان القول بالرؤيا بحاسة سادسة:-
فقال بعضهم: إنا نرى الله بحاسة سادسة.
قلنا لهم: إن الرؤيا في اللغة لا تعني بظاهرها إلا التي تحدث بالعين, ولا تعني التي تحدث بحاسة سادسة. فلا دليل على هذه الرؤيا التي ادعيتم من سادسة هي لا من اللغة ولا غيرها. فإن قلتم أن الرؤيا قصد بها هنا: رؤيا بحاسة سادسة, فقد أولتم. لأن الرؤيا على الظاهر والحقيقة في اللغة هي الرؤيا التي تتم بالعين. فإن تأولتموها, فتأويلها عندنا أولا. فقد تطلق الرؤيا مجازا على الرؤيا بالقلب ويكون المقصود منها الإدراك, كما يقال رئيت الشيء بقلبي أي أدركته وعلمته, وكما قال تعالى (( إنها لا تعمى الأبصر ولا كن تعمى القلوب التي في الصدور )). فإن أرادوا الرؤيا بالقلب والمعرفة اليقينية, فهذا الذي نقوله به, وهو أن الناس جميعا يوم القيامة يعرفون الله حق معرفته, ويؤمنون به إيمانا ضروريا لا شك فيه ولا شبهة.
أدلة المثبتين للرؤية:-
فمن الأدلة التي استدل بها مثبتون الرؤيا قوله تعالى (( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )) وقوله سبحانه وتعالى (( وللذين أحسنوا الحسنى وزيادة )), فقالو: إن الزيادة هي رؤية الله سبحانه. وقوله تعالى (( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صلحا )), وفسرو اللقاء بالرؤيا. وفسروا قوله تعالى (( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون )), قالوا: أي الكفار والمنافقين هم المحجوبون عن الله يومئذ.
أدلة النافين للرؤية:-
والذين نفوا الرؤية وهم أهل البيت ومن تابعهم مثل المعتزلة, وغيرهم. استدلوا بقوله تعالى (( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير )), وقوله تعالى في جوبه على موسى (( لن تراني )) , وسؤال الرؤيا كان بطلب من بني إسرائيل قال تعالى (( أم تريديون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل )) , وقال تعالى (( فقد سألوا موسى أكبر من ذالك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصعقة )) .
مناقشة أدلة القائلين بالرؤية:-

إذاً نأتي إلى مناقشة الآيات التي استدل بها المثبتون للرؤية، قالوا،: قال الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 22، 23)، فقالوا: كيف تنكروا رؤية الله وهو يقول: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ).
فنقول: أولاً: نناقش الآية بناء على مذهبكم وعلى قولكم بالعمل بالظاهر وعدم التأويل( )، فعلى ظاهر الآية أن الله تعالى قال(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، فذكر الله تعالى أن الوجوه هي الناظرة إلى الله تعالى ولم يقل العيون؛ فعلى الظاهر أن الوجوه هي التي ترى الله وليست العيون؛ لأن الله لم يقل: عيون يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة.
فإن قالوا: إن الله سبحانه أطلق الوجه وأراد العين لأنها فيه.
نقول لهم: إذاً خرجتم بهذا عن ظاهر الآية وقلتم بالتأويل الذي قد قلتم إنكم لا تقولون به بل زعمتم أنكم تُثبتون الآيات على ظاهرها؛ لأن إطلاق الوجه على العين مجاز فلم تبقوا الآية إذاً على حقيقتها وظاهرها، فانتقضت قاعدتكم وهي عدم التأويل من أول وهلة.
وإذا أردتم أن نبقي الآية على ظاهرها فالوجوه هي التي ترى الله، ولا يجوز لكم أن تقولوا العيون.
وأيضاً مما يدل على أنه ليس المراد بالآية الرؤية قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) المراد به يوم القيامة مع أن أهل السنة مجمعين على أن المؤمنين لا يرون الله في المحشر وإنما يرونه عندهم يوم القيامة، كما يذكر ذلك الإجماع ابن العربي في عارضة الأحوذي قائلاً:
إن الناس في هذه الحال لا يرونه سبحانه في قول العلماء، وإنما محل الرؤية الجنة بإجماع العلماء 1هـ( ).


تفسير (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)
فإذا قالوا: إذاً فما معنى الآية

الرائق
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 30
اشترك في: الخميس ديسمبر 18, 2003 11:44 pm
مكان: جدة
اتصال:

تــابـــع

مشاركة بواسطة الرائق »

تفسير (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)
فإذا قالوا: إذاً فما معنى الآية عندكم؟ وماذا ستقولون فيها؟ إذا أدخلتموها في هذه المضائق؟.
فنقول لهم: إن معناها عندنا سهل قريب لا يحتاج إلى كلفة، فنقول: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ)، أي وجوه يوم القيامة مشرقة مبتهجة مسرورة، (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) أي مؤملة في الله سبحانه وراجية لرحمته وثوابه؛ فالنظر هنا بمعنى انتظار الرحمة، لا بمعنى نظر العين؛ وهذا مشهور في كلام العرب أنهم يستخدمون النظر بمعنى الانتظار، ومشهور أيضاً في كلام القرآن أن النظر يأتي بغير النظر بالعين، قال في بلقيس قالت: (وَإِنِيّ مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُون) (النمل: 35)، أي منتظرة ما يرجع به المرسلون، وليس المعنى أنها ناظرة بعينها.


النظر بمعنى الإنتظار للخير يتعدى بإلى
فإن قالوا: النظر في هذه الآية متعد بالباء، وهناك فرق بين ما هو متعد بالباء وبي ما هو متعد بإلى، والآية الأولى النظر فيها متعد بإلى وهي قوله تعالى: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) وما يتعدى بالباء يكون بمعنى الانتظار، وما يتعدى بإلى يكون بمعنى الرؤية بالعين.
فنقول: إذا كان قولكم هذا صحيحاً فكيف ستصنعون بقول حسان بن ثابت يوم بدر:
إلى الرحمن يأتـي بالخلاص وجـوه يـوم بـدر ناظـرات

