سيرة الشهيد السيد عباس الموسوي

أضف رد جديد
اشرف نجم الدين
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 72
اشترك في: الأحد مايو 04, 2008 10:35 pm
مكان: اليمن

سيرة الشهيد السيد عباس الموسوي

مشاركة بواسطة اشرف نجم الدين »

نقلاً من موقع الموقاومة الإسلامية في لبنان


الملخص: لم يكن استشهاد الموسوي قتل فردٍ بفعل صدفة.. بل قتلٌ مقصودٌ من عقلٍ مدبِّر.. فلم يمت على فراش، بل بأكثر من ألف ضربة سيف!!
2) إستشهاد الموسوي حجّة ضدّ العدو والعالَم، وحجّة على من تراوده نفسه للقهقرى!!‏‏
الولادة .. الرؤيا‏‏
.. إنها الرؤيا تتحقق.. إنه الحلم يتجسد واقعاً حبيباً.. طفلاً يطرب الجميع لصوت صرخته الأولى.. أو لم تر والدته حلم قدومه الى هذا العالم على يدي أبي الفضل العبّاس الذي قدّمه لها عطيّة.. هدية أهل البيت (ع).. : هذا الغلام زكّيناه بأنفاسنا.. طهّرنا قلبه بطهر قلوبنا.. وكحّلنا عينيه بسنى النور الإلهي الذي تكحّلت به عيوننا.. وتضمّ الأم وهي على فراش الألم.. تضمّ وليدها.. تضمّ حلمها العذب الشهي.. تناغيه.. تهدهده.. وتناديه عبّاساً.‏‏
ويشيع خبر ولادة عبّاس.. تتناقله أفواه المستضعفين في تلك الضاحية المهملة.. المشلوحة جنوبي العاصمة المتلألئة بزينتها وزخرفها.. وترفها وبذخها..‏‏
في "الشياح".. رأى السيد عبّاس (رضوان الله عليه) أول شعاع في حياته المليئة بإشعاعات الجهاد الإيماني.. وبين الموجوعين من نير الحياة.. المسحوقين تحت سنابك الحاجة.. اللائذين بعتمات الليل تخفي هزالهم وعظم حاجتهم.. تخفي قهرهم وأنينهم وصدى نواح لياليهم..‏‏
وتتراكض النسوة الجارات.. وكلهنّ يباركن للوالدة وليدها، ويمددن يد المساعدة للأم الآتية من مقلع وجودها (النبي شيث) في بعلبك الى ضاحيةٍ صابرة ملّ الصبر من صبرها وما ملّت..‏‏
ويتسارع الرجال ذوو الأيدي المعروقة من حمل الضنى "من أجل الضنى" يباركون للأب الذي ظهرت الابتسامة جليّةً على شفتيه المرددتين آيات الشكر لله، يردّ على تهاني الوالجين الدار ليباركوا المولود..‏‏
وأيّ مولود كان ذاك الذي طرق باب الحياة عام 1952؟، ثم بدأ مسيرة حياة إيمانية جهادية امتدت سحابة عمره التي لم تمكث طويلاً في سماء هذا الكون الفاني، سحابة بلّلت رؤوس الفقراء بالحنان، وروت ظمأ نفوسهم بالمحبة، وسقت حقول أعمارهم بالأمل والأمنية بقيام دولة المستضعفين على اتساع هذا العالم الغارق حتى أذنيه في المادية، والمشيح بوجهه عن جراحاتهم حدّ اللؤم..‏‏
وكيف لا يكون هذا السيد، الحلم، بهذا المستوى من الرفعة الإنسانية من العطاء المتسامي.. وهو سليل الشجرة الهاشمية المباركة التي فيّأت بظلّها عالماً جاهلياً وأخذته بيد الرسالة والنبوّة الى منابع الإيمان والعرفان في الحياة..‏‏
كان السيد عباس (رض) هاشمياً صرفاً لجهة والده ووالدته.. لم يكن هاشمياً لأن أبويه هاشميان فقط، بل لأنه كان حرفاً بارزاً وكلمة خالدة جريئة في الحق في كتاب العترة الهاشمية الشريفة، كان هاشمياً بالفطرة.. تلك الفطرة التي ظهرت في مجمل ميوله واتجاهاته وتصرفاته، فهو منذ طفولته تميّز بالتودّد مع الناس، والتحسّس لمشاكل حياتهم، وبلسمة جراح المظلومين والمعذّبين، وكان جريئاً في مواقفه.. شجاعاً في إبداء رأيه، والى جانب ذلك كان يتمتع بصفة الريادة التي جعلته بارزاً بين رفاق طفولته ويفاعته.. فهو الى جانب محبته لهم وتوادده معهم، كان يمثل لهم بنفسه المثل الصالح.. يوجّههم.. يحاول إرشادهم -رغم صغر سنّه- الى ما فيه خيرهم.. خير دنياهم وآخرتهم.. كيف لا.. وهو الشاب المؤمن الملتزم الذي نهَل من معين القرآن، ورشف من تعاليم الرسالة، وأدمت نفسه وروحه جراح كربلاء، وجاورالمسجد، فكان خير جار، لا ينقطع عن زيارته في أوقات الصلاة، رافعاً صوته الجهوري الحبيب بالدعاء، مبتهلاً الى الله عز وجلّ أن يُعلي راية الإسلام ويحفظ قافلة الإيمان لتكون الخميرة الصالحة لدولة حقٍ وعدالة تقوم على كل أرض البشر الباحثين عن آفاق خيرٍ وسلام لمستقبل أبنائهم وأحفادهم..‏‏
لقد وعى السيد آلام أمّته وهمومها منذ حداثته، وأدرك بوعي الملتزم بمسؤوليته تجاه دينه.. تجاه أمّته: أنّ أهمّ أسباب هذه الآلام، وأكبر هذه المشاكل هو ذلك الكيان الغاصب الغريب الذي زرعه الاستكبار في رئة أرضنا.. في خاصرتها شوكة.. في عينها قذى..‏‏
لقد وعى بوعي المؤمن.. بوعي رجل الجهاد، أنّ أمور أمّته لن تستقيم طالما أنّ الكيان المسخ.. العضو الغريب.. مزروع في جسدها.. ومن نتائج زرع هذا العضو الغريب كان مأساة تغريب شعب.. برجاله ونسائه.. بشبابه وشيبه عن أرضه..‏‏
لقد عاش السيد عباس (رضوان الله عليه) مأساة الشعب الفلسطيني بشبابه.. بدقائق عمره.. بثواني تفكيره.. وهبها توقه، وشوقه، وعزمه، وزنده، وفكره، وساعده، والتحق بمقاتلي ثورته وهو لمّا يزل في العاشرة من عمره، وخضع لعدّة دورات تدريب عسكرية، منها دورة في أحد مخيمات ثورة في دمشق، وأصبحت الثورة بعد ذلك سطراً هاماً من سطور حياته، وفعلاً يومياً يظهر في أقواله وأفعاله، يتتبع أخبار فلسطين وأبنائها، يشاركهم همومهم وجهادهم ومعاناتهم، ويقرأ أخبارهم من خلال مداومته على الإطلاع على جريدة "الثورة"..‏‏
