أهل البيت من منظور الإمام الأعظم زيد بن علي (ع)

هذا المجلس لطرح الدراسات والأبحاث.
مغلق
ياسر الوزير
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 404
اشترك في: الجمعة مارس 19, 2004 11:48 pm
مكان: النهرين

أهل البيت من منظور الإمام الأعظم زيد بن علي (ع)

مشاركة بواسطة ياسر الوزير »

بسم الله الرحمن الرحيم

أهل البيت من منظور الإمام الأعظم زيد بن علي (ع) :

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله الغر الميامين .

وبعد :

تطرقنا في دراستنا لحديث الثقلين إلى كون أهل البيت عَلَماً لهذه الأمة يجسدون منهج الحق كما وعد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله حيث قال : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ) .

وحديث الثقلين – وغيره من الآيات والأحاديث – تدل قطعاً على أن منهج أهل البيت (ع) هو منهج واحد - لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قرن أهل البيت بالقرآن الكريم فلا يمكن أن يخالفوه ، ولأن الحق واحد لا يتعدد وتأكيداً على مدلول الحديث نقدم هذه الدراسة التي تثبت أن منهج أهل البيت العقائدي هو منهج واحد وأن أهل البيت المتقدم منهم والمتأخر كانوا أصحاب فكر واحد وعقيدة واحدة ، وإن اختلفت صياغتهم لأفكارهم وطرحهم لها فإنما كان ذلك لاختلاف الأفكار المنتشرة في أزمانهم .

وهنا نقف وإياكم مع إمام الأئمة الإمام الشهيد حليف القرآن أبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام في قراءة ممعنة لكتبه ورسائله التي تتعلق بأهل البيت وما يحوم حول ذلك من أسئلة مثبتين أن عقيدته التي دعا إليهم وأفكاره التي طرحها هي عين أفكار من جاء بعده من أهل البيت (ع) الزيدية الذي يؤكد كونهم هم المعنيين بحديث الثقلين والسفينة وآية التطهير وغير ذلك من الأحاديث المتواترة والتي يؤيد كل واحد منها الآخر .

ولنشرع بتأمل درر كلامه مقسمين له إلى ثلاثة أقسام :

الأول : في كلامه في مكانة أهل البيت (ع) بشكل عام .

الثاني : في اختيارهم لقيادة الأمة .

الثالث : في كلامه عن أمير المؤمنين (ع) خاصة .
عسى مشربٌ يصفو فتروى ظميةٌ *** أطال صداها المنهل المتكدرُ

ياسر الوزير
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 404
اشترك في: الجمعة مارس 19, 2004 11:48 pm
مكان: النهرين

مشاركة بواسطة ياسر الوزير »

أولاً : مكانة أهل البيت (ع) :

احتل أهل البيت مقاماً عظيماً في هذه الأمة كما تشهد به الآثار والأيات ، آمن بذلك المقام من آمن ، وجحده من جحد ، ومهما يكن مقامهم في الأمة فهو مقام ، ومهما يكن موقعهم فيها فلهم موقع خاص ؛ خصوصية أفردهم الله عز وجل دون غيرهم بها ، نعم ؛ فالشهادة على الأمة هو موقع ليس بالبسيط ، وهكذا يتجلى لنا كلام الإمام زيد (ع) ؛ فأهل البيت عنده هم الشهداء ؛ يقول – متحدثاً عن بني هاشم محاجّاً من عاصره - :

(( واجتمعت الأمة على: أن بني هاشم هم الذين استجابوا للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وصدقوه، فتلى عليهم آياته كما تلى عليهم الكتاب والحكمة وزكاهم.
واجتمعت الأمة على: أنهم فيها أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيداً
)) .

بهذه الجملة نستهل بابنا هذا المعقود للحديث عن أن أهل البيت – كما يرى الإمام زيد (ع) – قد خصوا بموقع خاص في هذه الأمة ، وموقع خاص امتازوا به عن غيرهم ، ونتحدث عنه – من حيث هو – قبل الحديث عن ماهيته ، فإثبات وجوده من حيث هو في فكر الإمام (ع) كافٍ في إثارتنا للبحث عن خصائص هذا الموقع عنده ! ، وإمامنا الأعظم – كما تقدم ويأتي – يتحدث عن فضل أهل البيت (ع) كقاعدة مسلّمة ، ومسألة ضرورية متقررة ، وهاهو يستهل رسالته إلى علماء الأمة بقوله :

(( بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين حتى يرضى وصلى اللّه وسلم وبارك وترحم وتَحَنَّن وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد.

إلى علماء الأمَّةِ الذين وجبت للَّه عليهم الحجة، مِن زيد بن علي ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
))

هذا القول الذي يُبرز فيه إمامنا موقعه لجميع من أرسل إليه رسالته من العلماء ، وينبه فيه على مكانته كونه من أهل البيت .

ثم يقول لعلماء الأمة مبكّتاً لهم بما قد عرفوه - وهذا ما يشعر بأن المسألة معلومة لكنها مُعرَضُ عنها لسبب أو لآخر - :

(( فلو كنتم سَلَّمتم إلي أهل الحق حقهم، وأقْرَرْتم لأهل الفضل بفضلهم، لكنتم أولياء اللّه، ولكنتم من العلماء به حقاً الذين امتدحهم اللّه عز وجل في كتابه بالخشية منه. ))

إذاً فقضية أهل البيت في نظر الإمام زيد محسومة معلومة عند العلماء ، ولا ينقصها إلا الإقرار باللسان ، ولكن قوله : (( لكنتم أولياء الله )) ينبه على أهمية موقع أهل البيت (ع) غاية تنبيه ! .

ولا يأنف الإمام زيد (ع) من الإعادة والتكرير لقضية أهل البيت في حديثه للعلماء ، بل إنه يرى وجوب سرعة العودة إليهم ، ويطلب ذلك في رسالة أراد فيها أن يؤدي العلماء دورهم المنشود في الأمة من أجل إصلاحها ، فيقول (ع) :

(( عباد الله فأسرعوا بالإنابة وابذلوا النصيحة، فنحن أعلم الأمة بالله، وأوعى الخلق للحكمة، وعلينا نزل القرآن ، وفينا كان يهبط جبريل عليه السلام، ومِنْ عندنا اقتبس الخير، فَمَنْ عَلِمَ خيراً فمنا اقتبسه، ومن قال خيراً فنحن أصله، ونحن أهل المعروف، ونحن النَّاهون عن المنكر، ونحن الحافظون لحدود الله )) .

إن الإمام زيداً (ع) لم يألُ جهداً في إثبات ذلك الفضل لأهل البيت ، فأورد الحجج العقلية والنقلية ، سرد الآيات والأحاديث ، ثم انتهى إلى إلزام الخصم بما يلتزمه ؛ فها هو يحاور خصمه بأسلوبه الشيّق حتى يثبت فضل أهل البيت له بما يلتزمه ، ففضل آل إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ( ذرية إبراهيم ) لم يكن خصمه منكراً له ، ولذلك قال في كتابه تثبيت الإمامة :

(( ثم اجتمعوا على أن لِله خيره من خلقه اختارهم واصطفاهم، وجعلهم أدلاء على الفرائض والحكم على خلقه
فقلنا:
هاتوا برهانكم عليه؟
قالوا: قول اللّه تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوْحاً وَآلَ إِبْرَاهِيْمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِيْنَ ذُريةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ﴾[آل عمران:33].
فاجتمعوا على أن الأمة المسلمة خلقها اللّه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، وأن آل إبراهيم خاصة المصطفين الذين اختارهم اللّه واصطفاهم على العالمين.

فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟
قالوا: قول اللّه تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إَبْرَاهِيْمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيْلُ ربنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ الَسَّمِيْعُ الْعَلِيْمُ ربنَا وَاْجْعَلْنَا مُسْلِمَيْن لَكَ وَمِنْ ذُريتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْتَّوَّابُ الْرَّحِيْمُ ربنَا وَابْعَثْ فِيْهِمْ رَسُوْلاً مِنْهُمْ يَتَلُوْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيْهِم إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيْزُ الْحَكِيْمُ﴾ [البقرة: 127 - 129].
فقبلنا منهم، وشهدنا أن الأمة المسلمة خلقها اللّه تبارك وتعالى من ذرية إسماعيل خاصة وأنهم آل إبراهيم الذين اصطفاهم اللّه على العالمين، وأنهم أهل البيت الذين رفع اللّه منهم الأئمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل، وبعث فيهم الرسول.
فصار النبي - الذي بعث اللّه عز وجل - محمداً صلى اللّه عليه وعلى آله ، وصار أولئك ذرية إبراهيم حقاً يقيناً، لأن الأمة اجتمعت على أن إبراهيم المصطفى وذرية إبراهيم الذين على دين إبراهيم.


وبواسطة ذلك استدل على اصطفاء ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وها هو يكرر ذكر خصوصية ذرية إبراهيم (ع) حتى ينتهي إلى خلاصة مفادها أن أهل بيت الميت هو الأولى بميراثه كما اجتمع عليه البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، فيقول عليه السلام :

(( وكما قال إبراهيم وإسماعيل: ﴿وَمِنْ ذُريتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: 128] ولم يقولا: اجعل الأمة مسلمة من ذريتنا ومن غير ذريتنا، ولكنهما افردا الأمة المسلمة، ﴿وَمِنْ ذُريتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ خاصة، ﴿وَابْعَثْ فِيْهِمْ رَسُوْلاً مِنْهُمْ﴾، ولم يقولا: وابعث من غيرهم رسولا، ولكنهما قالا: ومن ذريتنا، وابعث فيهم رسولا منهم، فصار الرسول من أنفسهم شهيداً عليهم بما انتهى إليهم من الكتاب، وصاروا شهداء على الناس بما يكون على الناس من علم الكتاب والحكمة.
وقال اللّه عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا ارْكَعُوْا وَاسْجُدُوْا وَاعْبُدُوْا ربكُمْ وَافْعَلُوْا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ وَجَاهِدُوْا فِيْ اللّه حَقَّ جِهَادِهِ هُوْ اْجْتَبَاكُمْ وَمَاجَعَلَ عَلَيْكُمْ فِيْ الْدِّيْنِ مَنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيْكُمْ إَبْرَاهِيْمَ هُوْ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ قَبْلُ وَفِيْ هَذَا لِيْكُوْنَ الْرَّسُوْلُ شَهِيْداً عَلَيْكُمْ وَتَكُوْنُوْا شُهَدَاءَ عَلَىْ الْنَّاسِ فَأَقِيْمُوْا الْصَّلاَةَ وَآتُوْا الْزَّكَاْةَ وَاعْتَصِمُوْا بِاللَّهِ هُوْ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىْ وَنِعْمَ الْنَّصِيْر﴾ [الحج: 77 - 78].
وهذا ما اجتمع عليه كل بارٍ وفاجرٍ، وكل مؤمنٍ وكافرٍ. اجتمعوا على أن الميت إذا مات فأهل بيته أولى بميراثه
)) .