فالنظر هنا تعدى بإلى فهل أحد من أصحاب بدر قال: إنه رأى الباري حقيقة؟!.
أم أن المعنى الصحيح أنهم مؤملون في الله منتظرون الخلاص والنصر من الله سبحانه وتعالى على أعدائهم المشركين.
فهذا الاستخدام معروف في لغة العرب ولا زلنا نستعمله ونستخدمه إلى الآن.
فنحن نستخدم النظر بمعنى الرجاء وأمل الخير، فإذا ذهب شخص إلى آخر يطلب منه أن يقضي حاجة له أو يطلب منه المساعدة فيها فيقول مستعطفاً له: يا فلان أنا إنما أنظر إلى الله ثم إليك، يعني لا أمل لي ولا رجاء معي إلا في الله ثم فيك، فهذا معنى النظر، وكما قال الشاعر:
وجوه بهاليل العراق على النوى إلـى ملك ركن المعارف ناظرة
يعني وجوه أهل العراق على البعد الذي بينك وبينها ناظرة إليك، يعني راجية ومؤملة في ذلك الملك، وليس المعنى أنها ناظرة نظراً حقيقياً؛ لأن العين لا تستطيع الرؤية من بلاد إلى بلاد بعيدة عنها.
إذاً فالنظر بمعنى انتظار الرحمة مستعمل في الكتاب والسنة، وفي كلام العرب.
وكذلك فإننا ندعوا الله سبحانه وتعالى في كثير من دعائنا بأن ينظر إلينا فلسنا نطلب منه أن يرانا وإنما نطلب منه أن يرحمنا بقولنا: (اللَّهُمَّ انظر إلينا واغفر لنا.
فاستخدام النظر بمعنى الرجاء وتأميل الرحمة على سبيل الكناية، كما يقال مثلاً لملك، ينتظر الناس ببابه العطاء والرزق: إن وجوه جميع الناس ناظرة إليك وإلى ما تقدم لهم من الخير والعطاء.
فلا يأتي النظر مسنداً إلى الوجه إلا بهذا المعنى لا بمعنى رؤية العين، ونأكِّد أنه لن يأتي ناظر مسند إلى الوجه إلا بهذا المعنى، ونتحدى أن يأتوا لنا بشاهدٍ أن النظر يأتي مسنداً إلى الوجه بمعنى النظر بالعين.
فهذه دواوين العرب موجودة، وهذا كلامهم موجود؛ فلن يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
إذاً فمعنى قول الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) أي وجوه يوم القيامة مشرقة مسرورة منتظرة لرحمة الله سبحانه راجية ثوابه ودخولها الجنة محل الثواب والأجر.



القرآن يفسر لنا: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ) الآية
وهناك شاهد قريب من الآية يفسر لنا معنى الآية، وأن معناها ما ذكرنا؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، قال الله بعد تلك الآية: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) (القيامة: 24، 25). ومعنى باسرة أي كالحة مغبرّة، كما قال الله: (عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ).
(تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ): منتظرة للعقاب ونزوله عليها، فانظر كيف قابل الله في الآيتين بين وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين، فوجوه المؤمنين مشرقة، ووجوه الكافرين كالكحة. والمؤمنون منتظرون للخير والنعيم، والكفار منتظرون للشر والعذاب قاطعون بوقوعه.
فهذا هو التفسير اللائق ببلاغة القرآن وفصاحته؛ لأنه أفصح الكلام وأبلغه فإذا لم يقتنعوا بهذا التفسير وأصروا على التظاهر الذي يدعونه- وهو في الحقيقة ليس بظاهر- وأن ناظرة في الآية معناها ترى الله.


اضطرارهم إلى التأويل في آية: (وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِم)
فنقول لهم: إذا أردتم أن يبقى ذلك كذلك؛ فأخبرونا عن معنى قول الله تعالى في الكفار: (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ) (آل عمران: 77).
فهل ستقولون: أن معنى لا ينظر إليهم أن الله سبحانه لا يرى الكفار يوم القيامة إبقاءً للآية على ظاهرها؟!
فإن قالوا بذلك فقد أثبتوا على الله الجهل وعدم العلم،
وإن قالوا: إن معنى: لا ينظر إليهم، أي لا يرحمهم.
فنقول لهم: هذا القول خلاف اللفظ الظاهر للآية وهو تأويل، وأنتم لا تقولون به؛ فلماذا صح تأويلكم هذا فأولتم (وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ)، بمعنى لا يرحمهم؟! ولم يصح تأويلنا لقوله تعالى ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، بأنها منتظرة لرحمته تعالى:
أليس هذا تفريق بدون فارق؟ وتعسف في القول؟ وتعصب للباطل؛ فإما أن يقولوا إن النظر بمعنى الانتظار للرحمة، أو يقولوا إنها بمعنى الرؤية لله فيلزمهم أن الله سبحانه لا يرى الكفار يوم القيامة، وليختاروا ما شاءوا.
حتى إن العرب ليطلقون النظر بالعين ويريدون بها معنى نظر الرحمة، ومن ذلك قال الشاعر:
يولي الندى وتلاف قبل تلافي انظـر إليَّ بعين مولى لم يزل
فأراد الشاعر أن ينظر إليه بعين مولى إلخ وإنما أراد أن ينظر إليه بالرحمة والصلة والعطية، ولم يرد أن ينظر إليه بالعين الحقيقية، مع أنه قد ذكر النظر وصرح بلفظ العين.


تفسير: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
ومما يستدلون به على الرؤية قوله تعالى: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)(يونس: 26)، فقالوا: إن الزيادة هي رؤية الله سبحانه وتعالى، بعد دخول المؤمنين الجنة.
فنقول: ليس في الآية ما يدل على رؤية الله من قريب ولا من بعيد، ولما كانوا يعرفون أنه ليس في الآية ما يدل على ذلك، عمدوا إلى وضع حديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ولفقوه ليفسروا به هذه الآية.
وهو: أن النبي قال: إن للذين أحسنوا الحسنى وهي دخول الجنة، والزيادة هي رؤية الله في الجنة.
فنحن لا نناقشهم في هذا الحديث الذي جاءوا به لأن موضوعنا هو الآيات المتشابهة؛ ولأن من الأحاديث ما هو موضوع مكذوب على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإنما نقاشنا معهم في الآية ودلالتها، فليس في الآية ما يدل على أن الزيادة هي الرؤية له لا ظاهراً ولا تأويلاً.
فنقول في معنى الآية: إن (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى)، وهو الإحسان والجزاء على أعمالهم كما قال الله: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن: 60).
والزيادة: هي مضاعفة الله للأجر إلى عشرة أضعاف وإلى أكثر من ذلك أضعافاً؛ لأن الزيادة لا تكون إلا من جنس الشيء المزيد؛ فإذا أحسن الله إليهم بدخولهم الجنة وإثابتهم فيها فإنه سيزيد لهم نعيماً تفضلاً منه على النعيم الذي يستحقونه بأعمالهم.
ويروى في تفسير أمير المؤمنين علي (عليه السلام) للزيادة أنه قال: (الزيادة غرفة من لؤلؤ لها أربعة أبواب) وعن ابن عباس أنه قال: (الحسنة بالحسنة والزيادة التسع إنه تعالى يقول: (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمثَالَها)( ) وهم جاءوا بحديث يستدلون به على أن الزيادة هي رؤية الله تعالى، ففي هذا الحديث أن الله يعطي المؤمنين في الجنة القصور والأنهار، فيقول لهم: هل رضيتم؟ فيقولون: نعم؛ فيقول: هل أزيدكم؟ فيقولون: ليس فوق هذا شيء؛ فيكشف لهم عن الحجاب فيرونه.
قال الراوي: فما أعطوا شيئاً أفضل من النظر إلى الله، ففسروا الزيادة برؤية المؤمنين لله في الجنة.
مع أنهم قد رووا حديثاً في البخاري وقد تقدم ذكره أنه تبقى هذه الأمة في المحشر بعد ما يأتي كل أمة إلهها الذي تعبد، وفي هذه الأمة منافقوها فيأتيهم الله في غير الصورة التي عرفوه؛ فالمنافقون يرون الله على ما يدل عليه هذا الحديث.
ثم قالوا في الآية: إن الزيادة هي رؤية المؤمنين لله؛ وأنها أعظم النعيم، فهل المنافقون مؤمنون محسنون برؤيتهم لله، مع أن الله قد قال فيهم إنهم في الدرك الأسفل من النار؛ أليس هذا إلا التناقض بعينه.
فعند تفسيرهم للآية يقولون إن الزيادة هي رؤية المؤمنين له، وأنها أعظم النعيم في الجنة، وهمُّهم نصرة مذهبهم فقط ولا يتذكرون في تلك اللحظة أنهم قد رووا أن المنافقين يرون الله، فلا يستطيعون الخروج من هذه التناقضات إلى بالاعتراف ببطلان مذاهبهم وسقوطها.