حتى جراح الجسد عاناها مع رفاق الثورة، إذ أنه أصيب بكسر في ساقه خلال إحدى الدورات، وأُدخل آنذاك الى مستشفى المقاصد الإسلامي غير آبه ولا مكترث، بل إنّ ذلك زاده التصاقاً بمعاني الفداء والتعالي فوق السدود والحدود مجيباً سائليه (عن مدى إصابته وإحساسه بها) بأنّ جرح الجسد ليس شيئاً أمام جرح الكرامة.. أمام جرح الدين والشرف.. الذي أصابنا به عدوٌّ لئيم واستكبار متعجرف وقح..‏‏
كان السيّد يعلم ويدرك حق الإدراك بأنه اختار الطريق الصعبة، بل الطريق الأصعب، وكان يملك من التصميم والإرداة، ومن حماسة الوعي الملتزم، ما حوّل الحالة الثورية التي كان يعيشها في أعماق أعماق ذاته المنتفضة الى حالة عقيدية إيمانية جهادية شمولية راسخة في كيانه، بل متآخية مع وجوده بشكلٍ لصيق، حتى بات تشكيلاً رائعاً يجسّد الإيمان الثائر والوعي الرافض لأي شكس من أشكال الذل والتبعية..‏‏
أولى خطواته المعرفية‏‏
لو حاولنا تعداد المحطات المضيئة في حياة السيد (رض)، لبدت لنا كسماءٍ رصّعتها الأنجم الزهر، ووشّحتها ألوان العطاء..‏‏
ومن المحطات البارزة والمضيئة في حياة شهيدنا لقاؤه بسماحة السيد موسى الصدر في بيت أحد الأصدقاء بمنطقة الأوزاعي (عام 1968)، وكان حديثٌ بينهما مدّ جسور تفاهم وتوادد، ولمس السيد الصدر يومها أنه أمام شخصية مميزة، ورجل لن يكون عادياً في مسيرة شعبه وحياة أمته، فرغب إليه بالالتحاق بالحوزة العلمية التي كان أنشأها في مدينة صور، والتي كانت مسمّاة آنذاك بـ"معهد الدراسات الإسلامية"، فاستجاب السيد عباس لطلب السيد الصدر، ثم تابع دراسته فيها الى ما بعد انتقالها الى المؤسسة في البرج الشمالي، فكان بذلك من الطلبة الذين دشّنوا بناء المؤسسة وكانو باكورة عطائها..‏‏
"تعمّم" السيد في السادسة عشرة من عمره، وازداد تعلقاً بحبّ السيد الصدر الذي بادله الحب والتقدير واجداً فيه الشاب الإنسان الواعي الظامئ والمتعطش (الى حد النهم) الى معرفة الدين وأحكامه، وكما في اللقاء، وكما رغب السيد الصدر إليه أن يلتحق بالحوزة في صور، فقد أشار عليه بعد تخرجه من المؤسسة أن يرتحل الى العراق ليتابع دراسته في كنف الشهيد السيد آية الله العظمى محمد باقر الصدر.. وهكذا كان..‏‏
الرحيل الى النجف الأشرف‏‏
.. إنه الرحيل الأول للسيد الفتى.. الذي طلّق كل مباهج عمره النضر وكل لذائذ الحياة التي يسعى اليها رفاق عمره، لينطلق الى دنيوات يطغى عليها هاجس واحد: أن يوغل أكثر فأكثر في دروب الإيمان المعرفي الذي جعله هدف حياته وأفق عمره، ولقد درس في بادئ الأمر على أيدي بعض الأساتذة الذين ساعدوه وفقّهوه في مجالات دينية شتى.. وعند بلوغه مرحلة "الخارج" إنفرد بالدراسة على يدَي خدين روحه ومعقد أمله ومَثَله الأعلى الشهيد السيد آية الله محمد باقر الصدر (قده) الذي وجد فيه فرادةً في الشخصية وصفاءً في الروح وهمّة كبرى في التحصيل.. وجده شخصاً مميزاً، فاختصه بالتمييز، وقرّبه إليه فاتحاً له كل أبواب علمه ليغرف منه ما يشاء ومتى يشاء، ولم يبخل عليه بالجواب على مسألة حيّرت فكره أو استعصت على عقله، لقد فتح له خزائن علمه كما فتح له شغاف قلبه وكم من مرةٍ ردّد: "عبّاس فلذة من كبدي".. وكان السيد جديراً ولائقاً بهذا الاهتمام، هذا الاهتمام الذي أنبت فيه عطاءً غير محدود وتحدياً لكل مسألة شائكة تعترض مسيرته العلمية، فقد أنهى مراحل الدراسة في المقدمات والسطوح خلال فترة زمنية لا تتعدى الخمس سنوات، في حين يحتاج غيره لأكثر من ذلك.‏‏
إنها النفس الظمأى.. الراشفة لمعلَمٍ من أصفى مناهله.. لقد طاب الغرس والغراس.. فكان الجني مباركاً..‏‏
الإياب الأول الى لبنان (1973)‏‏
.. الحنين الى مراتع الصبا، والحنان الجارف الذي اختزنه صدر السيد والرقة والرأفة والشوق الى الأهل والأقارب، كلّ ذلك دفع بالسيد عباس ليعود الى لبنان في صيف 1973 م، بعد غياب دام أربع سنوات في رحاب النجف الأشرف وتحت عباءة علمائه ومجتهديه وتحت رعاية الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر..‏‏
عاد السيد ليتملى من قسمات وجوهٍ أحبّها، وليغرف من بركتها ورضاها، وليختزن من أدعيتها زاداً لمستقبل أراده زاخراً بالتضحية والعطاء الذي يكبر على حب الحياة ويسمو على التعلق بحطامها..‏‏
ولم يعد هذه المرة وحيداً الى العراق، بل رافقته توام شهادته، إبنة عمه "سهام الموسوي" التي أصبحت السيدة "أم ياسر" بعد زواجهما، وعمر السيد واحد وعشرون عاماً، ولها أربعة عشر ربيعاً من العمر..‏‏
العودة الى العراق (1973)‏‏