وخصوصية موقع أهل البيت (ع) ومكانتهم إنما هو في نظر الإمام منهج يُحتَكم إليه ، إنه الميزان الذي توزن عليه الأقوال لتميز صحيحها من سقيمها ، وهو صمام الأمان الذي إذا انفلت صار الدين مرتعاً لكل جاهل يريد أن يدلي بدلو له فيه ، فمَن بعدهم يرجع إليه ! ووضح لنا هذا قوله عليه السلام في كتاب الصفوة :

(( وذلك أنَّهم لم يروا لأهل بَيْت نبيِّهم صلى اللّه عليه فضلا عليهم - يَعْتَرفون لهم به - في قرَابَتِهم من النَّبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا علماً بالكتاب ينتهون إلى شيء من قولهم فيه، فلما جاز لهم إنكار فضلهم، جاز ذلك لبعضهم على بعض.
وَسُمِّيَ كلُّ من استقبل القبلة وقرأ القرآن - من مؤمن أو مُنافق، أو أعْرَابيّ أو مهَاجِر، أو أعجمي أو عربي - من أمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وجاز لهم - فيما بينهم إذْ لم يروا لأهل بَيْت نبيهم فضلاً عليهم - أن يتأولَ كلُّ مَنْ قرأ القرآن برأيه، ثمَّ يقول هو ومن تابعه على رأيه: نحن أعلم الناس بالقرآن وأهداهم فيه
)).

ثم ها هو يسرد الآية تلو الآية محتجاً بكتاب الله على ما يقول ، فيقول في كتاب تثبيت الوصية :

(( وقال: ﴿إِنَّمَا يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْراً﴾ [الأحزاب: 33].
ثم فرض مودتهم فقال: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِيْ القُربىْ﴾ [الشورى: 23] يقول: أن تودوني في قرابتي.
ثم فرض لهم الخُمُس فيما غَنِم المسلمون من شيء: سهمه تعالى، وسهم رسوله دون المؤمنين، فقال: ﴿ وَاعْلَمُوْا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُوْلِ وَلِذِيْ القُربىْ﴾[الأنفال: 41].
فعرفنا أن الفضل والخِيْرة لأهل هذا البيت، الذي فضَّله اللّه على جميع البيوت، لأنهم جمعوا السَّبْق والتَّطهير، فينبغي أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خيرهم، لأنه خير الناس، وأفضلهم عند اللّه، وينبغي أن يكونوا قادة الناس إلى يوم القيامة ... إلخ
)) .

نعم ؛ والإمام يرى أن الإقرار لأهل الفضل بفضلهم واجب ، واتباعهم كذلك واجب ، وأن تركه كان ذريعة للوصول إلى رقاب القائمين من أهل البيت (ع) ، فها هو يقرن توبيخه للعلماء على خذلانهم لأهل البيت بتوبيخه لهم على سكوتهم عن النهي عن السوء ، ثم يجمع ذلك كله في كونه مما استحفظ العلماء عليه ، وسيسألهم الله تعالى عنه ، فيقول (ع) :

(( عباد اللّه إن الظالمين قد استحلوا دماءنا، وأخافونا في ديارنا، وقد اتخذوا خُذْلانَكم حجة علينا فيما كرهوه من دعوتنا، وفيما سفهوه من حقنا، وفيما أنكروه من فضلنا عناداً لله، فأنتم شركاؤهم في دمائنا، وأعوانهم في ظلمنا، فكلُّ مالٍ للَّه أنفقوه، وكل جمعٍ جمعوه، وكل سيف شَحَذُوه وكل عدل تركوه، وكل جور رَكِبوه، وكل ذمة للَّه تعالى أخفروها، وكل مسلم أذلوه، وكل كتاب نَبَذوه، وكل حكم للَّه تعالى عطلوه، وكل عهد للَّه نقضوه فأنتم المعينون لهم على ذ لك بالسكوت عن نهيهم عن السوء.
عباد اللّه إن الأحبار والرُّهبان من كل أمة مسؤلون عما استحفظوا عليه، فأعِدُّوا جواباً للَّه عز وجل على سؤاله
)) .

وبشكل عام فإن الإمام زيداً (ع) لم يترك منبراً يستطيع أن يعلن عليه مكانة أهل البيت (ع) إلا واعتلاه معلناً مكانتهم وفضلهم ، فكان بالأولى منابر الخطابة ، وهذا ما كان يفعله (ع) ولا شك ، كيف لا وهو يقول في إحدى خطبه (ع) :

(( الحمدلله الذي مَنَّ علينا بالبصيرة، وجعل لنا قلوباً عاقلة، وأسماعاً واعية، وقد أفلح من جعل الخير شعاره، والحق دِثَاره، وصلى اللّه على خير خلقه الذي جاء بالصدق من عند ربه وصدق به، الصادق محمد صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين من عترته وأسرته والمنتخبين من أهل بيته وأهل ولاتيه )) .

ولكن الإمام مع شدة تعظيمه لأهل البيت (ع) لم ينسَ أن يذكر أن مكانتهم العظيمة لا تبرر عمل الأفراد المنحرفين منهم ، بل من ظهر عيبه أخذ به وعوقب عليه ، ولكن هذا ليس مسوغاً للزهد فيما عندهم ، يقول الإمام (ع) في كتاب الصفوة مجيباً على تساؤل :

(( فإن قلت: إن من آل محمد من ينبغي للناس أن يتفرقوا عنه، فإن فيهم بعض ما يكره لهم.
فلعمري إن فيهم لما في الناس من الفضل والذنوب، ولكن ليس ذلك في جُلِّ القوم إنما هو في خَوَاصِّهم، فمن ظهر عليه عيبه عُوقب به من أتاه، وإن سُتِرَ عليه عيبه فأمره إلى اللّه، إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له، ما لم يَدْعُ الناس إلى ضلالة ولم يضل بهم عن حق، ولم يتأول شيئاً يعلمه في الإسلام بدعةً أو سنةَ باطلٍ يَتَّبِعه الناس عليها، ومن اتبعه عليها ضل هو ومن اتبعه كبقية من عمل بذلك فَضَلَّ وأَضَلَّ.
قال اللّه تبارك وتعالى: ﴿لِيَحْمِلُوْا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِيْنَ يُضِلُّوْنَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُوْنَ﴾[النحل: 25] .
وإني إنما قلت لك هذا كي لا تزهد في حق آل محمد صلى اللّه عليه وسلم إن ترى في بعضهم عيوباً، ولكن أحق من وجب على الناس الإقبال إليه من آل محمد صلى اللّه عليه من ائتمنه المسلمون على نفسه وغيبه، ثم رضوا فهمه وعلمه بكتاب اللّه وتَبْيِيْن الحق فيه، وسنة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فهدى اللّه عز وجل به الناس إلى ذلك، وأهداهم الموثوق في حديثه وفهمه وفضله، ووصفه الحَّق بما يُعَرِّف المسلمين من معالم دينهم، ثم الاستقامة لهم عليه، ليس له أن يجوز بهم عن الحق وليس لهم أن يبتغوا غيره ما ستقام لهم، ولم يكن آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم والحمدلله - على حال منذ فارقهم نبيهم صلى اللّه عليه وآله وسلم - إلا وفيهم رضاً عند من عرفه من المسلمين، في أنواع الخير التي يَفْضُل بها الناس، عَرَفَ ذلكَ مِنْ حقهم مَنْ عَرَفَه وأنكره من أنكره
)) .

وهذه الجملة الأخيرة من أهم الجمل التي قالها التي قالها إمامنا الأعظم (ع) ؛ إذ فيها أوصاف من يجب اتباعه من أهل البيت (ع) والائتمام به ، وربما كنا قد تعدينا حدنا في هذا الباب قليلاً ودخلنا قليلاً في الباب الثاني ، إلا أن تداخل المواضيع قد يكون عاذراً لنا في هذا وأنت تلوم ! .

وبشكل عام ؛ فإن أدنى نظرة على كلام الإما الأعظم (ع) تعرفنا مكانة أهل البيت المترسخة في فكره ، بل إنه يرجو الله أن يجعل لهم الفضل على سائر أهل الأنبياء عليهم السلام وكأن المسألة قاعدة متقررة مع كل نبي ، فيقول :

(( وإنا لنرجو من اللّه جل ثناؤه أن يجعل لنا من الفضل بقرابته صلى اللّه عليه وآله وسلم، على أهل الأنبياء كفضل ما جعل اللّه لنبينا صلى اللّه عليه وآله عليهم؛ لأن اللّه قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنَاسِ تَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُوْنَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانِ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُوْنَ وَأَكْثَرُهُمْ الفَاسِقُوْنَ﴾ )) .

من هم أهل البيت ؟!

ولِمَا تقدم قد يتسائل المتسائل ؛ فيا ترى من هم أهل البيت في نظر الإمام ؟! هل هم أفراد مسمون بأسمائهم ?! أم هم أشخاص معينون بأوصافهم ?! ويا ترى هل يدخل فيهم المنحرف عن نهج آبائه ؛ فكلامه السابق يوهم ذلك! ، وهل هم جماعة كاملة ؟! فإن كانوا كذلك ، فهل هم كل الأمة ؟! أم هم نساء النبي ؟! أم هم بنو هاشم ؟! .