معنى (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ)
ومما يستدلون به على الرؤية أيضاً قول الله سبحانه: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ) (الكهف: 110)، وفي الحديث: "من أحب لقاء الله أجب الله لقائه".
فنقول: إن الآية والحديث لا دلالة فيهما على الرؤية أصلا، لأن معنى اللقاء في حق الله كمعناه في حق الإنسان، وإنما معنى لقاء الله أن نلقى جزاءه وأمره وحسابه، وأن الإنسان سيصل إلا محكمته تعالى ومحل عدله، ومحل الحساب والعقاب في يوم القيامة، الذي يؤدي فيه سبحانه إلى كل إنسان جزاء عمله.
ومعنى من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، أي من أحب الموت الذي به يصل إلى ثواب الله سبحانه وتعالى، وأحب الانتقال إلى دار ضيافة الله وما وعد به من النعيم؛ فإن الله سيحب وصوله إلى جنته ودار ضيافته، وسيوفيه ثوابه وأجره؛ فهذا معنى اللقاء.
وليس كما قالت المشبهة أن معنى لقاء الله أن تراه ويراك. ويجاب عليهم بأنه لو كان لقاء الله بمعنى الرؤية لما جاز للمنافق أن يلقى الله، فالرؤية عندهم مقصورة على المؤمنين لأنها بزعمهم أعظم النعيم، ومع أن الله تعالى يقول في المنافقين: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) (التوبة: 77).
فلو كان المراد باللقاء هو الرؤية والتبرك بها لما جازت للمنافق. فمعنى: إلى يوم يلقونه، أي يلقون أمر الله وحسابه وعقابه.
وفي بعض الأحاديث: عن ابن مسعود عنه (ص): "من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان"( ).
وفي رواية عن جابر عنه (ص): "من لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار". فليس المعنى أنه يراه ولا يلقاه لقاء الأجسام؛ بل يلقى أمره وعذابه وسخطه في الوقت المحدد لذلك وهو يوم القيامة.
هذا هو المعنى الذي نصححه في الآية لاستقامته في اللغة ولما فيه من التنزيه لله تعالى.
تفسير(كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ)

ويستدلون أيضاً بقولـه تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ)(المطففين: 15).
قالوا: إن الكفار والمنافقين يوم القيامة محجوبون عن رؤية الله، ورووا عن الشافعي- وقد تكون هذه الرواية مكذوبة عن الشافعي- أنه قال: فلما حجب أناساً بسخطه دل على أن أناساً يرونه برضاه.
فنحن نقول في معنى هذه الآية: إن الآية إخبار من الله تعالى عن غضبه على المنافقين والكفار بأنهم محجوبون عن رحمته وعن الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين.
وهذا المعنى مستعمل في كلام العرب، كما يقال: فان محجوب من الدخول على الملك، وإنما سمي الحاجب حاجباً لأنه يحجب الذين لا يرضى عنهم الملك ويمنعهم من الدخول، ويُدخل من يرضى عنهم الملك، فلا يصل شيء من عطاء الملك وخيره إلى المحجوبين عنه، ويصل خيره وعطاؤه إلى الذين لم يحجبوا، فهذا معنى الحجب في لغة العرب.
فيقال لمن لا يصل عطاء الملك ورزقه إليه: محجوب عن الملك؛ حتى وإن لم يكن واقفاً بباب الملك ومحل جلوسه.
فالمنافقون والكفار محجوبون عن الرحمة والنعيم الذي يوصله الله إلى المؤمنين كما قال تعالى (إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) عندما قالوا: :( أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ) (الأعراف: 50).
وقال الشاعر العربي في وصف شخص ومدحه:
وليس له عن طالب العرف حاجب له حاجـب عن كـل أمر يشينه
وما قلناه هو معنى الحجب في اللغة.


المفهوم إنما يعمل به في الظنيات لا في العقائد

ثم إنهم استدلوا بالآية على رؤية الله من المؤمنين، وليس في منطوق الآية ما يفيد ذلك، وإنما استدلوا بمفهوم الآية، وهو أن المنافقين إذا كانوا محجوبين عن الله، فيفهم منه أن المؤمنون يرونه، وهذا المفهوم يسمى مفهوم المخالفة.
ومفهوم المخالفة لا يعمل به إلا بعض العلماء، وإنما يعمل به في المسائل الفرعية الظنية، ومفهوم المخالفة هذا من أمثلته التي يمثل بها عليه: قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "في الغنم السائمة زكاة" فالمفهوم منها أن الغنم المعلوفة ليس فيها زكاة.
فقالوا: إن الله ذكر أن الكفار والمنافقين محجوبون عنه، والكفار والمنافقون لقب لطوائف من الناس؛ فيفهم أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن الله.
فنقول لهم: على فرض صحة العمل بهذا المفهوم الضعيف فإنه لا يعمل به إلا في المسائل الفرعية الظنية، ولا يعمل به في مسائل الاعتقاد؛ فكيف نبني عقيدة في الله سبحانه على مفهوم من المفاهيم الضعيفة الذي لا يعمل به البعض في مسائل الفقه.