عاد السيد الى النجف.. الى معقد أمله ومعقل معرفته، والى جانبه قلبٌ يخفق إرضاءً وتقديراً، وعينٌ تسهر عليه، ويدٌ تقوم بترتيب أموره وتلبية حاجاته، وكان السيد يبادلها هذا الحنان بالحنو، وتلك الرأفة بالحنان، وينظر بعين التقدير إلى صبرها على القلّة والغربة.. لقد كان (رض) مثال الزهد في أمور الدينا.. متواضعاً مستقيماً، وكانت اخلاقه على قدرٍ من الرفعة والسمّو مع الأقربين والأبعدين، وكان ترفّعه عن سمّو في النفس والرغبة، لا عن تكبّر وصلَفٍ فارغ.. ولم يكن له أي مطمع في حطام الدنيا.. ويقول أحد معارفه والذي عايشه خلال إقامته في النجف الأشرف أنه كان يعتاش مع عائلته بمخصص متواضع طوال إقامته للدراسة هناك، وكان يعيش مع زوجته عيش المحتاج الصابر القانع برحمة الله.. وتذكر شقيقة السيد الشهيد انه احتاج يوماً لشراء بعض الكتب التي تعينه في دراسته، ولم يكن يملك ثمنها، فما كان من شريكة جهاده واستشهادة إلا ان باعت خاتم الزواج لتأمين شرائها.. إنه القلب النابض بالإيثار والتضحية، إنها المرأة التي تساعد على صنع رجل، تمهّد دربه بنـزع الشوك بيديها الطريتين، تمدّ عمرها جسراً يعبر عليه الرجل ليدقّ باب التاريخ، أو على الأقل ليلج عتبته بخطوات المؤمن الواثق.‏‏
وينساب صوت الذكريات على لسان شقيقته لتروي كيف انتظرته مع زوجته ذات غروب من شهر رمضان المبارك، ليأتي بطعام الإفطار، وكيف عاد فارغ اليدين ليحدّثهما عن صبر الزهراء وأحزان العقيلة (عليهما السلام) وعن التمسّك بأهداب الصب الجميل، إلى أن أذّن المؤذّن وحان وقت الإفطار، وعندما سألته أن يُحضر شيئاً من الطعام، إغرورقت عيناه، إخضلّتا بالدمع الطاهر متابعاً حديثه عن أهل البيت وصبرهم على مكاره هذه الدنيا الدنيّة، ولم يطل جوع هذه الجماعة البارّة القائمة الى عبادة ربّها، إذ دقّ الباب ودخل أحد العلماء من أصحاب السيد الشهيد حاملاً طعاماً كثيراً ورزقا وفيراً سكنت له القلوب الواجفة والبطون الشاكية من الطوى..‏‏
إنها فترة عصيبة عاشها السيد الشهيد مع رفيقة عمره، وشريكة سرّائه وضرّائه، ولكنها مليئة بالنوافذ النورانية، مليئة بالبحث عن الدروب الحقّة الى الله، وكل ما تبقّى قشور وزبَد.. يذهب جفاء ويبقى الجوهر..‏‏
لقد كان السيّد يرحل عمقاً في مسيرة حياته، ولم يكن يصرف وقته أو ساعات عمره في هدفٍ أو غاية سوى البحث عن العلم الخالص والمعرفة الخالية من شوائب المصلحة والغاية، ولقد كان اختياره للسيد االشهيد محمد باقر الصدر (وهو المعروف باستنارة فكره واتساع علمه)، كان هذا الاختيار لبنةً أساسية ودعامة هامة في بناء (أو على الأقل) في صقل الشخصية التي رسمها لنفسه وارتضاها لشخصه، ولقد قامت بين السيدين الطاهرين أواصر علاقة روحية سامية، إذ وجد فيه السيد عباس ضالته وأفق غايته، ووجد فيه الفكر النيّر والرؤية النورانية الصادقة والتطلّع الواعي والمتلمّس بصدق لواقع هذه الأمة.. ولبناء مستقبلها، وقد بادله الشهيد المفكر السيد الصدر إحساسه نحوه وتقديره لشخصه، فنشأت بينهما صلات روحية عميقة تمثّلت بلقاءاتهما المتواترة وبالمهمات ذات الأهمية التي كان الإمام الصدر يوكلها للسيد عباس (رضوان لله عليهما)..‏‏
نشاطات السيد الشهيد في النجف‏‏
إنّ رجلاً مثل السيد الشهيد لا يعرف أن يركن الى دعة أو خمول، ولا يرضى بأن يُنـزل راية المسؤولية الإيمانية والجهادية من يده، فإلى جانب اهتماماته بدراسته الحوزوية، كان السيد (رض) يولي قسماً كبيراً من اهتماماته ووقته لأمور التبليغ والدعوة الإسلامية، وإقامة الندوات للتدارس بأوضاع الأمة، ولتكون هذه الندوات في الوقت ذاته لقاءات مفيدة مع الطلبة من كافة الأقطار وشتى الأصقاع لحثّهم على أن يكونوا على مستوى عالٍ من المسؤولية وأن يكون هدفهم الوقوف صخراً صلداً وسداً منيعاً في وجه الاستكبار العالمي والغزو الثقافي لتغريب البلاد الإسلامية بناسها ومجتمعاتها، وكي يتجهوا بتفكيرهم وخواطر عقولهم نحو القارة السوداء المسحوقة بسنابك أطماع الغرب السادر في دروب التسلط والهيمنة وامتصاص خيرات الشعوب الفقيرة والمستضعفة.. لقد كان السيد شمولياً في تفكيره بأخيه الإنسان من حيث هو إنسان ويحاول بكل جهده وبكل عطاء روحه المتحفزة للإصلاح أن يعمّم رسالة الإسلام: رسالة المساواة والأخوّة الى كل حقول البشرية في أي مكان أو صقع من الأرض، وكان يؤمن بأن تعميم هذه الرسالة هو في صميم عمل العالِم، رافضاً مقولة عزل السياسة عن الدين.‏‏
لقد كان السيد خلال إقامته في العراق نوراً وناراً.. كان متحركاً في كل اتجاهات العطاء.. ولقد تأثّر وعانى كثيراً مع الشعب العراقي الصابر على جور الحكم، لقد عاش مأساة شعب أحبّه وعاش بين أبنائه، فلمس فيه مصداقية الهدف ونبل الغاية..‏‏
ومما زاد في معاناة السيد الشهيد سماعه الأنباء المؤثرة التي كانت تصله عن المأساة التي كان يعيشها جبل البطولة.. جبل عامل.. على يد ربيبة الغرب المتصهين.. على يد الكيان الصهيوني وعملائه والمقنّعين بقناعه والسائرين في ركابه: رغبةً منهم أو رهبة منه، أو طمعاً بمال يبيعون به دماء وأرواح أبناء شعبهم المعذّب والمجرّح..‏‏