أسئلة تطرح نفسها بقوة لكل من يبحث في موضوع أهل البيت (ع) ، وإجابةً على هذه التساؤلات المهم نرى الإمام زيداً (ع) يختصر لنا المسافة الطويلة بعبارة قصيرة موضحاً مَن هم آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد علي والحسن والحسين (ع) مجيباً على سؤال : فمن أولى الناس بعد الحسين ؟ قال في كتاب تثبيت الوصية :
فقولوا: آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أولادُهما )) ثم يواصل حديثه قائلاً : أفضلهم أعلمهم بالدِّين، الدَّاعي إلى كتاب اللّه، الشَّاهر سيفه في سبيل اللّه... إلخ )) .

لكنه مع ذلك ينكر أشد الإنكار أن يكون منهم أشخاص مسمون ، أو أفراد معينون مفترضي الطاعة ، بل وينكر أن يكون أحد منهم قد ادعى ذلك ؛ فيقول فيما يرويه المفسر فرات الكوفي :

(( والله ما ادعى أحد منالا من ولد الحسن ولا من ولد الحسين أن فينا إماماً مفترض الطاعة علينا وعلى جميع المسلمين ، فو الله ما ادعاها أبي علي بن الحسين في طول ما صحبته حتى قبضه الله إليه ، وما ادعاها محمد بن علي فيما صحبته من الدنيا حتى قبضه الله إليه ، فما ادعاها ابن أخي من بعده )) [ هناك نص نقله نشوان الحميري في الحور العين ] .

ومن هذا النص الجلي يتبين ابتداع فكر التنصيص ؛ فهاهو إمامنا ينكر أن يكون أبوه أو أخوه أو ابن أخيه – عليهم سلام الله – قد ادعى أحدهم أنه إمام مفترض الطاعة ، فيا ترى هل خفي على الإمام زيد (ع) مثل هذا الأمر العظيم !! طبعاً على تقدير وجوده !! .
عسى مشربٌ يصفو فتروى ظميةٌ *** أطال صداها المنهل المتكدرُ

ياسر الوزير
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 404
اشترك في: الجمعة مارس 19, 2004 11:48 pm
مكان: النهرين

مشاركة بواسطة ياسر الوزير »

ثانياً : أهل بيت لقيادة الأمة :

بما تقدم ثبت أن لأهل البيت في نظر الإمام زيد (ع) منزلة عالية رفيعة أكثَرَ من ذكرها والاحتجاج لها ، وتجلى لنا أنهم عنده صمام أمانٍ لهذه الأمة ، وأن بغيابهم ستظهر فجوة كبيرة في الواقع الإسلامي – بل قد وقعت وظهرت – فلا بد من وجودهم ، وحضورهم .

لكن أي وجود هذا ! ترى أي ماهية لوجود وحضور أهل البيت (ع) يريد الإمام زيد (ع) ؟!

طبعاً لا يمكننا معرفة إجابة هذا السؤال إلا بتتبع كلامه والتمعن في أطروحاته (ع) .

لكن دعونا نستبق ما ستحمله لنا الأسطر القريبة لنجزم بالقول بأنه إنما أراد بحضورهم تسلم زمام قيادة الأمة الإسلامية ؛ القيادة الدينية ( المرجعية ) ، والقيادة في الحكم ( الإمامة ) ، فإلى كلامه عليه السلام ؛

يقول جواباً لرجل من أهل الشام :

(( وذكرت أن قوماً ذكروا أن اللّه سبحانه وتعالى جعل رعاية عباده إلى الملوك، وجعل ذرية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كسائر رَعِيَّةِ الملوك، وأنه ليس لأحد من ذرية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم إزالة ما جعله اللّه سبحانه وتعالى للملوك، لأن اللّه تعالى قد قال: ﴿قُلْ الَّلهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِيْ المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيْرٍ﴾[آل عمران:26] فقد كَذَبَ القائلون هذا على اللّه عز وجل، وأحالوا جميع الحق وأزالوه عن مَعْدِنِه.
فنحن الذين مَلَّكَنا اللّه تعالى الملك وآتاناه، واسترعانا رِعَاية عباده، وذلك حين يقول سبحانه: ﴿أَمْ يَحْسُدُوْنَ النَّاسَ عَلَى مَاآتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيْمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيْماً﴾[النساء:54]، ونحن الذين أعَزَّ اللّه تعالى، وَعَدونا من أذَلَّ اللّه تعالى، وإن كان عَدُوُنا غالباً بسلطان الجور، فالله برئ منه وممن زعم أنَّ أمره من اللّه تعالى.
))

ومن كلام له في الإمامة :

(( قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فكان أولى الناس بالناس أمير المؤمنين علي صلى اللّه عليه، ثم قبض أمير المؤمنين علي صلى اللّه عليه فكان أولى الناس بالناس أمير المؤمنين الحسن بن علي عليهما السلام، ثم قبض أمير المؤمنين الحسن بن علي عليهما السلام، فكان أولى الناس بالناس أمير المؤمنين الحسين بن علي عليهما السلام، ثم سكت.
وقال: الرد إلينا، نحن والكتاب الثقلان.
وقال: نحن ولاة أمر اللّه، وخزان علم اللّه، وورثة وحي اللّه، وعترة نبي اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم، وشيعتنا رعاة الشمس والقمر، والله لاتقبل التوبة إلا منهم، ولا يخص بالرحمة سواهم )) .

وقال (ع) – في كتاب تثبيت الوصية بعد إثبات الوصية من حيث هي ، وإثبات كونها في أمير المؤمنين (ع) خاصة ، ثم إثبات أن أحق الناس بالناس وأولاهم بهم الحسن والحسين على الترتيب لأنهما ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - :

(( فإن قالوا: فَمَنْ أولى الناس بعد الحسين؟
فقولوا: آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم أولادُهما أفضلهم أعلمهم بالدِّين، الدَّاعي إلى كتاب اللّه، الشَّاهر سيفه في سبيل اللّه.
فإن لم يَدْعُ منهم دَاعٍ. فهم أئمَّة للمسلمين في أمرهم وحلالهم وحرامهم، أبرارهم وأتقياؤهم )) .

مما سبق يتضح صحة ما قدمناه من أن حضور أهل البيت (ع) في نظر الإمام زيد إنما هو القيادة الإسلامية ؛ المرجعية والإمامة ، بل إنه عليه السلام لا يشك في فريضة اتباع أهل البيت أبداً بل إنه يحلف بالله ويقول : (( وشيعتنا رعاة الشمس والقمر، والله لاتقبل التوبة إلا منهم، ولا يخص بالرحمة سواهم )) .

وهذا اليمين في غاية الأهمية ؛ إذ فيه دلالة واضحة على أن وجوب اتباع أهل البيت و ( مشايعتهم ) أمر متقرر في فكر الإمام ، بل هو أمر بالنسبة له ضروري كما هو واضح مما يدل على أن هذا الفكر ليس فكراً جديداً عليه ، إنه هو الفكر الذي لُقَّنه منذ نعومة أظافره ولم يتلقَ سواه ؛ إنه فكر أهل البيت (ع) ولا شك ؛ زين العابدين ، والحسين ، وأمير المؤمنين ، مأخوذٌ من عين صافية عبر تلك المجاري الطاهرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !

لماذا أهل البيت ؟!!

سؤال قد يتردد على الأذهان ، لكن إمامنا (ع) كونه يطرح قضية أهل البيت ويجعلها قضيته الأهم لا بد أن يجيب عليه ، فما إجابته عنده (ع) ؟

يقول (ع) في كتاب تثبيت الوصية :

(( وقال: ﴿إِنَّمَا يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْراً﴾ [الأحزاب: 33].
ثم فرض مودتهم فقال: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِيْ القُربىْ﴾ [الشورى: 23] يقول: أن تودوني في قرابتي.
ثم فرض لهم الخُمُس فيما غَنِم المسلمون من شيء: سهمه تعالى، وسهم رسوله دون المؤمنين، فقال: ﴿ وَاعْلَمُوْا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُوْلِ وَلِذِيْ القُربىْ﴾[الأنفال: 41].
فعرفنا أن الفضل والخِيْرة لأهل هذا البيت، الذي فضَّله اللّه على جميع البيوت، لأنهم جمعوا السَّبْق والتَّطهير، فينبغي أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خيرهم، لأنه خير الناس، وأفضلهم عند اللّه، وينبغي أن يكونوا قادة الناس إلى يوم القيامة؛ لأن اللّه عز وجل يقول: ﴿أفَمَنْ يَهْدِيْ إِلَىْ الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعْ أَمَّنْ لا يَهِدِّيْ إِلا أنْ يُهْدَىْ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنْ﴾[يونس: 35]. وقال:﴿ إِنَّمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[الرعد: 7].
فلا ينبغي أن يكون الهادي إلا أعلمهم؛ لأن اللّه عزَّ وجل اصطفى محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم وطَهَّره وعَلَّمه، وجعله القائد المعَلِّم، ومِنْ بَعْدِه عليٌ عليه السلام على منهاجه، يحتاج إليه الناس ولا يحتاج إليهم، فإن اللّه عزوجل قد فضلهم على الخلق بالهدى والطاعة، وأعلمَ الناسَ عصمَتَهم، فلايضلون عن الحق أبداً، والدليل على ذلك ماقد بَيَّنْتُ لكم من قوله: ﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِيْ القُربى﴾ [الشورى: 23]. وقال: ﴿لاَتَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُوْنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوْا آبَاءَهُمْ أوْ أبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيْرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كُتِبَ فِيْ قُلُوْبِهِمُ الإِيْمَانُ وَأيَّدَهُمْ بِرُوْحٍ منْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِيْنَ فِيْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهمُ وَرَضُوْا عَنْهُ أوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُوْنَ﴾[المجادلة: 22].
فلو كانوا ممن يَحَادَّ اللّه ورسوله، لم يفرض مودتهم.
وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا - ولن تذلوا - كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).
وقال: ﴿وَاْعلَمُوْا أنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُوْلِ وَلِذِيْ القُربىْ وَاليَتَامَىْ وَالمَسَاكِيْنِ وَابْنَ السَبِيْلِ﴾ [الأنفال: 41].
فإن قالوا: فإن اللّه قد جعل لليتامى والمساكين وابن السَّبيل، فقولوا: ألا ترون أنَّ اللّه تعالى قد فَرَض الخُمُسَ لنفسه، وفرضه من بعده لرسوله، وإنَّما صار لرسوله لفضله عند اللّه، ولو كان أحد أفضل منهم لكان أحق به منهم. فَجَرَوْا في ذلك مجرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وإنما فرض اللّه لليتامى نصيبهم من الخُمُس لِيُتْمِهم، فإذا ذهب يُتْمُهُم فلا حَقَّ لهم. وإنما فرض للمساكين نصيبهم من الخمس بَدَلَ مَسْكَنَتهمْ، فإذا ذهبت عنهم المَسْكَنَةُ فلا حق لهم فيه، وإنما فرض لابن السَّبيل نصيبهم بدلا من الغُرْبة، فإذا بلغوا بلادهم فلا حق لهم فيه، وكان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على كل حال في الغِنَى والفَقْر، وهو لذوي القربى على كل حال بمنزلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، لأن اللّه عز وجل جعل لهم ذلك لِمَا حَرَّم عليهم من الصَّدقة إذ لم يرضها لهم.
)) .