المفهوم من مظاهر الآية أن الله يرى المؤمنين لأنهم يرونه
ثم إنه يجب علينا التأمل في الآية جيداً وفي دلالتها؛ فالآية تدل على أن المنافقين والكافرين هم المحجوبون عن الله، وليس أن الله سبحانه محجوب عنهم؛ لأن الله لم يقل إنه محجوب عنهم، بل قال: (إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ)(المطففين: 51).
فلا يصح لهم من ظاهر الآية أن يقولوا إن الله ليس محجوباً عن المؤمنين فهم يرونه؛ لأنا نقول وكذلك ليس الله محجوباً عن الكافرين والمنافقين بدلالة الآية وظاهرها وإنما هم المحجوبون عنه.
ثم إن ظاهر الآية على عكس ما يقولون؛ لأنهم إذا أصروا بأن الحجب هو عدم الرؤية، فإن ظاهر الآية أن الكفار والمنافقين محجوبون عن الله؛ فالله لا يراهم لأنهم محجوبون عنه.
ففيهم منها أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن الله فالله يراهم، هكذا يكون المعنى إذا أرادوا الوقوف عند ظاهر الآية، فليس فيها دلالة على أن المؤمنين يرون الله، بل الدلالة فيها من المفهوم على أن الله يراهم فقط.
وهذا كما نقول: إن الجن محجوبون عنا؛ فالمعنى أننا لا نراهم بسبب أنهم محجوبون عنا، لا أنهم لا يروننا، فهم يروننا بلا شك (إنَّه يَرَاكُم هُوَ وَقَبيلُهُ مِن حَيثُ لا تَرَوْنَهُم).
وعلى قولهم في الآية- وهو قولهم: أن الكافرين والمنافقين لا يرون الله لأنهم محجوبون عنه- يكون معنى هذا الكلام: إن الجن لا يرونا بين الجملتين من حيث الدلالة؛
فيظهر لك أيها المطلع والقارئ الكريم مدى التعسف في تأويلهم، وأن دعواهم في تمسكهم بظاهر الآيات دعوى غير صحيحة.
فعلى الظاهر الذي بيناه من الآية يلزم أن الله لا يرى الكافرين والمنافقين- تعالى عن ذلك-؛ فهم إذاً قد عكسوا مفهوم الآية وكذلك منطوقها.
إذاً فالمعنى كما قلنا: إن الكافرين والمنافقين محجوبون عن الله، أي: عن رحمته وثوابه ومغفرته؛ ويظهر من هذا أنه لا دليل في الآية أصلاً على أن الله يُرى لا منطوقاً ولا مفهوماً.

أدلة القائلين بعدم الرؤية
وأهل البيت (عليهم السلام) ومن يقول بقولهم يقولون: إن الله لا يُرى لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه تعالى لا تجوز عليه الرؤية.
ومما يستدلون به قوله تعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام: 103).
فقالوا: إن هذه الآية دالة على عدم الرؤية، وهي ليست كالآيات التي يستدل بها القائلون بالرؤية؛ فلا يقول القائل: أنتم تستدلون بآيات قرآنية على أن الله لا يُرى وهم كذلك يستدلون بآيات قرآنية على أن الله يُرى.
لأنها نقول له: ليست هذه الآية كتلك الآيات التي يستدلون بها؛ فإن الآيات التي يستدلون بها على الرؤية تسمى آيات متشابهة تحتمل أكثر من معنى، وأصح معانيها ما يتوافق مع المحكم.
وهذه الآية محكمة؛ فيكون معناها واضحاً لا لبس فيه ولا يمكن القول بغيره؛ حيث قال: الله سبحانه وتعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، فالإدراك هي الرؤية والنظر، والأبصار هي العيون، وليس هناك معناً آخر يحتمله اللفظ أو يدل عليه، ولا يمكن تأويل هذا الفظ بغير هذا التأويل ولذلك سميناه محكماً؛ فهو محكم من الأحكام، وهو الإتقان لا لبس فيه ولا غموض.
فنفى سبحانه وتعالى رؤية العيون له سبحانه في الآية، والآية في سياق تعداد المدائح لله سبحانه وتعالى؛ فذكر في أول الآيات أنه (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) (الأنعام: 95).
إلى أن قال: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام: 101- 103).
فهي مِدحة مدح الله بها نفسه فلا يجوز أن نقصرها على وقت دون وقت أو على مكان دون مكان، يعني أن الله سبحانه ليس من جنس الأشياء التي تدرك الأبصار؛ لأن الأبصار لا تدرك إلا الأجسام أو الأعراض، والله ليس بجسم ولا عرض وهو اللطيف الخبير.
وما قالوه: من أنه لا تدركه الأبصار في الدنيا فقط، فليس بصحيح؛ لأنها كما قلنا مدحة من الله والمدحة لا تكون مقصورة على وقت دون وقت، وإلا لزم على قولهم ذلك أنه يجوز أن يكون الله (لَطِيفٌ خَبِيرٌ) في الدنيا فقط دون الآخرة، وإلا ما الفرق حتى نقول: لا تدركه الأبصار في الدنيا، لطيف خبير في الدنيا والآخرة؛ فهذا تفريق بدون فارق، فالآية واحدة والسياق واحد.
فكيف يكون الله ممدوحاً بمدح ونقول في الدنيا فقط، فلا مانع على هذا أن نقدر في كل المدائح التي لله أنها في الدنيا فقط دون الآخرة؛ فيكون قول الله سبحانه وتعالى: (لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) (البقرة: 255)، في الدنيا فقط أما الآخرة فتأخذه سنة ونوم- تعالى عن ذلك-.
فإذا قالوا: يلزم من هذا النقص في الله سبحانه لأنه السنة والنوم من صفات الأجسام.
فنقول: وكذلك قولهم أن الأبصار تراه في الآخرة فيه نقص لله سبحانه لأن الأبصار لا ترى إلا الأجسام والأعراض والله ليس بجسم ولا عرض.
ولأن الآية مدح لله سبحانه لأن الله قال فيها: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) (الانعام: 102)، يعني هذا الذي هو على هذه الصفات العظيمة من أنه فالق الحب والنوى مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
ولأن رؤية الله في الدنيا صفة نقص فكذلك رؤيته في الآخرة، أم أن صفة النقص في الدنيا تنقلب صفة مدح في الآخرة؟!
ثم إننا لا ندري من أين جاءوا بهذا القيد في الآية من أنه لا تدركه الأبصار في الآخرة مع أن الآية ليس فيها ما يدل على ذلك، وليس في آيات القرآن ما يدل على هذا القيد.
الآية الثانية من الأدلة الدالة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته: قوله تعالى في جواب موسى حين سأله الرؤية على لسان قومه: فقال: (رَبَّ أَرِنِي أَنْظُر إِليك) (الأعراف: 143) فرد الله على سؤاله ذلك بقوله: (لَن تَرْاني).
وقد ذم الله طلب بني إسرائيل من موسى أن يريهم الله، وشنع عليهم به في قوله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ) (البقرة: 108) وقال: (فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً) (النساء: 153).
فهؤلاء الحشوية الذين يريدون أن يروا الله هم مثل قوم موسى الذين طلبوا رؤية الله لأنهم يريدون أن يكون لهم إله محدود لـه جسم وحجم فإنهم ما خرجوا من البحر حتى قالوا لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) (الأعراف: 138).