لقد شكّلت معاناة الشعبين (اللذَين أحبّهما): معاناة الشعب العراقي من جور حكّامه، ومعاناة شعب الجنوب الصابر على صمت العالم، وعدم سماع زئير وجعه وأنين كبريائه.. شكّلت هذه المعاناة جوهر الرفض والمقاومة المستميتة للطاغوت وشروره وتحكّمه بالبلاد ورقاب العباد، ونـهـض ينادي بمبدأ الجهاد في كل العالم معتبراً أن العلماء هم ركائز الإ حياء في أماكن تواجدهم.. حيثما وُجدوا.. وفي أي صقعٍ كانوا..‏‏
لقد كان الشهيد الموسوي تلميذاً بارّاً وفّياً لمقولة الإمام الخميني العظيم (قده) بإحياء دولة الإسلام، وأنّ هذه المهمة تقع على عاتق علماء الدين في أماكن تواجدهم.. والموسوي وارث لما تقدّم من إرث المبدأ وتراث النهج والسيرة.. وهو يؤمن بكل ذرّات كيانه بأنّ الاخرة محصّلة للدنيا، ومن يقود لإنقاذ البشرية على البرزخ (المفترق بين الجنة والنار) عليه أن يقود المسيرة الدنيوية ما بين الحق والباطل، وما بينهما باطل (كما يقول الإمام الخميني)، فلا خطّ فاصل بين الدنيا والآخرة، لأنّ منطق ما لقيصر لقيصر منبوذ بفهم الإسلام، فلا قيصر على الناس، لأنّ الله وحده (مَلك الناس.. إله الناس..)..‏‏
في العراق.. كان لقاء بينه وبين شيخ الشهداء راغب حرب.. فتواصلت روحاهما، وتعانق فكراهما، ونشأت بين الشهيدين صلة هي العنوان الأول في كتاب شهادتيهما..‏‏
في تلك الفترة الحرجة والمرحلة العصيبة من تاريخ العتبات المقدسة في النجف الأشرف، ووصولاً الى الوضع المأساوي الذي كان يعيشه جنوب لبنان، لعب السيد دوراً هاماً، إذ كان صلة وصل وثيقة بين الشهيد السيد محمد باقر الصدر وبين العلَم المغيّب السيد موسى الصدر، إذ كان يأتي الى لبنان كل عام بعد عاشوراء (في شهر محرم)، لكي يُطلع الأخير على أوضاع العلماء في النجف، وعلى معاناة الشعب العراقي الرازح تحت نير بطش الحاكم وظلمه، ولقد طالت يد الحكم وبطشه السيد عباس شخصياً، إذا تعرض للمراقبة المستمرة والملاحقة عام 1978 من قبَل طاغية العراق صدام حسين، وتكررت المداهمات لمنـزله، وتعددت المضايقات له، مما دفعه بإيعازٍ بل بأمر شخصي من السيد الشهيد محمد باقر الصدر الى مغادرة العراق، فتركه سراً في يوم من أيام عاشوراء حاملاً رسالة الى السيد موسى الصدر، في يوم أعطى فيه طاغية العراق أوامره بإبادة مسيرة عاشورائية من خلال قصفها بمدافع الطائرات، وبعد مغادرة السيد دهمت السلطات الجائرة منـزله لاعتقاله وإعدامه، لكن إرادة الله سبحانه واكبته حتى وصوله الى لبنان ليكمل دوره الرسالي والجهادي الذي أراده الله له..‏‏
ودّع السيد العراق، بعد ان زرع تسع سنوات من عمره في مناحي وأرجاء حوزته يرشف من مناهل علمها وعطائها، ولحقت به بعد فترة وجيزة عقيلته وتوام عمره وشهادته الفاضلة "أم ياسر" لتتابع معه رسالة الجهاد على أرض لبنان..‏‏
العودة الأخيرة الى لبنان‏‏
عاد السيد الى لبنان.. عاد حاملاً الرسالة التي نذر نفسه لها، ألا وهي إحياء ركائز الدين والتصدّي للطاغوت والاستكبار في أي بلد وفوق كل أرض، فكان أول عمل قام به جمع الاخوة الذين أُبعدوا من النجف في حوزة متواضعة، وهي حوزة الإمام المنتظر (عج)، حتى يتابعوا تحصيلهم ولا تفوتهم فرصة متابعة الدراسة والاستفادة، وشهدت مدينة بعلبك بواكير العطاءات العلمية والجهادية لهذه الحوزة (بدعم بعض العلماء الكبار)، وكان لهذه الحوزة فيما بعد دور كيير وريادي في الإيصال والتبليغ في كل مناطق لبنان، وكان السيد عباس الأب الموجّه والراعي الساهر والقائد الأمين لمسيرة هذه الحوزة والسهر على حاجات طلابها ورعاية أمورهم، واستطاع أن يخرّج منها علماء ومجاهدين أبراراً..‏‏
بعد فترة، فتحت هذه الحوزة بابها وصدرها للحرس الثوري، هؤلاء الاخوة الذين جاؤوا الى لبنان بأمرٍ خاص من الإمام الخميني (قده) لمساعدة شعب لبنان، ونشر مبادئ الثورة المباركة وتوجهاتها لبناء عالم يحترم المستضعفين، ولتعبئة الشعب ضد الكيان الصهيوني والاستكبار العالمي، وتدريبه وتهيئته لمواجهة الأعداء، مما أحدث انقلاباً كبيراً في مواجهة الكيان الصهيوني، وقد شكّلت الحوزة آنذاك أهم معاقل وأولى خطوات انطلاق الحرس الذي كان له الدور الكبير في تقوية عزائم الشباب المسلم، إذ ضخّ فيهم معاني الصمود والتصدّي لتهديم سور الرعب الذي أقامته أمريكا والقوات المتعددة الجنسيات، وللوقوف في وجه آلة الحرب الجهنمية والشرسة التي حاول الأعداء من خلالها كمّ الأفواه وتعليم الشعوب درس الرضوخ للواقع الأليم الذليل للقوة الغاشمة..‏‏
لقد كان وجود الحرس الثوري نقطة ماء أنقذت أماني وآمال شعبنا من الذبول والجفاف، ورئة يتنفس هذا الشعب من خلالها..‏‏
وفي نيسان من العام 1980، جاءت حادثة اغتيال السيد محمد باقر الصدر، وكانت آخر رسائل الشهيد قد تضمنت توصيات للسيد عباس بصفته وكيلاً له في لبنان..‏‏
وقف السيد مارداً.. دامع العين.. أمام دمعة الشهادة، وحوّلها الى إرادة..‏‏
لقد قوّى استشهاد السيد الصدر عزيمة السيد عباس، فلعب دوراً هاماً في استنهاض همم الخائفين، وكان يشجعهم ويوصيهم بطرح حالة الخوف مردداً أمامهم كلمات السيد الشهيد الصدر:‏‏