ويمكن تلخيص جميع ما تقدم في قوله (ع) : (( لأنهم جمعوا السبق والتطهير ! ))

نعم ؛ أليسوا ذرية نبي هذه الأمة البشير النذير ، أوليسوا السابقين في دين الله ؟!

(( وأحَقُّ الناس بالناس وأولاهم بهم الحسنُ والحسينُ؛ لأنهما ذرية رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعَقِبُه )) . [ كتاب تثبيت الوصية ]

(( فقد نَظرنا لكم وأردنا صلاحكم، ونحن أولى الناس بكم، رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جَدُّنا، والسابقُ إليه المؤمن به أبونا، وبنته سيدة النِّسوان أمُّنا، فمن نَزَل منكم منزلتنا؟ )) [ رسالة الإمام زيد إلى علماء الأمة ]

(( عباد الله فأسرعوا بالإنابة وابذلوا النصيحة، فنحن أعلم الأمة بالله، وأوعى الخلق للحكمة، وعلينا نزل القرآن ، وفينا كان يهبط جبريل عليه السلام، ومِنْ عندنا اقتبس الخير، فَمَنْ عَلِمَ خيراً فمنا اقتبسه، ومن قال خيراً فنحن أصله، ونحن أهل المعروف، ونحن النَّاهون عن المنكر، ونحن الحافظون لحدود الله )). [ رسالة الإمام زيد إلى علماء الأمة ]

القيادة الدينية ( المرجعية ) :

(( الرد إلينا، نحن والكتاب الثقلان .... نحن ولاة أمر اللّه، وخزان علم اللّه، وورثة وحي اللّه، وعترة نبي اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم، وشيعتنا رعاة الشمس والقمر، والله لاتقبل التوبة إلا منهم، ولا يخص بالرحمة سواهم )) . [ من كلام له في الإمامة ]

فإن لم يَدْعُ منهم دَاعٍ. فهم أئمَّة للمسلمين في أمرهم وحلالهم وحرامهم، أبرارهم وأتقياؤهم. [ تثبيت الوصية ]

من هاتين الفقرتين يتضح عمق المكانة الدينية لأهل البيت (ع) في نظر الإمام زيد بن علي (ع) ؛ فهم والكتاب الثقلان ، ومعروف مكانة القرآن في هذه الأمة ... فأهل البيت هم قرناء الكتاب في نظره وهم الثقل الثاني ، وهذا الموضوع يذكرنا بالحديث الشهير المتواتر المشهور بـ( حديث الثقلين ) الذي استدل به الإمام (ع) في كتاب تثبيت الوصية على ( عصمتهم ) وأنهم ( لا يضلون عن الحق أبداً ) ؛ إنه قول الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم : (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا - ولن تذلوا - كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض )).

إلا أن قول الإمام زيد (ع) في أهل البيت : لا يضلون عن الحق أبداً . يوحي بأنهم عنده معصومون أفراداً ، يقوي هذا ما جاء قبل هذه الجملة من قوله : وأعلم [ أي الله تعالى ] الناسَ عصمتَهم . لكنه يردّ على هذا المفهوم وينكره ولا يقبله ، فيعلن قائلاً :

(( إنما نحن مثل الناس ، منا المخطئ ومنا المصيب، فسائلونا ولا تقبلوا منا إلا ما وافق كتاب اللّه وسنة نبيئه صلى اللّه عليه وآله وسلم )) . [ من كلام له عن أهل البيت ]

وكأن هذا المفهوم – أعني مفهوم عصمة الأفراد – كان قد بدأ يسري في عقول عامة الشيعة ، فأعلن الإمام (ع) إنكاره ، فنظرة الإمام زيد (ع) لأهل البيت نظرة وسطية ؛ فهو ينظر إليهم على أنهم هداة الأمة ، وأنهم معصومون على سبيل الجملة ، لكن هذه الكلية لا تبرر خطأ المخطئ فيكون صواباً ، ولا ترفع من دخل في دائرتها إلى درجة لم يبلغها .

ولعل التساؤل عن وجوب اتباع أهل البيت مع اختلافهم كان موجوداً آنذاك ، ولذلك وجّه أحد أبناء المدينة سؤالاً في هذا إلى الإمام زيد (ع) ، فأجابه الإمام إجابةً شافية لنا بكل وضوح نظريته في هذه المسألة ؛ فقال :

(( وكتبتَ تسألني عن أهل بيتي وعن إختلافهم. فاعلم يرحمك اللّه تعالى أن أهل بيتي فيهم المصيب وفيهم المخطيء، غير أنه لا تكون هداة الأمة إلا منهم، فلا يصرفك عنهم الجاهلون، ولا يزهدك فيهم الذي لا يعلمون، وإذا رأيت الرجل منصرفاً عن هدينا، زاهداً في علمنا، راغباً عن مودتنا، فقد ضل ولا شك عن الحق، وهو من المبطلين الضالين، وإذا ضل الناس عن الحق، لم تكن الهداة إلا منا، فهذا قولي يرحمك اللّه تعالى في أهل بيتي )) .

نعم ؛ ونظرية الإمام زيد (ع) في وجوب اتباع أهل البيت هي ذات أفق واسع وأهداف في غاية الأهمية ، لأنه يرى أن سبب تشتت الأمة وتفرقها وتشرذمها إنما هو عدم احتكامهم ورجوعهم إلى خط أهل البيت (ع) ، فلذلك نشأت المذاهب والفرق وتعددت الأهواء ، وتبرأ كل من الآخر ونبزه بأسوأ الألقاب ، ومنذ ذلك الحين البعيد ! وكلٌّ أراد أن يكون متبوعاً لا تابعاً وأن يؤخذ بتأويله للقرآن وإن كان لا يؤوله إلا وفق هواه ، وإلا فوصمة الضلال قد نزلت على من أبى اتباعه ، هكذا دون دليل جعل فلاناً هو المتبوع دون فلان .

يقول (ع) في مقدمة كتاب الصفوة : (( وقد رأيتَ ما وقع الناس فيه من الاختلاف، تبرأوا [من بعضهم] وتأولوا القرآن برأيهم على أهوائهم،[و] اعتنقت كل فرقة منهم هوى، ثم تولوا عليه، وتأولوا القرآن على رأيهم ذلك ، بخلاف ما تأوله عليه غيرهم، ثم برئ بعضهم من بعض، وكلهم يزعم فيما يُزَيَّنُ له أن على هدى في رأيه وتأوله، وأن مَنْ خالفه على ضلالة أو كفر أو شرك، لابُدَّ لكل أهل هوى منهم أن يقولوا بعض ذلك.
وكل أهل هوى من أهل هذه القبلة يزعمون أنهم أولى الناس بالنبي صلى اللّه عليه وآله، وأعلمهم بالكتاب الذي جاء به، وأنهم أحق الناس بكل آية ذكر اللّه فيها صَفْوَةً أو حَبْوَةً أو هدى لأمة محمد صلى اللّه عليه وآله، وكلهم يزعم أن من خالفهم - في رأيهم وتأويلهم - من أهل بيت نبيهم برؤا منه، وأن أهل بيت نبيهم صلى اللّه عليه وآله لن يهتدوا إلا بمتابعتهم إياهم
)) .

ثم أخذ (ع) يذم التفرق والاختلاف ، بل إنه – لِمَا رآه وعاينه – لم يعد مقتنعاً بأن ما أمامه أمة واحدة ، بل هم أمم وأديان ؛ إذ ليس الأخوان في الدين بالذين يتبرأ بعضهم من بعض ويقتل بعضهم بعضاً ؛ يقول (ع) في نفس المقدمة :

(( فإن قلتَ: هم أمة محمد صلى اللّه عليه وآله لأنهم كانوا مجتمعين في عهده، كما أمرهم اللّه عز وجل. قلنا: نعم، فلما تفرقوا كما تفرق من كان قبلهم
وقد نهوا عن التفرق صاروا أمماً كما كان من قبلهم حين تفرقوا بعد أن كانوا أمة واحدة، قال اللّه تبارك وتعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ اللّه جَمِيْعاً وَلاَ تَفَرَّقُوْا وَاذْكُرُوْا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْن قُلُوْبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْنَ﴾ [آل عمران: 103]. وليس الإخوان في الدين بالذين يتبرأ بعضهم من بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، قال اللّه تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَكُوْنُوْا كَالَّذِيْنَ تَفَرَّقُوْا وَاخْتَلَفُوْا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ﴾[آل عمران: 105].
وقد بيَّن اللّه لكم أمر من كان قبلَ أمةِ محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، بني إسرائيل كانوا أمَّة في عهد موسى صلى اللّه عليه، فَلمَّا تَفَرَّقوا سمَّاهم اللّه أمَماً، فقال: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِيْ الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَالِحُوْنَ وَمِنْهُمْ دُوْنَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ﴾[الأعراف: 168]. بلوا لأنَّهم تفرقوا بعد موسى، يزعُمُون كُلُّهم أنهم مُتَّبِعون لموسى مصدقون بالتَّوراة ويَستقبلون قِبْلَة واحدة، قال اللّه تبارك وتعالى: ﴿لَيْسُوْا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةً قَائِمَةً﴾[آل عمران: 113] فَسمَّاهم اللّه أهلَ الكتاب، ثم سمى أهلَ الحقِّ منهم أمةً قائمة، ثم وصَفَها، فقال: ﴿يَتْلُوْنَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْل وَهُمْ يَسْجُدُوْنَ يُؤْمِنُوْنَ بَاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُسَارِعُوْنَ فِيْ الخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِيْنَ﴾[آل عمران: 113 - 114].
فكُل فرقة من أهل هذه القِبْلة نصبوا أدياناً يَتَأوَّلون عليها ويتبرأون ممن خالفهم، فهم أمَّةٌ على هُدًى كانوا أم على ضَلالة، قال اللّه جَلَّ جلاله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للَّهِ حَنِيْفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ﴾[النحل:120]. فسمَّاه اللّه حين كان على دين لم يكن عليه أحَدٌ غيره: أمَّةً. قال اللّه جل ثناؤه لقوم اتَّبَعوا ضلالة آبائهم: ﴿إَنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُوْنَ﴾[الزخرف: 23].
وكذلك تفرَّقت هذه الأمَّةُ بَعْدَ نبيها صلى اللّه عليه وآله وسلم، أمَماً، كما تَفرقت بنو إسرائيل بعد مُوسى أمماً، وقد قال اللّه جل ثناؤه: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوْسَى أُمَّةٌ يَهْدُوْنَ بِالحَقِ وَبِهِ يَعْدِلُوْنَ﴾[الأعراف: 159].
)) .
أين الحل ؟!