طلب موسى للرؤية كان لإقناع قومه
وعندما طلبوا من موسى رؤية الله بيَّن لهم موسى: أن الله لا يمكن رؤيته؛ فلم يقتنعوا وأصروا على طلب الرؤية، فطلب موسى ما قالوه وسألوه منه حتى يروا الجواب والرد من الله بأنفسهم؛ فطلب موسى من الله الرؤية وإنما طلبها لنفسه إذ نفى الله عنه جواز الرؤية وهو كليمه ونبيه علم أن عدم جوازها في حق قومه بالأولى، ولو طلب الرؤية لقومه، فقال له الله- لن تراني- لقال بعضهم إنما منعهم الرؤية لعصيانهم وعدم صحة إيمانهم.

تعليق رؤية موسى بالمحال دليل على استحالتها
فأجاب الله موسى بقوله: (لَن تَرْاني)، وعلق سبحانه رؤيته بحصول المستحيل، فقال: (وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)(الأعراف: 143)، يعني فإذا استقر الجبل مكانه ولم يتبدد ولم ينته فسوف تراني.
فلتأمل الإنسان ما هي الفائدة من قوله: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ)، مع أنه كان يمكن أن يقول: (لَن تَرْاني)، فقط.
الفائدة في ذلك: أن الله يخبرنا أن هذا الطلب محال، وطلب للمحال ولا يمكن في حق الله فعلقه سبحانه بثبوت الجبل مكانه مع علمه تعالى أنه سينسفه ويجعله دكاً فعلَّق ذلك بالمستحيل ليعلم أن رؤيته مستحيلة.
فثبوت الجبل مستحيل مع علم الله بأن يدكه في تلك اللحظة التي أراد أن يدكه فيها فثبوته مع إرادة الله لدكه فأحول المحال؛ لأن الله فعال لما يريد، ما أرداه كان.
فكأن الله قال لنبيه موسى: إذا صح هذا المحال وهو استقرار الجبل مع إرادتي لدكه فسوف تراني.
فهذا التعبير عن وسائل التعبير الذي يقطع الطمع لدى الإنسان في حصول شيء يريد حصوله.
كما تقول لإنسان يريد حرمانه من عطائك: إذا طلعت الشمس من المغرب فسوف أعطيك، تريد بهذا قطع الطمع لديه في إعطائك إياه.
فلما تجلى الله بالقدرة لهذا الجبل جعله دكاً؛ لأنه من المحال أن لا يكون دكه، وقد أراد دكدكته في ذلك الوقت؛ ففيه من الإقناع زيادة على قوله تعالى: (لَن تَرْاني)، بأن علقها بالمحال.
إذاً فمن هنا فإن الآية تفيد نفي الرؤية مؤبداً لتعليقها بالمستحيل، مع أنَّ لن عند بعض أهل العربية تفيد التأبيد والدوام.
ونحن نقول: وإن لم تفد لن التأبيد، فقد أفادته الآية بسبب تعليقها بالمستحيل الذي ذكرناه وأوضحناه.
وقد تاب موسى (عليه السلام) من مساعدته قومه في هذا السؤال واعتذر إلى الله من ذلك، قال الله: (وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 143).
فإنزال الله العذاب والصاعقة على قوم موسى يدل على أن ما طلبوه من الرؤية لله جريمة ومعصية كبيرة يستحقون عليها العذاب؛ لأن الله لا ينزل الصواعق والعذاب إلا على العصيان، ولذا قال موسى: (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا) (الأعراف: 155)، فأكد موسى على أن هذا الطلب كان من سفهاء قومه ومعانديهم. ثم قال موسى: (وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، يعني أنا أول المصدقين بأنك لا تُرى ولا تجوز عليك الرؤية، وليس كمثلك شيء.

شواهد قرآنية على استحالة الرؤية لله عزَّ وجلَّ
وقال الله في آية أخرى على لسان المشركين: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، يعني أنهم لا يؤمنون إلا إذا رأوا الله.
فأجاب الله عليهم بقوله: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً) (الفرقان: 21)، فذمهم الله سبحانه على طلبهم رؤيته ووصفهم بأنهم استكبروا وعتوا عتواً كبيراً بطلبهم ذلك؛ فهل هذا الذم من الله والرد عليهم إلا لأنه تعالى لا يمكن رؤيته ولا تجوز؟!.
لأنه سبحانه وتعالى لا يذم في كتابه الكريم إلا على القبائح والمعاصي.
وقد ذكر الله في آخر الآية من الذي تجوز رؤيته، فذكر أن الملائكة هم الذين تجوز رؤيتهم عند حضور الموت فقال تعالى: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً) (الفرقان: 22).
إذاً فالاستكبار الذي ذكره والعتو في قوله تعالى: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً) (الفرقان: 21)، هو بسبب طلبهم رؤية الله سبحانه وتعالى لأنه لا تجوز رؤيته.
بينما لم يصف الله قوم عيسى بمثل ما وصف به هؤلاء لأنهم لم يطلبوا شيئاً غير جائز بل استجاب لطلبهم، حيث طلبوا أن ينزل عليهم مائدة من السماء فقالوا لعيسى: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة: 112، 113) (قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ)(المائدة: 115).
فلم يقل الله فيهم: (لَقَدِ استَكبَرُوا في أَنفُسِهِم وَعَتَو عُتُوّاً كَبِيراً)، بسبب طلبهم لهذه المعجزة؛ بل استجاب الله ما طلبوا لأنه ممكن وجائز وقوعه.
وقال تعالى في سؤال قوم موسى:(أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ)(البقرة:108)، وسؤال موسى هو ما قاله فيه الله تعالى: (فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) (النساء: 153).
فجعل الله سؤالهم كمن يتبدل الكفر بالإيمان، لعدم جوازه على الله لكبر المعصية بالسؤال إذاً فما تقدم من الآيات ينفي الرؤية نفياً قاطعاً، ولا يجعل لجوازها أي احتمال.