"إنّ البعث العراقي سوّر الشعب العراقي بجدارٍ من الخوف، ولكني سأخرق هذا الجدار بدمائي.."..‏‏
رغم ذلك، لم ينقطع تواصل السيد عباس مع الشعب العراقي وعلمائه، فقد استمر بذلك طريق بعض العلماء الذين كانوا يأتون بين فترة وأخرى من العراق الى لبنان..‏‏
ولاحقاً، أنشأ السيد عباس مع رفيقة عمره (أم ياسر) "حوزة الزهراء" لتدريس الأخوات الأحكام الإسلامية، وللخروج بالمرأة المسلمة من قيود التقاليد الباطلة والأوهام الزائفة، ولقد كان لذلك الجهد الأثر الكبير على مدى الساحة البقاعية..‏‏
ولم يتوقف السيد عند ذلك، بل، وانطلاقاً من إيمانه بأنّ الوحدة الإسلامية تبدأ بوحدة علماء الأمة، فقد سعى الى تأسيس تجمع العلماء المسلمين، وقد تم وضع الحجر الأساس لهذا التجمع (في البقاع) عام 1979، ليكون أول تجمع علمائي في لبنان.‏‏
انتصار الثورة الإسلامية في إيران‏‏
وكان لكلمة الحق أن تدوّي في أسماع العالم.. وكان لراية الإسلام أن ترفرف عالية بأيدٍ مباركة لم يثنها عن جهادها ترهيب أو ترغيب..‏‏
إنها الأنفس الأبية الراغبة في طرق الموت من أشرف أبوابه، ألا وهو باب الشهادة، فانبثق عن ذلك ثورة ماردة زلزلت الأرض تحت عروش البغاة، فدكّتها وأقامت على أنقاضها دولة الإسلام العزيز، وعاد الخميني العظيم (قده) ليقلب مقاييس الطاغوت، وليحيي دولة الإسلام بعد رقاد عميق استشرى خلاله ظلم العاتي وزبانيته، وارتفعت أيدي المستضعفين في كل العالم لتلوّح بجراحها للثورة الآتية من قلب عذابٍ دام قروناً.. نسي خلالها المستبد أنّ دولة الباطل ساعة ودولة الحق الى قيام الساعة..‏‏
لقد كان ذلك حُلماً صعب التحقق، وقد جسّده الإمام الخميني (قده) واقعاً اعترف به العدو قبل الصديق، وكان السيد عباس في طليعة السائرين ضمن القافلة الخمينية، وقد حرص عليها بجفن الروح وهدب القلب الخافق حباً لنهجها وشخص قائدها..‏‏
لقد تحقق حلم السيد في قيام دولة الإسلام، وعاش أمنية عمره تتجسد واقعاً، ليتشرف لاحقاً هو واخوته بلقاء الإمام المقدس في إيران الإسلام، حيث تزودوا بتوجيهاته المباركة، واستلهموا منه كيفية التعاطي مع مستقبل وأساليب العمل الجهادي في هذا الوطن النازف، وتلقوا منه تكليفهم الشرعي..‏‏
بعدها، عاد السيد الى لبنان وقد ازداد عزيمة وصلابة، عاد صوتاً صارخاً يبث الروح الإيمانية في نفوس الناس، وينمّي الوعي السياسي والجهادي لدى نخبة مخلصة، وينفخ في صدور الشباب روح الثورة والتحدي والاستعداد للتصدي والمواجهة، وكان كل همّه أن يعلّمهم كيف يكونوا تلاميذ أوفياء، وجنوداً حقيقيين من قافلة الجهاد.. قافلة الإمام الخميني (قده)..‏‏
لقد كان عِشق الموسوي الشهيد للثورة الإسلامية يفوق كل عشق وهوى، لقد عشِقها عِشق الروح المنجذبة الى هواها.. عِشق الضمير النقي للمثل العليا.. عِشق العابد للصلاة والتهجّد.. وذاب روحياً في شخصية قائدها المقدس، حيث كان يرى في تلك الشخصية امتداداً لولاية الأئمة الأطهار (ع)، وتجسيداً لحلم ضائع منذ تاريخ طويل ضارب في ذاكرة الألم الشيعي العتيق. لقد رأى السيد عباس في الرؤية الفقهية السياسية للإمام الخميني (رؤية ولاية الفقيه العامة) شرطاً ضرورياً لنهضة المسلمين ولإعطاء القيادة الشرعية كل أبعادها المرجعية من فقهية وسياسية واجتماعية بطريقة تعمّق وحدة الأمة عن طريق وحدة قيادتها، لذا مثّلت ولاية الفقيه إطاراً مرجعياً للسيد الشهيد في فكره وسلوكه، واستحوذت عليه بشكل كامل، فتعبّد في محرابها، وأخلص لها إخلاصه لآل البيت الأطهار (ع)، وتجلّى ذلك بوضوح في ولائه المطلق للإمام الخميني المقدس، وفيما بعد لخليفة الإمام ولي أمر المسلمين السيد الخامنئي دام ظله..‏‏
لقد كان أهنأ أوقات السيد الشهيد عندما يزوره رثسل الإمام الخميني (قده) من حرس ثوري وغيرهم ليضعوا أرواحهم في خدمة المستضعفين ومحاربة العدو الغاصب للأرض، التي نام نواطير كرومها، فعاثت فيها الذئاب والثعالب تمزيقاً وتقطيعاً..‏‏
ورغم كل الدورات والتدريبات التي أجراها سابقاً، فقد التحق السيد الشهيد بأول دورة تدريبية أجراها الحرس الثوري (في جنتا-البقاع)، فكان قدوة للآخرين، وكان العالِم المتدرب على أيدي طلابه، ليعطي بذلك درساً في القيادة المثالية، وليدلّ على روحية صافية عالية، مما أثّر بشكل كبير على نفوس كل الاخوة المجاهدين..‏‏
نضوج النهضة الإسلامية في لبنان‏‏
كان لا بد من تصعيد العمل الجهادي ضد العدو، وكان ذلك بمؤازرة الاخوة في الحرس الثوري، لينطلق العلم في كل اتجاه بطليعة مباركة من طلبة العلم والمجاهدين، وكان ذلك في العام 1982، لتتشكل غرسة مباركة تستظل بفيء الثورة الإسلامية في إيران، ولتعطي لاحقاً ثمارها الكثيرة بتضحيات شباب نذروا أعمارهم لله، وقد جسّد هؤلاء مظلوميتهم جهاداً واستشهاداً ليُظهروا الدليل القطاع بأنّ إسرائيل ليست الأسطورة التي لا تُقهر (كما كان يصورها البعض)، بل هي كيان هش قابل للهزيمة والتحطيم تحت ضربات القبضات المؤمنة والزنود الحسينية الطالبة للشهادة..‏‏