الحل في نظر الإمام ليس إلا التزام منهج أهل البيت ، يواصل الإمام حديثه ويقول :

(( واعلم أنَّما أصاب الناسَ من الفتَن والاختلاف وشَبَّهت عليهم الأمور إلا من قِبَل ما أذكر لك، فأحسن النَّظر في كتابي هذا، واعلم أنك لن تستشفيَ بأوَّل قولي حتى تَبْلغ آخره إن شاء اللّه.

وذلك أنَّهم لم يروا لأهل بَيْت نبيِّهم صلى اللّه عليه فضلا عليهم - يَعْتَرفون لهم به - في قرَابَتِهم من النَّبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا علماً بالكتاب ينتهون إلى شيء من قولهم فيه، فلما جاز لهم إنكار فضلهم، جاز ذلك لبعضهم على بعض
.

وَسُمِّيَ كلُّ من استقبل القبلة وقرأ القرآن - من مؤمن أو مُنافق، أو أعْرَابيّ أو مهَاجِر، أو أعجمي أو عربي - من أمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وجاز لهم - فيما بينهم إذْ لم يروا لأهل بَيْت نبيهم فضلاً عليهم - أن يتأولَ كلُّ مَنْ قرأ القرآن برأيه، ثمَّ يقول هو ومن تابعه على رأيه: نحن أعلم الناس بالقرآن وأهداهم فيه. فخالفهم ضرباؤهم - من الناس في رأيهم وتأولهم - وأكفاؤهم في السنة. وقد قرأوا القرآن مثل قراءتهم، وأقروا من تصديق النبي صلى اللّه عليه وآله بمثل ما أقروا به، فمن هنالك اختلفوا ولا يرجع بعضهم إلى بعض، فانظر فيما أصف لك.

فلعمري إنا لنعلم أن أعلم الناس أعلمهم بالقرآن، وأن أهدى الناس لَمَن عمل به الْمُتَّبِع لما فيه، ولقد قال اللّه جل ثناؤه: ﴿إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِيْ للَّتِيْ هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِيْنَ الَّذِيْنَ يَعْمَلُوْنَ الصَالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيْراً﴾[الإسراء: 9].
ولكن انظر - إذا تفرق الناس وكلهم يُقِرُّ بالكتاب وبالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وبعضهم ينتحل الهدى دون بعض - هل في كتاب اللّه عز وجل تفضيل لبعض أهل هذه القبلة على بعض؟ فينبغي أن تعرف أهل ذلك التفضيل في كتاب اللّه جل ثناؤه، وتُفَضِّلهم بما فضلهم اللّه عز وجل، وتكون بهم مقتدياً.
)) .

القيادة في الحكم ( الإمامة ) :

مسألة الإمامة في نظر الإمام (ع) مسألة لا بد منها ، فلا بد للناس من والٍ يقيم أمورهم ويدبر شئونهم ، لكنها مع ذلك تخضع للموازين الشرعية ، فليس للناس اختيار الإمام – الذي لا بد منه – إلا وفق موازين الشارع ، وبعد النظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله ؛ يقول الإمام [ كتاب تثبيت الإمامة ] :

(( ثم سَألنَا الفريقين جميعاً هل للناس بُدّ من والٍ يصلي بهم، ويقيم أعيادهم، ويَجْبِي زكاتهم، ويعطيها فقراءهم، ويأخذ غنائمهم ويقسمها، ويقضي بينهم، ويأخذ لضعيفهم من قويهم، ويقيم حدودهم؟ فاجتمع الفريقان على أنه لابد من والٍ يقوم فيهم بالحق، ويعمل فيهم بالسُّنّة. فقبلنا منهم، وشهدنا أنه الحق، وأنه لابد للناس من والٍ يقوم فيهم بالحق، ويعمل فيهم بالسُّنن.

ثم سَألنَا الفريقين هل للناس أن يتبرعوا بتولية رجل يجعلونه إماماً وخليفة عليهم قَبْلَ أن ينظروا في كتاب اللّه عز وجل والسُّنَّة؟ فإن وجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وبفضله يولونه عليهم، لفضله عليهم في الكتاب والسنة. فاجتمع الفريقان على أن ليس للأمة أن يَتَبَرَّعوا بولاية رجل يختارونه ويجعلونه عليهم والياً، يحكم بينهم، دون أن ينظروا في كتاب اللّه عز وجل والسُّنة، فإن وجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وفضله ولَّوه عليهم، وإن لم يجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وفضله كانت لهم الشورى بعد ذلك بما وافق الكتاب والسنة. فلما أجمعوا على ذلك قَبِلْنَا منهم، وشهدنا أنه ليس للأمة أن يتبرعوا بتولية والٍ على أن يجعلوه الخليفة والإمام دون أن ينظروا في الكتاب والسنة )) .

ثم جعل عليه السلام يتتبع صفات الإمام أخذاً وردّاً وفق الموازين الشرعية ليصل في النهاية إلى استحقاق أمير المؤمنين (ع) لها ، وذلك حيث الميزان الشرع لا الرأي .

إلا أن لنا تنبيهاً هنا بخصوص كتاب ( تثبيت الإمامة ) وهو أن الإمام زيداً بنى كلامه فيه على إثبات المذهب بما يلتزمه الخصم أصلاً ، وعلى ذلك فربما أتى بأدلة توهم في ظاهرها أن لا منصب معين للإمامة ، وهذا خلاف ما صرح به أكثر من مرة وأسلفنا ذكره عنه ، يوضح هذا قوله (ع) :

(( ثم سَألنَا الذين زعموا أن النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم استخلف علي بن أبي طالب - صلوات اللّه عليه وسلامه - ومضى: هل لكم بينة عُدُولٌ من غيركم على ما ادَّعيتم فنصدقكم ونقضي لكم؟
قالوا: لا نجد بينةً عدولاً من غيرنا .
ثم سَألنَا الذين زعموا أن النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم مضى ولم يستخلف أحداً - وأنه جعل ذلك إليهم ليختاروا لأنفسهم، فاختاروا أبا بكر-: هل لكم بَيِّنة عُدُولٌ من غيركم فَنُصَدِّقَكُم ونقضي لكم؟
قالوا: لا نجد بينة عدولاً من غيرنا.
فَلَمَّا لم يجد الفريقان البينةَ العدول من غيرهم على ما ادعوا أوقفناهم حتى نعلم المُحِقَّ من المُبْطِل )) .

وبالطبع هذا لا يعني عدم قيام الحجة على المخالف بالآيات والأحاديث القطعية ، إذ المخالف لا يلتزم مدلولها ، والله أعلم .

نعم ؛ ثم اختتم الإمام (ع) كتابه تثبيت الإمامة بخاتمة هامة استدل فيها على ثبوت الإمامة من حيث هي ، وهي في نفس الوقت تحمل إشارة واضحة على كون الإمامة شرعية ، فقال (ع) :

(( واجتمعت الأمة على: أن اللّه تبارك وتعالى بعث محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم بالنبوة، فأقام في قومه عشر سنين كما حكم اللّه عليه، وجادلهم بالتي هي أحسن، فسموه: مجنوناً، وكذاباً، وكاهناً، وساحراً، فأقام مع المشركين وهم في شركهم حتى انقضت الأيام والسنون، ثم أمره اللّه عز وجل أن ينصر هجرته وأن يشهر سيفه، وأن يصير إلى حيث يقاتل من خالفه، حتى يدخل في طاعته، وأن يقيم الحدود، وأن يأخذ للضعيف من القوي، فلم يزل ناصراً هجرته، وشاهراً سيفه، يقاتل من خالفه، ويقيم الحدود حتى لحق بالله عز وجل.

واجتمعت الأمة على: أن النبوة لا تورث، فقبلنا منهم وشهدنا أن النبوءة لا تورث.

وسَألنَا الأمة: إنفاذُ الذي جاء من عند الله بالسنن، وإقامة الحدود، ودفع إلى كل ذي حق حقه ونبوةٌ؟ فكان من عمل بها فهو نبي؟ فقالوا: لا، ولكن النبوة: الإخبار عن اللّه والسبيل بالكتاب والسنة . فهذا بيان لمن تفكر فيه ولم يعطف الحق إلى هواه، ورضي بالحياة الدنيا واطمأن إليها. والسلام )) .

والواجبات التي ذكرها الإمام (ع) ماهي معلومة إلا من قبل الشرع ، وبها أشار إلى ضرورة مَن يقوم بها بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم !

وجوب طاعة الإمام ! :

لا بد من طاعة الإمام لينفذ أحكامه ، وإلا فما فائدته فإنما جعل الإمام ليؤتم به ، وهذا الأمر بالتأكيد لم يغفل الإمام ذكره ، وكيف يغفل ذكره وإنما تقوم الإمامة به !

يقول الإمام في رسالة الحقوق : (( وحق اللّه على عبده في أئمة الهدى أن ينصح لهم في السِّر والعلانية، وأن يجاهد معهم، وأن يبذل نفسه وماله دُوْنَهم، إن كان قادراً على ذلك من أهل السلامة )) .