بطلان تأويلهم للآية (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)
وهم يحاولون أن يؤولوا قول الله تعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام : 103)، فيقولون: الإدراك هنا ليس بمعنى النظر، وإنما هو بمعنى الإحاطة، فمعنى لا تدركه الأبصار: أي لا تحيط به الأبصار، أي أن الأبصار لا تستطيع رؤية الله كله فلا يرى إلى بعضه.
فنقول لهم: من أين لكم أن الإدراك بمعنى الإحاطة؟
قالوا: قال الله تعالى في فرعون: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) (يونس: 90)، أي أحاط به الغرق، وقال أصحاب موسى: (إِنَّا لَمُدرَكُونَ) (الشعراء: 61)، يعني محاط بنا من قِبَلِ فرعون وجنوده.
فنقول: لو كان المعنى على ما تقولون؛ فقول الله تعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، ليس مدحاً لله سبحانه بأنه لا تحيط به الأبصار، بل لا ترى إلا بعضه؛ لأن أغلب الأشياء بهذه المثابة لا تحيط بها الأبصار، بل لا تحيط ولا ترى إلا بعضها، بل يمكن أن نقول إن كل الأشياء مهما صغر حجمها فإن الأبصار لا تستطيع الإحاطة بها.
فإذا نصبت حتى إصبعك فإن بصرك لا يستطيع الإحاطة بها من كل الجوانب في وقت واحد، ولا يستطيع النظر الإحاطة إلا بما واجهك فقط وبقية الشيء الذي لا يواجهك لا يستطيع النظر والبصر الإحاطة به.
فعلى هذا المعنى لم يبق في الآية مدح لله بأنه لا تدركه الأبصار؛ بل انقلبت ذماً لله سبحانه؛ لأنه قد شابه بذلك كثيراً من الأشياء، والله ليس كمثله شيء.


لا يأتي الإدراك في اللغة بمعنى الإحاطة
ثم إن قولهم: إن الإدراك معناه الإحاطة غير مسلم به أصلاً، فلا نسلم أن الإدراك يأتي بمعنى الإحاطة.
وأما قولهم في قول الله: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) (يونس: 90)، قالوا: أي أحاط به الغرق،
فليس معنى الإدراك هنا الإحاطة لأن الغرق المقصود به هو الموت بالماء، والغرق عرض لا يصح منه الإحاطة، وإنما المحيط هو الماء لا الغرق؛ فمعنى: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ)، أي: فلما وصل إليه الموت بالغرق في الماء.
وقول الله تعالى: (إِنَّا لَمُدرَكُونَ) (الشعراء: 61)، فليس معناه الإحاطة وإنما معناه اللحاق من فرعون وجيشه لبني إسرائيل، فمعنى: (إِنَّا لَمُدرَكُونَ)، أي ملحوق بنا، كما يقال: أدركت فلاناً في بلاد كذا أي لحقت به، وليس المعنى أحطت به، ويقال: فلان صحابي لأنه أدرك الرسول (صلى الله عليه وسلم) أي لحق زمانه).

معاني الإدراك في اللغة
والإدراك وإن كان له معان كثيرة، فإنه إذا أسند إلى البصر فليس معناه إلى الرؤية بالعين.
فمن معاني الإدراك، النضوج، يقال: أدركت الثمرة، يعني نضجت.
ويأتي بمعنى اللحاق كالآية التي سبقت: (إِنَّا لَمُدرَكُونَ)، وكالمثال الذي قدمناه ذكره.
ويأتي بمعنى البلوغ كما يقال: أدرك الصبي إذا بلغ.
أما الإدراك بالبصر فلا يأتي إلى بمعنى النظر بالعين، وكذلك الإدراك بالسمع لا يأتي إلا بمعنى السماع بالأذن، وكذلك إذا نسب الإدراك إلى إحدى الحواس فلا يعني إلا الإدراك بتلك الحاسة، فالإدراك المنفي المنسوب إلى الأبصار في قوله تعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لا يكون إلا بمعنى عدم الرؤية والنظر بالأبصار.
فانظر كيف تأولوا الإدراك في هذه الآية المحكمة ورفضوا قبول تأويلنا في الآيات المتشابهة. فالآيات التي تدل على عدم الرؤية وعلى تنزيه الله عن التشبيه والتجسيم يتأولونها ويبحثون لها عن تأويلات باطلة لا تقبلها اللغة ولا العقل.
وإذا جاءوا إلى الآيات يجب تأويلها لأن ظاهرها يقتضي التجسيم والتشبيه لله تعالى، قالوا لا يجوز التأويل وعلينا أن نبقي الآيات على ظاهرها دون تأويل، مع أنهم في الواقع كما بينا لا يستطيعون إلا التأويل حتى في الآيات التي يقولون نبقيها على ظاهرها؛ فهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقلِّبون القواعد رأساً على عقب؛ فما هو غير جائز على الله جوَّزوه، وما جائز على الله لم يُجوّزوه.