لقد وُلد حزب الله-لبنان في تلك الظروف العصبة، وكانت ولادة مباركة بتوجيه من الإمام الخميني المقدس وعلى هدي أفكاره ورؤيته وخطه، وكان السيد عباس من أبرز المؤسسين، وحصل ذلك في ظل المعاناة الكبيرة التي سبّبها الاجتياح الصهيوني للبنان وانتشار القوات المتعددة الجنسيات في مرحلة لاحقة..‏‏
وجد السيد نفسه منغمساً في حالة النمو المتصاعد للعمل الجهادي، مما شغله عن متابعة أمور وشؤون الحوزة العلمية، فقد كان وقته بكل ساعاته ودقائقه وثوانيه مليئاً بالاهتمام بأمور حزب الله مع إخوته المؤسسين من علماء وكوادر، ولذلك كلّف بعض ذوي الكفاءة والخبرة للتدريس نيابةً عنه، إذا انه كان في حركة دائمة ومتنقلة بين مناطق لبنان.. جنوباً وبقاعاً وضاحيةً.. يرفع لواء الإسلام وتعاليم الثورة: دون مبالاة لا بنفسه ولا ببيته وأطفاله.. مرتحلاً في سبيل الحق ومهاجراً في سبيل الله..‏‏
السيد والجنوب‏‏
للجنوب حكاية مميزة مع السيد الشهيد، حكاية خطّها قلم الجهاد، بحبر من عرقٍ ودم، حكاية الجسد الذي إذا اشتكى عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحماية..‏‏
كانت معاناة الجنوب جرحاً في قلب السيد، وكان لأرض أبي ذر الغفّاري مكانة مميزة في نفس الموسوي، لذا توجّه اليه قبيل الاجتياح الصهيوني، وتنقّل بين قراه الوادعة، للتبشير بولاية الفقيه.. ولاية الإمام الخميني، والدعوة الى إزالة الغدة السرطانية إسرائيل من خاصرة الوطن الكبير..‏‏
وعندما بدأ الاجتياح الغاشم، غادر السيد منـزله في بعلبك متوجهاً نحو بيروت ومنها الى الجنوب، حيث التقى في جبشيت بإمامها الشيخ راغب حرب، ونقل اليه التكليف الشرعي بأمر من إمام الأمة (قده)، ذلك التكليف الذي يأمر بمقاتلة إسرائيل في كل مكان وبكل الإمكانات والوسائل، وقد تلقى شيخ الشهداء ذلك التكليف بنفسٍ مخلصة مجاهدة، وعمل بمضمونه صارخاً بملء صوته: "الموقف سلاح.. المصافحة اعتراف"، ولم يهن، ولم يطأطئ الرأس أمام جبّار مزيَّف، واستمر كذلك حتى رحل مع قافلة الأبرار الذين باعوا أنفسهم ليشتروا الجنة.. وكان استشهاده (في 16-2-1984) دمعةً في قلب السيد، وحسرة في كبده، لكن الموسوي كان يؤمن بحزم بأنه في قافلة الشهادة ذاتها (وإن تأخر الرحيل)، وكان متقيناً بأنّ دماء المجاهدين ستتحول عواصفاً صاعقة على العدو..‏‏
توجّه السيد الشهيد الى الجنوب عام 1985 بعد تسلمه مسؤولية شورى الجنوب في حزب الله، وسكن في مدينة صور، وتحديداً بحي الرمل، وذلك في بيت متواضع ببنائه وأثاثه، في بيتٍ لا يختلف عن أي بيت من بيوت اخوته المستضعفين، وكان يقضي وقته مع المجاهدين الذين شرّعوا صدورهم للقتل باذلين في سبيل الله زهرات أعمارهم، وصار هؤلاء الاخوة مع الزمن أهل السيد وعياله، فاختلط بحياتهم.. بهمومهم.. أعطاهم عقله وروحه وعزم جسده النابض بالحق، كيف لا؟ والمقاومة هي عمر السيد.. لا همّ له سواها.. ولكم تمنّى عليه اخوته بأن لا يذهب معهم في المهمات الصعبة؟ وكم رجوه وقبّلوا لحيته الطاهرة أن يُحجم عن جموحه النبيل؟ لكنه (قده) كان يذهب بصمت ويعود بصمت.. دون تبجح او مبالغة.. فيقضي معهم ساهراً.. مرافقاً في الشعاب والوعور.. وف الجبال والوديان.. دون أن يؤثّر ذلك على واجبه الذي أوجبه على نفسه بخدمة المستضعفين، فقد فتح صدره لأبناء الجنوب بقلبٍ كبير وروح مصغية الى شكواهم، وكثيراً ما كان يردد أمامهم عبارته الشهيرة "بخدمتكم"..‏‏
لكن، وفي العام 1987، اضطر السيد لترك أرض الجنوب، لكن الجنوب بقي يعيش في قلبه، كيف لا؟، وهو الذي أحبّ أرضه، وعاش هموم أهله، وطالب برفع الحرمان عنهم..‏‏
السيد وانتفاضة فلسطين‏‏
إختزن قلب السيد هموم الأمة، وكان أكثرها ثقلاً همّ فلسطين.. فعاش الموسوي جراحات شعبها ومعاناة أهلها، وعذابات القدس ومسجد الصخرة وأزقّة الطهارة التي درج عليها الرسل والأنبياء (ع)، ولطالما أكّد (قده) في مجالسه على وجوب تنفيذ فتوى الإمام المقدس بإزالة إسرائيل من الوجود..‏‏
ويوم دعا الإمام الخميني (قده) الى إحياء يوم القدس العالمي، كان السيد عباس في طليعة المسيرة بلباسه العسكري، وقد شدّ جبينه الطاهر بعصبة الجهاد، وكُتب عليها: أدركنا يا مهدي..‏‏
وعندما سعى أعداء الإسلام لتفريق الشمل بين أبناء الجنوب والشعب الفلسطيني، حاول السيد بكل عزمه وإخلاصه للملمة الوضع المتأزم، وردّ سماحته سبب الفتنة الى إسرائيل وعملائها، وظلّ يعمل دون كلل لوأد الفتنة وإعادة اللحمة بين أبناء الصف الواحد..‏‏
السيد وهموم المسلمين‏‏
لم تقتصر اهتمامات السيد على شؤون المستضعفين في لبنان والمقاومة ضد العدو في الجنوب، ولم تتوقف عند حدود انتفاضة الشعب الفلسطيني في الداخل، بل تجاوز ذلك ساعياً الى إيجاد وحدة بقيادة العلماء المسلمين في العالم، وتشمل القوى التي تؤمن بقتال الاستكبار..‏‏