لكن .. وكيف يطاع الإمام ؟! ما الموجب لطاعة فرد من أهل البيت والنص عليه غير موجود كما قدمنا ؟! وباختصار : كيف نعرف الإمام ؟!!

سؤال قد يتبادر إلى الأذهان ، وإمامنا الأعظم أبو الحسين (ع) يجيب لنا عنه أيضاً عندما نتأمل كلماته في رسالته العظيمة إلى علماء الأمة ، فهو فيها ( يدعوهم ) إلى كتاب الله ، و ( يدعوهم ) إلى الإجابة .. والإنابة .. والإعانة ، إنها الدعوة وإظهار الأمر التي من خلالها تقوم الحجة على العباد .

يقول الإمام (ع) في رسالته إلى العلماء : (( اللهم قد طلبنا المعذرة إليك، وقد عَرَّفْتَنَا أنك لا تُصلح عَمَلَ المفسدين، فأنت اللهم ولينا، والحاكم فيما بيننا وبين قومنا بالحق. .

هذا مانقول وهذا ما ندعوا إليه، فمن أجابنا إلى الحق فأنت تُثِيْبه وتجازيه، ومن أبى إلا عُتواً وعناداً فأنت تعاقبه على عتوه وعناده

فالله اللّه عباد اللّه أجيبوا إلى كتاب الله وسارعوا إليه، واتخذوه حَكَماً فيما شَجَر بينكم، وعدلا فيما فيه اختلفنا، وإماماً فيما فيه تنازعنا، فإنا به راضون، وإليه منتهون، ولما فيه مُسْلِمون لنا وعلينا، لانريد بذلك سلطاناً في الدنيا، إلا سلطانك، ولا نلتمس بذلك أثرة على مؤمن، ولا مؤمنة، ولا حُرٍّ، ولا عبد.

عباد اللّه فأجيبونا إجابة حَسَنة تكن لكم البشرى بقول اللّه عز وجل في كتابه: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُوْنَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُوْنَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18]، ويقول: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِيْ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ﴾[فصلت: 33].
عباد اللّه فاسرعوا بالإنابة وابذلوا النصيحة، فنحن أعلم الأمة بالله، وأوعى الخلق للحكمة، وعلينا نزل القرآن ، وفينا كان يهبط جبريل عليه السلام، ومِنْ عندنا اقتبس الخير، فَمَنْ عَلِمَ خيراً فمنا اقتبسه، ومن قال خيراً فنحن أصله، ونحن أهل المعروف، ونحن النَّاهون عن المنكر، ونحن الحافظون لحدود اللّه
.

عباد اللّه فأعينونا على من استعبد أمتنا، وأخرب أمانتنا، وعَطَّل كتابنا، وتَشَرَّف بفضل شرفنا، وقد وثقنا من نفوسنا بالمضي على أمورنا، والجهاد في سبيل خالقنا، وشريعة نبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم، صابرين على الحق، لا نجزع من نائبة مَنْ ظَلَمَنا، ولا نَرْهَبُ الموتَ إذا سَلِمَ لنا دِيْنُنَا، فتعاونوا تنصروا يقول اللّه عز وجل في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إَنْ تَنْصُرُوْا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، ويقول اللّه عز وجل: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ عَزِيْزٌ الَّذِيْنَ إِنْ مَكَنَّاهُمْ فِيْ الأَرْضِ أَقَامُوْا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوْا بِالْمَعْرُوْفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُوْرِ﴾ [الحج: 40 - 41].
)) .

ثم ها هو يقرر هذه القضية ؛ قضية ( الدعوة ) ووجوب نصرة ( الداعي ) و ( القائم ) من أهل البيت (ع) فيقول :

(( فيا علماء السوء مَحَوتُم كتاب اللّه محواً، وضربتم وجه الدين ضرباً، فَنَدَّ والله نَدِيْدَ البَعِيْرِ الشارد، هرباً منكم، فبسوء صنيعكم سُفِكَت دماء القائمين بدعوة الحق من ذرية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ورُفِعَت رؤوسهم فوق الأسنة، وصُفِّدوا في الحديد، وخَلَصَ إليهم الذُّل، واستشعروا الكَرْب وتَسَرْبَلوا الأحزان، يتنفسون الصُّعَداء، ويتشاكون الجهد؛ فهذا ما قدمتم لأنفسكم، وهذا ما حملتموه على ظهوركم، فالله المستعان، وهو الحكم بيننا وبينكم، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين)) .

ويواصل عليه السلام موضحاً دعوته قائلاً : (( وقد كتبتُ إليكم كتاباً بالذي أريد من القيام به فيكم، وهو: العمل بكتاب اللّه، وإحياء سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فبالكتاب قَوَام الإيمان، وبالسُّنَّة يثبت الدين، وإنما البدع أكاذيب تُخْتَرَع، وأهواء تُتَّبَع، يتولى فيها وعليها رجالٌ رجالاً صدُّوهم عن دين اللّه، وذادوهم عن صراطه، فإذا غَيَّرها المؤمن، ونهى عنها المُوَحِّد، قال المفسدون: جاءنا هذا يدعونا إلى بدعة!!

وأيم اللّه ماالبدعة إلا الذي أحدث الجائرون، ولا الفساد إلا الذي حكم به الظالمون، وقد دعوتكم إلى الكتاب فأجيبوا داعي اللّه وانصروه.

فوالذي بأذنه دَعَوْتُكم، وبأمره نصحتُ لكم، ما ألتمس أَثَرَةً على مؤمن، ولا ظلماً لِمُعَاهِد، ولوددت أني قد حميتكم مَرَاتع الهَلَكَة، وهديتكم من الضلالة، ولو كنت أوْقِدُ ناراً فأقذفُ بنفسي فيها، لا يقربني ذلك من سخط اللّه، زهداً في هذه الحياة الدنيا، ورغبة مني في نجاتكم، وخلاصكم، فإن أجبتمونا إلى دعوتنا كنتم السعداء والمَوْفُوْرين حظاً ونصيباً.

عباد اللّه انصحوا داعي الحق، وانصروه إذا قد دعاكم لما يحييكم، ذلك بأن الكتاب يدعو إلى اللّه وإلى العدل والمعروف، ويزجر عن المنكر.

فقد نَظرنا لكم وأردنا صلاحكم، ونحن أولى الناس بكم، رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم جَدُّنا، والسابقُ إليه المؤمن به أبونا، وبنته سيدة النِّسوان أمُّنا، فمن نَزَل منكم منزلتنا؟ فسارعوا عباد اللّه إلى دعوة اللّه، ولا تنكلوا عن الحق، فبالحق يُكْبَتُ عَدُوُّكم ، وتُمْنَع حريمكم، وتأمن ساحتكم.

وذلك أنا ننزع الجائرين عن الجنود، والخزائن، والمدائن، والفيء، والغنائم، ونُثْبِتُ الأمين المؤتمن، غير الرَّاشي والمرتشي الناقض للعهد؛ فإن نَظْهَر فهذا عهدنا، وإن نستشهد فقد نصحنا لربنا، وأدينا الحق إليه من أنفسنا، فالجنة مثوانا ومنقلبنا، فأي هذا يكره المؤمن، وفي أي هذا يرْهَب المسلم؟ وقد قال اللّه عز وجل لنبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِيْنَ يَخْتَانُوْنَ أَنْفُسَهُمْ إَنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيْماً﴾ [النساء: 107].
)) .

نعم ؛ وتكررت الدعوة من الإمام (ع) مقرراً بها الحجة على من حوله ، وها هو يخطب الناس خطبة يبين فيها دعوته وآداب الجهاد قائلاً :

(( فمن سمع دعوتنا هذه الجامعة غير المفرقة، العادلة غير الجائرة، فأجاب دعوتنا وأناب إلى سبيلنا، وجاهد بنفسهِ نفسهَ ومن يليه من أهل الباطل ودعائم النفاق، فله ما لنا وعليه ما علينا، ومن ردَّ علينا دعوتنا وأبى إجابتنا، واختار الدنيا الزائلة الآفلة على الآخرة الباقية، فالله من أولئك برئ، وهو يحكم بيننا وبينهم.

عباد اللّه إذا لقيتم القوم فادعوهم إلى أمركم، فلأن يستجيب لكم رجل واحد خير لكم مما طلعت عليه الشمس من ذهب وفضة، وعليكم بسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالبصرة والشام، لا تتبعوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تفتحوا باباً مغلقاً، والله على ما أقول وكيل.

عباد اللّه لا تقاتلوا عدوكم على الشك فتضلوا عن سبيل اللّه، ولكن البصيرة .. البصيرة ثم القتال، فإن اللّه يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حق، إنه من قتل نفساً يشك في ضلالتها كمن قتل نفساً بغير حق.

عباد اللّه البصيرة .. البصيرة )) .

وظل الإمام (ع) مواصلاً مسيرته في دعوة الخلق وإقامة الحجة كونه قد دعا لنفسه لما رأى في نفسه الأهلية لذلك ، وهذا تطبيق فعليٌ لنظريته التي كتب عنها واحتج لها - حتى خفقت رايات الجهاد فوق رأسه (ع) وهو يؤم كتيبته الزيدية ، فلما رآها قال – مقرراً جميع ما قدمناه هنا - :

(( الحمدلله الذي أكمل لي ديني، واللّه ما يسرني أن لقيت محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولم آمر في أمته بالمعروف ولم أنههم عن المنكر، والله ما أبالي إذا أقمت كتاب اللّه عز وجل وسنة رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم؛ أن أجِّجَت لي نارٌ ثم قُذِفْتُ فيها، ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة اللّه تعالى، والله لا ينصرني أحد إلا كان في الرفيق الأعلى، مع محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين صلوات اللّه وسلامه عليهم.

ويحَكُم أما ترون هذا القرآن بين أظهركم جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ونحن بنوه. يا معاشر الفقهاء، ويا أهل الحجا، أنا حجة اللّه عليكم، هذه يدي مع أيديكم، على أن نقيم حدود اللّه، ونعمل بكتاب اللّه، ونَقْسِم بينكم فَيْأَكم بالسوية، فاسألوني عن معالم دينكم، فإن لم أنبئكم بكل ما سألتم عنه فولوا من شئتم ممن علمتم أنه أعلم مني! والله لقد علمت علم أبي علي بن الحسين، وعلم جدي الحسين بن علي، وعلم علي بن أبي طالب وصي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعَيْبَة علمه، وإني لأعلم أهل بيتي. والله ما كذبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي، ولا انتهكت لله محرماً منذ عرفت أن اللّه يؤاخذني، هلموا فاسألوني )) .