بطلان استدلالهم برواياتهم على ثبوت رؤية الله عزَّ وجلَّ
ولأنهم يُقمَحوا عند نقاش الآيات القرآنية، ويعجزون عن تلفيق معاني الآيات؛ لأن في القرآن المحكم الذي هو أم الكتاب- كما قال الله- يرد إليه المتشابه.
فقد عمدوا إلى افتعال أحاديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم يقلها ولم يتفوه بها وهذه الأحاديث التي يستدلون بها على رؤية الله عزَّ وجلَّ لا يصح الاستدلال بها لعدة أوجه:
الوجه الأول: إن فيها من التجسيم والتشبيه ما يدل قطعاً على وضعها وكذبها، وإليك نماذج من هذه الأحاديث فتأملها جيداً، وانظر هل يجوز لمسلم نسبة ما فيها إلى اله عزَّ وجلَّ:
الحاكم في المستدرك (4/ 626 رقم 8736) – عن أبي سعيد قالت: "قلت: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة، قال: هل تضامون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس فيها سحاب... إلى قوله – قال: ما تضامون في رؤيته يوم القيامة إلا كما تضامون في رؤية أحدهما... إلى قوله:- فيبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر، ثم يتبدى لله لنا في صورة غير التي كنا رأيناها فيها أول مرة!!. إلى قوله- فيقول أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك!!! فيقول: هل بينكم وبين الله من آية تعرفونه؟، فيقولون: نعم الساق، فيكشف عن ساق... إلى قوله- وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة!!! بإلخ".
البخاري في صحيحه (6/ 2708 رقم 7..2)، في حديث الشفاعة وفيه: فيأتوني فأستأذن على ربي في داره!!!! فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً- إلى قوله- ثم أعود فأستأذن على ربي في داره!!!!، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً- إلى قوله- ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره!!!! فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً"، فتدبروا يا أولي الألباب.
أبو عوانه في مسنده (1/ 139): "فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلى لهم بضحك". قال: سمعت رسول الله يقول: "حتى يبدو لهواته وأضراسه!!! فينطلق!! ربهم فيتبعونه!!!".
فإذا لم يكن هذا تشبيهاً فليس في الدنيا تشبيه.
إبن ماجة (1/ 66/ 184): عن جابر عنه (رضي الله عنه) أنه قال: "بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب جلَّ جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم!!! فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة إلخ".
إبن خزيمة كتاب التوحيد ص 236: "إن الله تعالى إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة جآء الرب إلى المؤمنين فوقف عليهم على كور فقالوا: لعقبة ما الكور قال: المكان المرتفع!! فيقول: هل تعرفون ربكم قالوا: إن عرفنا نفسه عرفناه، فيتجلى لهم ضاحكاً في وجوههم فيخرون له سجداً" قال الذهبي في كتابه العلو ص150 هذا حديث حسن.
أبو يعلى في مسنده (7/ 228): "أتاني جبريل وفي يده مرآة بيضاء فيها نكته سوداء- إلى قوله- قلت ما هذه النكتة السوداء فيها، قال: هي الساعة تقوم يوم الجمعة وهو سيد الأنام عندنا، ونحن ندعوه يوم المزيد في الآخرة قلت: وما يوم المزيد قال: إن ربك اتخذ في الجنة وادياً أفيح من مسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة نزل تبارك وتعالى من عليين على كرسيه ثم حف الكرسي بمنابر من نور ثم جاء النبيون حتى يجلسوا عليها- إلى قوله- فيتجلى لهم ربهم عزَّ وجلَّ حتى ينظروا إلى وجهه- إلى قوله- ثم يصعد على كرسيه ويصعد معه الصديقون والشهداء!!!".
الطبراني في الكبير (9/ 417/ 63/ 91): "فيبقى محمد وأمته، فيتمثل الرب عزَّ وجلَّ لهم!!! فيأتيهم فيقول: مالكم لا تنطلقون كما انطلق الناس، فيقولون: بيننا وبينه علامة فإذا رأيناه عرفناه، فيقول: ما هي، فيقولون يكشف عن ساقه، فيخرون- إلى قوله:- فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم والرب عزَّ وجلَّ أمامهم!!!".
الآجري في الشريعة ص 265 عنه (رضي الله عنه):
"أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل جمعة، في رمال الكافور، وأقربهم منه مجلساً أسرعهم إليه يوم الجمعة"( ).

الوجه الثاني: أنها مطعون في أسانيدها، كما يقف على ذلك من فتش عنها، قال السيد السقاف في صحيح شرح العقيدة الطحاوية ص 586:
تتبعت ما ذكره ابن القيم في حادي الأرواح، من (ص 260 إلى 303) (وهو 33 حديثاً) ونظرت في متون وأسانيد تلك الأحاديث وأكثرها ضعيف أو موضوع، ولم أجد ما يصح التمسك به، إلا حديث جرير في الصحيحين، وحديث أبي موسى، وهو مشكل بإلخ، إلى أن قال: وبالجملة فإن ما ذكره ابن القيم ينقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: أحاديث صحيحة تنص على إثبات الرؤية، ولا يستقيم منها إلا حديث واحد، وهو حديث جرير وهو آحاد، قلت: حديث جرير مطعون فيه بقيس بن أبي حازم، وبجرير ابن عبدالله كما ذكره الأمير الحسين في الينابيع ص 120، وأيضاً هو ليس بنص وإنما هو ظاهر، لإمكان تأويل الرؤية بالعلم أي: ستعلمون ربكم علماً ضرورياً كم تعلمون القمر عن رؤيته.
-قال: والثاني: أحاديث في الصحيحين إما شاذة أو فيها ألفاظ منكرة، وتصرف رواه فلا يصح الاستدلال بها.
والثالث: أحاديث صحيحة وضعيفة لا علاقة لها بالموضوع، وإنما استنبط ابن القيم منها ذلك واستنباطه مخطئ هناك.
والرابع: -وهو أكثرها- أحاديث ضعيفة ومنكرة وتالفة أتى بها ليكثر بها عدد رواة الرؤية، وهي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولذلك لم يصرح الحافظ ابن حجر بتواتر أحاديث الرؤية، مع تصريحه بتوتر أحاديث أخرى لم تبلغ طرقها العدد الذي بلغته عدد طرق أحاديث الرواية، فالحديث غير متواتر قطعاً إنتهى.

الوجه الثالث: أنها لو صح شيء منها لكان قابلاً للتأويل كما تأول بعض أصحابنا حديث جرير: "سترون ربكم كالقمر ليلة البدر" بأن المعنى ستعلمونه علماً ضرورياً كما تعلمون القمر عند مشاهدته، كما قال تعالى: (أَلَم تَرَ إِلَى المَلأِ مِن بَنِي إِسْرَائيل) أي ألم تعلم وهذا على تسليم صحته، وأنى ذلك.
وبذلك تأول أبو سليمان الخطابي الحديث البخاري في الرؤية فقال:
وقد تكون الرؤية بمعنى العلم كقوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) كما ذكره عنه البهيقي في الأسماء والصفات ص 183.