وهكذا، فإنه (قده) لم يتأخر أبداً عن تحمّل هموم شعوب وبلاد أخرى كالجزائر وباكستان وأفغانستان وكشمير، وأيضاً الجمهوريات المسلمة التي رزحت تحت حكم شيوعي لم يجلب اليها سوى الفقر والذل..‏‏
ولقد لبّى السيد الشهيد دعوة وجهتها اليه "حركة تنفيذ الفقه الجعفري" في باكستان ليمثّل حزب الله في مؤتمر كشمير الدولي (في إسلام أباد)، وكان سماحته على رأس الوفد وكله إصرار على الذهاب، رغم أن بعض الجهات الأمنية نصحته بعدم التوجه الى باكستان، لكنه توجّه واعتبر ذلك تكليفاً شرعياً له..‏‏
السيد الشهيد أميناً عاماً‏‏
تتويجاً لمسيرته.. انتُخب السيد الشهيد في أيار 1991 أميناً عاماً لحزب الله، وقد اعتبر سماحته هذا الاختيار تكليفاً وليس تشريفاً، وتخوّف (قده) أن يشغله ذلك عن معايشة هموم المقاومين، وعندما كانت الجموع تزحف للتهنئة، كان يقول لهم: "عزّوني ولا تهنّئوني، فأنا أطمح لأن أكون دائماً بين المقاومين ومع المجاهدين"..‏‏
وبالرغم من قصر المدة التي قضاها أميناً عامً (لا تتجاوز التسعة أشهر)، والتي انتهت بشهادته العظيمة، فقد تمكّن السيد من إنجاز الكثير من الأمور وعلى مختلف الصعد الاجتماعية والوطنية والسياسية والثقافية والإعلامية. وكان (قده) يعمل ليل نهار لأجل إعلاء كلمة الله، وقد مثّل (بطروحاته الموضوعية الواضحة وأسلوبه الواعي البعيد عن التشنج والمبالغة) وجهاً أجتماعياً وإنسانياً بارزاً كانت الحالة القائمة آنذاك بأمسّ الحاجة اليه، واستطاع أن يستقطب وجوهاً سياسية ووطنية واجتماعية كثيرة من رسمية وغيرها، وأن تسعى اليه شخصيات حزبية وسياسية لبنانية وفلسطينية، وأن تقصده وفود شعبية وعلمائية وعشائرية وفاعليات اجتماعية واقتصادية.. وكان السيد خلال تلك الفترة من توليه الأمانة العامة لحزب الله دائم التنقل بين المناطق: من الضاحية الجنوبية الى بيروت والجنوب والبقاع (حتى البقاع الغربي) والشمال، حيث تجوّل في الأحياء والأزقة المستضعفة واستمع الى شكاوى ساكنيها مردداً أمامهم عبارته المأثورة: "أنا بخدمتكم.. ولكن لي عندكم وصية حفظ المقاومة".‏‏
وخلال قيامه بمهمة الأمين العام، شارك السيد بمؤتمرات ومهرجانات ولقاءات سياسية واجتماعية وثقافية عدة، وكان من أهم خطبه فيها، تلك التي ألقاها في المهرجان الحافل الذي أقامته سفارة إيران الإسلام في بيروت (في حزيران 1991) بذكرى غياب الإمام المقدس، وأيضاً الكلمة التي ألقاها (في حزيران 1991) بالمؤتمر الذي أقامه تجمع العلماء المسلمين في فندق الكارلتون تحت عنون "روافد القوة في فريضة الحج" وكذلك كلمته في مؤتمر دعم الثورة الإسلامية في فلسطين والذي أقيم في طهران في شهر تشرين الأول من العام 1991، وكلمته أمام السفارة الأمريكية في عين المريسة خلال مسيرة الرفض لمؤتمر مدريد (في تشرين الأول 1991)، والكلمة التي ألقاها (قده) في المؤتمر الثالث لدعم الانتفاضة في فلسطين (كانون الأول 1991)، وكلمته في احتفال حزب الله بمنطقة الوزاعي لمساندة الشعب المسلم في الجزائر (في كانون الثاني 1992)، والكلمة التي ألقاها خلال جولته على بيوت المستضعفين في وادي أبو جميل اثر انهيار أحد المباني (في شباط 1992)، أما كلمته الأخيرة فكانت خطاب الوداع في جبشيت قبل ساعات من استشهاده (في ذكرى استشهاد الشيخ راغب حرب: في 16-2-1992).‏‏
وخلال الأشهر التسعة لتوليه الأمانة العامة، إنشغل السيد بهموم المستضعفين، ومنها الكارثة التي نتجت عن العاصفة الثلجية، فتخرّب الزرع والضرع، ومات الكثيرون من جرّاء تقصير الدولة اللبنانية تجاه المناطق المحرومة، كذلك تأثر سماحته كثيراً بانهيار مبنى في وادي أبو جميل، وكان ذلك نتيجة استهتار ولا مبالاة المسؤولين، وقد انسكبت دموعه المباركة عندما رأى تلك المأساة، وأثّر ذلك على صحته، ولكنه مع ذلك أصرّ على إحياء ذكرى صديق روحه ورفيق غربته الشيخ راغب حرب في قريته جبشيت، وكان يوم 16 شباط 1992 يوماً مشهوداً خالداً.. شهيدٌ يؤبن شهيداً.. شهيدٌ يلقي خطاباً في ذكرى شهيد.. مجاهدٌ يكتب آخر سطر في كتاب جهاده.. يؤبّن نفسه من خلال تأبينه لشيخ الشهداء.. يطلق من صدره أوجاع الأمة، ويلقي خطبة جامعة تتضمن وصيته.. وبعد الخطبة تجوّل السيد في أرجاء جبشيت، فزار عوائل شهدائها وأسراها، وبعض عائلاتها المستضعفة، ثم توجّه عائداً الى الضاحية الصابرة مع رفيقة عمره وطفلهما، وكانت عين الغدر ترصد خطوات الشهيد، ثم كانت نهاية جسد وولادة روح في شعب بأكمله.. إنها دماء كربلاء تتجدد لتصنع نصراً، أمّا النفس المطمئنة فترجع الى ربها.‏‏
في حياة السيد الشهيد‏‏
أيّ سرّ فيه.. هذا السيف الساقط ندى‍.. هذا الجاثم بعباءة الإيمان.. عى درب الحق.. عنق يلاحق المدى.. أيّ انبهار رائع يجذبك الى نهار عينيه.. الى استقطار الحقيقة من خافقيه..‏‏
سيد المقاومين والمقاومة..‏‏