وبهذا يتبين عظمة هذه الفريضة ؛ فريضة طاعة الإمام ، ويتبين كذلك أن الطاعة لا تثبت وتستقر لأي فرد من أهل البيت إلا بالدعاء للنصرة ، ولعل ما نورده الآن من كلامه (ع) يوضح هذا غاية الوضوح ؛ قال (ع) : (( فالإمام منا المفترض الطاعة علينا وعلى جميع المسلمين الخارج بسيفه الداعي إلى كتاب الله وسنة نبيه ، الظاهر على ذلك الجارية أحكامه ، فأما أن يكون إمام مفترض الطاعة علينا وعلى جميع المسلمين متكئ فرشه مرجئ على حجته ، مغلق عنه أبوابه تجري عليه أحكام الظلمة ، فإنا لا نعرف هذا ! )) [ تفسير فرات الكوفي ]

لكن يأتي هنا سؤال ؛ هل كل فرد من أهل البيت دعا لنفسه قد استوجب الطاعة على غيره ؟! وإن لم يكن كذلك فما هي الشروط المفترضة ؟!

صفات الإمام :

بالطبع الإجابة تكون : لا ؛ فالإمامة مقام عالٍ جداً لا يتربع عليه إلا من تحلى لأعلى الصفات الخاصة به ، وأهل البيت فيهم ( ما في الناس من الفضل والذنوب ) على حد تعبير الإمام عليه السلام ، أما عن هذه الصفات فندع الإمام (ع) يحدثنا عنها بقوله :

(( اعلم أنه لا ينبغي لأحد منا أن يدعو إلى هذا الأمر حتى تجتمع فيه هذه الخلال:حتى يعلم التنزيل والتأويل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وعلم الحلال والحرام، والسنة الناسخة ما كان قبلها، وما يحدث كيف يرده إلى ما قد كان لمثل ما فيه وله، وحتى يعلم السيرة في أهل البغي، واليسرة في أهل الشرك، ويكون قوياً على جهاد عدو المؤمنين، يدافع عنهم، ويبذل نفسه لهم، لا يُسلِمَهم حَذَر دائرة، ولا يخالف فيهم حكم اللّه تعالى، فهذه صفة من يجب طاعته من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم )) . [ من كلام له في صفة الإمام ]

وفي قوله : (( ولكن أحق من وجب على الناس الإقبال إليه من آل محمد صلى اللّه عليه من ائتمنه المسلمون على نفسه وغيبه، ثم رضوا فهمه وعلمه بكتاب اللّه وتَبْيِيْن الحق فيه، وسنة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فهدى اللّه عز وجل به الناس إلى ذلك، وأهداهم الموثوق في حديثه وفهمه وفضله، ووصفه الحَّق بما يُعَرِّف المسلمين من معالم دينهم، ثم الاستقامة لهم عليه، ليس له أن يجوز بهم عن الحق وليس لهم أن يبتغوا غيره ما ستقام لهم، ولم يكن آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم والحمدلله - على حال منذ فارقهم نبيهم صلى اللّه عليه وآله وسلم - إلا وفيهم رضاً عند من عرفه من المسلمين، في أنواع الخير التي يَفْضُل بها الناس، عَرَفَ ذلكَ مِنْ حقهم مَنْ عَرَفَه وأنكره من أنكره )) . [ كتاب الصفوة ]

وبهذه الجملة الأخيرة يتبين أن الإمام زيد يعتقد عدم خلو الزمان من مستحق للإمامة من أهل البيت ، وبالطبع هذه الجملة في غاية الأهمية فلتتذكر !
عسى مشربٌ يصفو فتروى ظميةٌ *** أطال صداها المنهل المتكدرُ

ياسر الوزير
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 404
اشترك في: الجمعة مارس 19, 2004 11:48 pm
مكان: النهرين

مشاركة بواسطة ياسر الوزير »

ثالثاً : أمير المؤمنين (ع) :

إن أمير المؤمنين يشكل مفترقاً للطرق ، فهو مَعلَم للحق ورمز للعدالة ، وحضوره في الأطروحات الفكرية هام جداً ، وبخاصة في تلك الفترة التي عاشها الإمام زيد (ع) ، حيث تحكم الأمة الإسلامية الدولة التي كانت تسب أمير المؤمنين (ع) على المنابر وعلى رؤوس الأشهاد .

أمير المؤمنين ؛ علي بن أبي طالب ، تلميذ الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – النجيب ، أخوه ، ووزيره ، ومعينه وناصره ، له حضور في كلام الإمام زيد (ع) وخصوصية تليق بمكانته .

وأمير المؤمنين في نظر الإمام زيد هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلا فصل ، ويرى الإمام أن ذلك الحق ، فما سواه باطل !

(( فوجدنا الناس مختلفين يتبرأ بعضهم من بعض، وقد يجمعهم في حال اختلافهم فريقان .
فريق قالوا: إن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مضى ولم يَسْتَخْلِفْ أحداً بعينه، وإنه جعل ذلك إلينا معاشر المسلمين، نَخْتَارُ لأنفسنا رجلا فنستعمله علينا، فاخترنا أبا بكر.
وفرق قالوا: إن النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم استخلف علياً فجعله خليفة وإماما نَسْتَبِيْنُ به بَعَدَهُ. فصارت كل فرقة منهم مُدَّعِيَةً تدعي الحق.
فلما رأينا ذلك أوقفنا الفريقين جميعاً، حتى نستبين ذلك، ونعرف المُحِقَّ من المبطل )) . [ تثبيت الإمامة ]

وها هو يصرح بأولوية وأحقية أمير المؤمنين (ع) بالأمة فيقول :

(( قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فكان أولى الناس بالناس أمير المؤمنين علي صلى اللّه عليه، ثم قبض أمير المؤمنين علي صلى اللّه عليه فكان أولى الناس بالناس أمير المؤمنين الحسن بن علي عليهما السلام، ثم قبض أمير المؤمنين الحسن بن علي عليهما السلام، فكان أولى الناس بالناس أمير المؤمنين الحسين بن علي عليهما السلام، ثم سكت. وقال: الرد إلينا، نحن والكتاب الثقلان )). [ من كلام له في الإمامة ]

والإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باب يطرق ليفتح لنا تساؤلات عدة ، إنها فعلاً شكلت مفترق طرق ، بل هي في نظر الإمام زيد (ع) ( أول خلاف وقع في الأمة ) وأنت ترى ما حجم هذه القضية الهائلة ، فيا ترى كيف يرى الإمام زيد الأحداث التي جرت آنذاك ؟!

(( إن الإمامة أولُ خلافٍ وقع في الأمة بعد مُضِيِّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ووفاته، انْتَهَبَهَا قومٌ كما يُنتهب تراث الدنيا، فكل يقول إنه أحق - برأيه وبزعمه -، وإنه أخَصَّ وأولى ، فَحَاجَّ أبوبكرٍ الأنصارَ بحجج عامة لسائر قريش، ثم أخْتَصَّ بها دونهم من غير مُشَاوَرَةٍ من جميعهم، ولا أخذ إقرارهم أنه أوْلاَهم بها، ثم قام بها أيام حياته، وتَضَمَّنها بعد وفاته بما جعل لعمر بن الخطاب منها، وما خصه بها من تسليمها له دون غيره، نصاً وتسمية وتعييناً، فقام عمرٌ ينحو نحوه، ولا يتغير عن طريقته، حتى كان من أمر عَبدِ المغيرة بن شعبة ما كان، فجعلها في سِتَّةٍ ليختاروا أحدَهم، وكان من عبدالرحمن بن عوف الذي كان، فَسَلَّمَهَا إلى عثمان [ بياض في الأصل ] فيما خيروه، وعاتبوه، واستتابوه، فلم يَتُبْ، فهجموا على داره فقتلوه.

فأتى قومٌ من المهاجرين أميرَ المؤمنين علياً وهو لا يشعر فنعوا إليه عثمان بن عفان، وقالوا: قتله المِصْرِيُّون وإنا لا نجد عنك غنى ولا ملجأ ولا معاذاً، فكان منه الجواب الذي أخفيه عنك، فلا يضرك إن أخفيته، ولا ينفعك إن رسمته في كتابي هذا، فبايعوه على كتاب اللّه تعالى، والعمل بما فيه، فأقام لهم العدل وعمل فيهم بالقرآن )) . [ من جواب الإمام (ع) على واصل بن عطاء ] .

نعم ؛ وقد أكثر الإمام (ع) من الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين (ع) في كتاب تثبيت الوصية بما لا مزيد عليه ، أثبت الوصية ولزوم حصولها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم أثبت كونها في أمير المؤمنين ، إلى نحو ذلك من الاستدلالات الواضحة ، وإليكم جملة ذلك ؛

((سلوا النَّاس: هل أوصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، أو لم يوص؟
فإن قالوا: لم يوص، أو لاندري أوصى أو لم يوص.
فقولوا: إنَّ في القرآن دليلاً على أنه قد أوصى، يقول اللّه تبارك وتعالى: ﴿يَا أيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إَذَا حَضَرَ أحَدَكَمَ المَوْتُ حِيْنَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ﴾ [المائدة: 106]. وقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَيْنِ وَالأقْربيْنَ﴾[البقرة: 180]. وقال: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوْصِيْ بِهَا أوْ دَيْنٍ﴾[النساء: 11]. وقال: ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوْبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيْهِ مَاتَعْبُدُوْنَ مِنْ بَعْدِيْ قَالُوْا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيْلَ وَإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحَنُ لَهُ مُسْلِمُوْنَ﴾[البقرة: 133].
وقد ذَكَر الناس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم - لا يختلفون فيه -: أنه كان يبعث السَّرايا فيوصيهم، وقد بعث جعفراً ، وزيداً ، وعبد الله بن رواحة فأوصى: إن حدث بفلانٍ ففلانٌ، أو حَدَثَ بفلانٍ ففلانٌ. فيكون يؤمِّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في حياته ويوصي بهم، ويدع أهله وذريته والأمة جمعاء لا يوصي بهم أحداً! أفأمركم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالفضل وترك أن يأخذ به؟! وهو أحسن الناس بالأخذ بالفضل؛ وإنما عُرِف الفضل به.
فهذا مما يستدل به على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قد أوصى ولم يُضِع أمر أمته
.
فإن قالوا: قد أوصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ولكن لا ندري إلى من أوصى. فإن في القرآن ما يستدلُّ به على وَصِيِّه، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان خير الناس وأعلم الناس؛ فينبغي أن يكون وصيه من بعده خيرهم وأعلمهم، وأطوعهم لأمره، وأنفذهم لوصيته، وأوثقهم عنده.