الوجه الرابع: أنها لو صحت فهي أخبار آحاد، وأخبار الآحاد لا يعمل بها إلى في المسائل الظنية العملية، ولا يعمل بها في شيء من المسائل العلمية، وخصوصاً ما كان يتعلق بمعرفة الله عزَّ وجلَّ وعلى ذلك نص علماؤهم:
يقول الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية، ص 432: خبر الواحد لا يؤخذ (به) في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها.
ويقول ابن تيمية في كتابه منهاج السنة (2/133):
والثاني: أن هذا من أخبار الآحاد فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصح الإيمان إلا به( ).
الوجه الخامس: إن هذه الأخبار مصادمة للعقل ولقولـه تعالى: (لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ)، (هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)، (وَلَمْ يَكن لَهُ كُفُواً أَحد) وغيرها وخبر الآحاد متروك صادم العقل أو القرآن كان باطلاً كما نص إلى ذلك عملؤهم، يقول الحافظ البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقة (345 – 346): إذا روى الثقة خبراً متصل الإسناد رد بأمور:
أحدهما: أن يخاف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بموجزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا.
الثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو أنه منسوخ.
ويقول شرف الدين التلمساني في شرح اللمعة:
فإذا تقرر ذلك فنقول كل لفظ يرد من الشرع في الذات والأسماء والصفات مما يردهم خلاف العقل فلا يجوز: إما أن يكون متواتر أو آحاد، فإن كان آحاد وهو نص لا يقبل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو غلطه، وإن كان ظاهراً فالظاهر منه غير مراد.. ألخ( ).
الوجه السادس: أن هذه الأحاديث تثبت الجهة لله تعالى فهي مخالفة لإجماع المسلمين، والآحاد إذا خالفت الإجماع كانت مردودة، كما نص على ذلك الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه حيث يقول:
والثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون صحيحاً غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافة إنتهى( ). وقد روى الإجماع على نفي الجهة عنه سبحانه وكفر مثبتها السبكي في كتابه (إتحاف الكائنات) قائلاً ما نصه: (وقد قام إجماع السلف والخلف على أن من اعتقد أن الله تعالى في جهة فهو كافر كما صرح به الحافظ العراقي، وبه قال أبو حنيفة، ومالك والشافعي، وأبو الحسن الأشعري والباقلاني) انتهى( ).
الوجه السابع: أن هذه الأحاديث متعارضة فيما بينها ومضطربة ألفاظها ومعانيها:
ففي الأحاديث: أن الرؤية تقع في المحشر كما خبر المحاكم المتقدم، وفيها أنها تقع للمنافقين. بينما الأحاديث الأخرى تثبت أن الرؤية إنما تقع في الجنة، وأنها أعظم النعيم وهي الزيادة التي قال الله فيها (لِلَّذينَ أَحسَنُوا الحُسنَى وَزِيَادَة)، فكيف تقع للمنافقين؟!.
إلى غير ذلك من التناقضات كما في حديث البخاري: فيأتيهم في غير الصورة التي يعرفونها، وفي رواية: التي رأوه بها أول مرة؟ فمتى رأى المؤمنون أول مرة؟ وبأي صورة عرفوه حتى يقولوا له عندما أتاهم في غير تلك الصورة: نعوذ بالله منك، ويهموا أن يبطشوا به، إلى أن يأتيهم في صورته التي يعرفونه بها فيقولون عند ذلك: أنت ربنا.
ووسيلة التعارف بين الله وخلقه التي اخترعها واضع هذا الحديث جاءت معارضة لوسيلة اخترعها واضع آخر، لم ترق له هذه الطريقة فأتى بطريقة أخرى للتعارف؛ وهو سؤاله لم هل بينكم وبينه آية فيقولون الساق؟! فيكشف عن ساقه، فيخروا له ساجدين.
فهذه الرواية مخالفة للروايات الأولى التي فيها أنهم عرفوه عندما عاد لهم في صورته الحقيقية، ونحن إلى الآن لسنا ندري ما هي الآية أو العلامة التي في هذا الساق، والتي سيعرفون عند رؤيتها أنه رب العالمين، ولا أظن المتسمين بأهل السنة يعرفون هذه العلامة، بل لا أعتقد أن واضع هذا الحديث يعرف هو أيضاً هذه العلامة!!.
فنسأل الله السلامة، وعقيدة صحيحة ننجي بها في عرصة القيامة يوم الحسرة والندامة، وصدق الله حيث يقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الحج: 8، 9).


الروايات المعارضة لرواياتهم في إثبات الرؤية
ثم إن هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخرى صحيحة مناقضة لها، فقد روى البخاري ومسلم: (أنه جاء رجل إلى عائشة فقال لها: هل رأى محمدٌ ربه؟ فقالت: يا هذا لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثك بهن فقد كذب، ومن حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم تلت قول الله سبحانه:(لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الأنعام: 103)... ( ) إلخ).
ويستفاد من الحديث عدة فوائد:
الأولى: قولها لقد قف شعري مما قلت، يدل على أن نسبة الرؤية إلى الله تعالى أمر شنيع عندها من خلال ما فهمته من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن الآيات القرآنية.
الثانية: أنها نفت الرؤية نفياً جازماً قاطعاً واستنكرتها، ولم تستثن الرؤية في الآخرة، ولو كانت مسألة الرؤية في الآخرة معروفة عند الصحابة لاستثنتها، أو لاعترض عليها مسروق في استدلالها بالآية واستنكارها وتكذيبها من زعم ذلك- بأن رؤية الله جائزة كما في الآخرة.
الثالثة: أن استدلال عائشة بالآية على عدم رؤية النبي (صلى الله عليه وسلم) بنفي تأويلهم للآية بأن لا تدركه الأبصار: أي لا تحيط به، أو أن المراد بالأبصار أبصار الكافرين.
ومع هذا فبعض أهل السنة يقولون إن رسول الله رأى الله في ليلة الإسراء والمعراج؛ ل حتى لقد رآه عندهم في المنام، بل لقد رآه عندهم في المنام غير الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "إن أحداً لا يرى ربه في الدنيا ولا في الآخرة" كما رواه الأمير الحسين في ينابيع النصحية. وعن سمرة بن جندب قال: سألنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هل نرى ربنا في الآخرة؟ قال: فانتفض، ثم سقط فلصق بالأرض وقال: "لا يراه أحد ولا ينبغي لأحد أن يراه"، وعن ابن عباس أنه (رضي الله عنه) قال في دعائه في الوتر: "اللهم إنك ترى ولن ترى".
وروى الأمير الحسين في الينابيع عن علي (عليه السلام) أنه مر برجل رافع يديه إلى السماء، شاخص ببصره، فقال له (عليه السلام) "يا عبد الله أكفف من يدك، واغ من بصرك، فإنك لن تراه، ولن تناله، فقال: يا أمير المؤمنين إن لم أره في الدنيا فسأراه في الآخرة، فقال: ولن تراه في الدنيا ولا في الآخرة، أو ما سمعت قول الله تعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، أن أهل الجنة ينظرون إليه تعالى كما ينظر إليه أهل الدنيا ينتظرون ما يأتيهم من خيره وإحسانه"( ).
وتفسير قولـه تعالى: (إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 23)، بمعنى منتظرة لثواب الله، مروي عن الصحابة والتابعين، ومن أراد المزيد من معرفة ذلك فعليه مراجعة كتاب ينابيع النصيحة للأمير الحسين (عليه السلام).





وختاما وإن قسونا على إخواننا أهل السنة نسأل الله أن لا يأخذنا بما نسينا أو أخطأنا, وأن يجمعنا بسيدنا محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين .

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الدراسات والأبحاث“