وقد بَيَّن اللّه تبارك وتعالى الفضل في كتابه؛ فأفْضَلُهم عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من فضَّله اللّه في كتابه، وهو وصيّه؛ لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يكن ليختار غير الذي اختاره اللّه، فهلمّوا فلننظر في كتاب اللّه مَنْ أهل صفوته، وأهل خيرته؟ فإن اللّه تبارك وتعالى يقول: ﴿وَربكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَة﴾[القصص: 68].
وقال: ﴿وَالسَّابِقُوْنَ السَّابِقُوْنَ أوْلئِكَ المُقَربوْنَ﴾[الواقعة:10 -11]. وقال: ﴿وَالسَّابِقُوْنَ الأَوَّلُوْنَ مِنْ المُهَاجِرينَ وَالأنْصَارِ﴾ [التوبة:100]. وقال: ﴿لاَ يَسْتَوِيْ مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أوْلئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مَنَ الذِيْنَ أنْفَقُوْا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوْا﴾ [الحديد: 10]. وقال: ﴿وَالَّذِيْنَ جَاؤُا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُوْلُوْنَ ربنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِيْنَ سَبَقُوْنَا بِالإِيْمَانِ﴾[الحشر:10].
فجعل اللّه للسابق بالإيمان والجهاد فضيلةً؛ فالفضل في السَّابقين دون الناس، وأول السَّابقين أفضل السابقين لما سبق به السَّابقين، لأن اللّه عز وجَلَّ فَضَّل السابقين على التَّابعين. وقال: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِي أَدْعُوْ إِلَى اللَّهِ عَلَىْ بَصِيْرَةٍ أنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِيْ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أنَا مِنَ المُشْرِكِيْنَ﴾ [يوسف: 108].
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الدَّاعي على بصيرة. وكان أول من اتبعه علياً عليه السلام وكان الدَّاعي من بعده على بصيرة؛ لأنه أول من اتبعه، وأوْلَى أنْ يكون وصيّه
.

ولا ينبغي أن يكون الداعي من بعده على بصيرة إلا من يعلم جميع ما جاء به، وهل أحد من الناس يزعم أنه يعلم علم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلا علي عليه السلام؟
وقال: ﴿إِنَّمَا يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْراً﴾ [الأحزاب: 33].
ثم فرض مودتهم فقال: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِيْ القُربىْ﴾ [الشورى: 23] يقول: أن تودوني في قرابتي.
ثم فرض لهم الخُمُس فيما غَنِم المسلمون من شيء: سهمه تعالى، وسهم رسوله دون المؤمنين، فقال: ﴿ وَاعْلَمُوْا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُوْلِ وَلِذِيْ القُربىْ﴾[الأنفال: 41].
فعرفنا أن الفضل والخِيْرة لأهل هذا البيت، الذي فضَّله اللّه على جميع البيوت، لأنهم جمعوا السَّبْق والتَّطهير، فينبغي أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خيرهم، لأنه خير الناس، وأفضلهم عند اللّه، وينبغي أن يكونوا قادة الناس إلى يوم القيامة؛ لأن اللّه عز وجل يقول: ﴿أفَمَنْ يَهْدِيْ إِلَىْ الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعْ أَمَّنْ لا يَهِدِّيْ إِلا أنْ يُهْدَىْ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنْ﴾[يونس: 35]. وقال:﴿ إِنَّمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[الرعد: 7].
فلا ينبغي أن يكون الهادي إلا أعلمهم؛ لأن اللّه عزَّ وجل اصطفى محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم وطَهَّره وعَلَّمه، وجعله القائد المعَلِّم، ومِنْ بَعْدِه عليٌ عليه السلام على منهاجه، يحتاج إليه الناس ولا يحتاج إليهم، فإن اللّه عزوجل قد فضلهم على الخلق بالهدى والطاعة، وأعلمَ الناسَ عصمَتَهم، فلايضلون عن الحق أبداً، والدليل على ذلك ماقد بَيَّنْتُ لكم من قوله: ﴿قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِيْ القُربى﴾ [الشورى: 23]. وقال: ﴿لاَتَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُوْنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوْا آبَاءَهُمْ أوْ أبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيْرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كُتِبَ فِيْ قُلُوْبِهِمُ الإِيْمَانُ وَأيَّدَهُمْ بِرُوْحٍ منْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِيْنَ فِيْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهمُ وَرَضُوْا عَنْهُ أوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُوْنَ﴾[المجادلة: 22].
فلو كانوا ممن يَحَادَّ اللّه ورسوله، لم يفرض مودتهم.
وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم:
(( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا - ولن تذلوا - كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) . وقال: ﴿وَاْعلَمُوْا أنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُوْلِ وَلِذِيْ القُربىْ وَاليَتَامَىْ وَالمَسَاكِيْنِ وَابْنَ السَبِيْلِ﴾ [الأنفال: 41].
فإن قالوا: فإن اللّه قد جعل لليتامى والمساكين وابن السَّبيل، فقولوا: ألا ترون أنَّ اللّه تعالى قد فَرَض الخُمُسَ لنفسه، وفرضه من بعده لرسوله، وإنَّما صار لرسوله لفضله عند اللّه، ولو كان أحد أفضل منهم لكان أحق به منهم. فَجَرَوْا في ذلك مجرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
.

وإنما فرض اللّه لليتامى نصيبهم من الخُمُس لِيُتْمِهم، فإذا ذهب يُتْمُهُم فلا حَقَّ لهم. وإنما فرض للمساكين نصيبهم من الخمس بَدَلَ مَسْكَنَتهمْ، فإذا ذهبت عنهم المَسْكَنَةُ فلا حق لهم فيه، وإنما فرض لابن السَّبيل نصيبهم بدلا من الغُرْبة، فإذا بلغوا بلادهم فلا حق لهم فيه، وكان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على كل حال في الغِنَى والفَقْر، وهو لذوي القربى على كل حال بمنزلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، لأن اللّه عز وجل جعل لهم ذلك لِمَا حَرَّم عليهم من الصَّدقة إذ لم يرضها لهم.

فكان علي صلى اللّه عليه أحق الناس بالله وبرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، وكان إمامهم بعد نبيِّهم )) .

باب مدينة العلم ؛

ولم يقتصر الإمام زيد (ع) في حديثه عن أمير المؤمنين (ع) على جانب الإمامة فقط ، بل لأمير المؤمنين حضور في القضايا الشرعية كونه باب مدينة العلم ، ولذلك يقول في سياق الحديث عن رواة الصحابة للآثار :

(( وعليك بعلي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه وسلامه، فإنه كان باب حكمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وكان وصية في أمته، وخليفته على شريعته، فإذا ثبت عنه شيء فاشدد يدك به، فإنك لن تضل ما اتبعت علياً صلوات اللّه عليه وسلامه )) .

وعلى العموم فولاية أمير المؤمنين وتفضيله هو أول باب يطرق في مثل هذا الموضوع الذي أنشأنا البحث لأجله ، وقد أتى فيه الإمام زيد بأوضح بيان وأجلى برهان .
عسى مشربٌ يصفو فتروى ظميةٌ *** أطال صداها المنهل المتكدرُ

ياسر الوزير
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 404
اشترك في: الجمعة مارس 19, 2004 11:48 pm
مكان: النهرين

مشاركة بواسطة ياسر الوزير »

خاتمة ؛

في الختام أرجو أن أكون قد وفقت في هذا العمل ، وأن أكون قد أظهرت مذهب الإمام زيد بن علي (ع) كما يريد النص أن يكون ، لا كما أريده أنا أن يكون ! وأسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم إظهاراً لما أمر الله بإظهاره ، وإعلاناً للحق الذي جر بنواصينا وأخذ بمجامعنا للإذعان به ، آمين اللهم آمين ، ولنختتم هذا البحث بهذا الدعاء لإمامنا الأعظم أبي الحسين (ع) :

(( اللَهُمَّ وقد شَمَلَنا زَيْغُ الفتنِ، واستولت علينا غَشْوَةُ الحَيْرَةِ، وقَارَعَنَا الذلُّ والصَّغَارُ، وحكم علينا غيرُ المأمونين على دِينِك، وابْتَزَّ أمورَنَا من نَقَّصَ حكمَك وسعى في إتلافِ عبادِك، وعَادَ فَـيُّنا دُوْلَةً، وإمَامَتُنَا غَلَبَةً، وعَهْدُنَا مِيراثاً بين الفَسَقَةِ، واشْتُرِيَتِ الملاهي بِسَهْمِ اليتيم والأرْمَلةِ، ورَتَعَ في مال اللّه من لايَرْعَى له حُرْمَةً، وحكم في أَبْشَار المؤمنين أهلُ الذِّمة، وتولى القيامَ به فاسقُ كلِّ مَحَلَّةٍ، فلا ذائدٌ يذودهم عن هَلَكَةٍ، ولا رادعٌ يردعهم عن إرادتهم المَظْلِمَةِ، ولارَاعٍ ينظرُ إليهم بِعَيْنِ الرَّحمْة، ولا ذو شفقة يشفي ذاتَ الكبدِ الحَرَّاء من مَسْغَبَةٍ، فهم هؤلاء صَرْعَى ضَيْعَةٍ، وأسرى مَسْكَنَةٍ، وحُلَفَاء كآبةٍ وذِلَّةٍ )) .

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
عسى مشربٌ يصفو فتروى ظميةٌ *** أطال صداها المنهل المتكدرُ

مغلق

العودة إلى ”مجلس الدراسات والأبحاث“