كانت المقاومة غاية الغايات عند السيد الشهيد المتلفع ببردة الإيمان والمنضوي حرفاً سماوياً تخت راية الجهاد.. وكان السيد يعتبر المقاومة هي عنوان التحرير للأرض، وانّ عيون المقاومين الأبرار السارين تحت ستار الليل وفي وعور الشعاب هي التي ستنير ليل هذه الأمة التي تكالب عليها الأعداء لطمس وجودها وجعلها ملحقاً لهم.. وكان السيد يردد بفم القلب: المقاومة هي عنوان شرفنا وكرمتنا وثروتنا، وبالتالي هي حصننا الأساس في مواجهة الاختراقات الخارجية..‏‏
أدرك السيد بصفاء روحه ونقاء نفسه أن لا خلاص لهذا الشعب من العتمة المسيطرة على وجوده إلا من خلال المقاومة لمواجهة الأعداء المتربصين بغده والقابعين على رئتيه، والهدف هو إزالة إسرائيل من الوجود، وعليه فإنّ القتال يجب ان يستمر حتى تحقق ذلك الهدف..‏‏
كان السيد (قده) يعتبر أنّ المقاومة حركة جهادية إيمانية، وأنّ التخلي عنها هو من التخلي عن إيماننا، وأنّ المقاومة ليست فكرة سياسية أو حالة طارئة ، بل هي تكليف شرعي لا تتأثر بأي حال من الأحوال، وهي ليست في خدمة أي عمل سياسي، بل بالعكس، فالعمل السياسي يجب ان يكون في خدمة المقاومة، ومسألة المقاومة غير قابلة للمساومة، ولا يتصور أحد أن المقاومة ستتوقف او تتخلى عن دورها طالما هناك دم يجري في عروقنا..‏‏
وكان السيد الشهيد يعتبر أنّ المقاومة ينبغي ان تكون في الصدارة على مستوى الطرح، وانه لا يمكن لأحد أن يوقفها طالما إسرائيل موجودة على أرضنا، وانّ كل من يتخلى عن المقاومة هو عميل، وانّ أكبر جريمة تُرتكب بحق المقاومة هي محاولة تحجيمها عبر وسائل الإعلام والإشاعات والدعايات..‏‏
لقد أحبّ الشهيد الموسوي المقاومة والمقاومين، ورعاهم بقلبه وحنانه، وكان عندما يجالس شباب المقاومة الإسلامية يكبر فيهم اندفاعهم نحو التكليف الشرعي وتحملهم المسوؤلية بكل جرأة بين يدي الله بهدف تحرير أولى القبلتين، وكان (قده) يعتز بالتفاف الناس حول المقاومة التي هي بجهادها التعبير العملي عن شخصية الإنسان في جبل عامل.. "وعندما تكون كذلك: كيف يمكن فصلها عن الناس؟ وكيف يمكن الفصل بين الذات والهوية؟"..‏‏
"إنّ الأمة كلها مسؤولة أمام الله عز وجل عن الحفاظ على هذه المقاومة، لا سيما وانها ليست لطائفة أو جهة دون أخرى، بل هي ملك الأمة، لذا يجب على الأمة كلها ان تتحرك للمحافظة على المقاومة وضمان مستقبلها".‏‏
"إنّ كل المؤامرات التي تحاك ضد الأمة تنتهي عند إنجازات المقاومة الإسلامية التي هزّت إسرائيل وجعلت أبناء الأرض المحتلة يشعرون بأنّ الذين يتحركون في جنوب لبنان أقوياء رغم تواضع سلاحهم المادي وأنهم يمكن أن يكونوا مثلهم"..‏‏
إنها كلمات في المقاومة، لكن السيد لم يكتف بالكلمات، بل أعطى المقاومة كل فكره وعمره، وسار في قافلتها، ورحل ملتحقاً بشهدائها.‏‏
جندي في جيش الثورة..‏‏
وأتى العام 1979.. موسم الخير الإلهي.. وانفرجت شفتا السماء عن بسمةٍ لوجودٍ طافت في أجوائه الكآبة، انفرجت عن نهلةٍ لأرضٍ شقّقها الظمأ، وكان زمن الإمام الخميني المقدّس زمن ثورة وحياة لأمة، وصار دليلاً للمستضعفين في رحلة العمر وغربة الحياة.. صار خيمة وجود ظلّلت استضعافهم وعذاباتهم..‏‏
إنه زمن الإمام المقدّس، ذلك المارد الذي انطلق من قمقمه ليهزّ عرش الطاغوت دون اعتماد على القوة المادية، بل اكتفى بالقوة الإلهية وأعلن رفضه للشرق والغرب، وأن لا تبعية ولا استزلام..‏‏
ولقد كان السيد الشهيد من المجاهدين الأوائل الذين انضووا تحت لواء الثورة الإسلامية وفي طليعة تلاميذ ثورة الإمام، وكان من الداعمين لها بكل كيانه فكراً ولساناً وعملاً، ومن أشد المدافعين عنها والمتمسكين بنهجها ونهج قائدها وبخط ولاية الفقيه..‏‏
لقد أذاب السيد الشهيد نفسه في الإمام الخميني المقدس، وسار على خطى أستاذه الشهيد السيد حمد باقر الصدر الذي دعا الناس لأن يذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام..‏‏
وكان السيد يرى في شخصية الإمام المقدس ملامح من علي والحسن والحسين (ع)، وكان يرى في الجمهورية الإسلامية أفق الأمة، الأفق العزيز للإسلام ومنارة دربه نحو المستقبل الذي لا استكبار فيه ولا استضعاف، والذي يستنير بقبس الرسالة الإسلامية الذي أشعله الإمام الخميني بوقود روحه الخالدة وتعاليمه السامية..‏‏
من هنا، كان السيد الشهيد ينفخ الثورة في نفوس الشباب، ويعلّمهم الوفاء للإمام ونهجه وثورته العظيمة..‏‏
لقد كان السيد جندياً في جيش الإسلام الذي وضع نواته إمام الأمة، وتلميذاً قدوةً لثورته وتعاليمه، وشهيداً قضى وهو يعلي مداميك الثورة الإسلامية وفي سبيل قيام دولة الإسلام..‏‏
السيد الشهيد علماً وإعلاماً‏‏
"..نحن أمة تسعى على امتداد الوطن الإسلامي لأجل نهضتها والقيام من كبوتها، لذا ينبغي أن نتعرف أولاً على أسس وسبل النهوض التي يأتي العلم في طليعتها وأهم مرتكزاتها، فالعلم سلاح من يمتلكه يمتلك مقدّرات الحياة"..‏‏
تلك كانت نظرة السيد الشهيد الى ضرورة العلم ووجوب التعلّم مدركاً بسعة أفقه وبصيرته النيّرة أنه لا يمكننا النهوض من وهدة التخلف الذي بذره المستعمر في أرضنا إلا إذا اتخذنا العلم وسيلة ونبراساً يضيء ليالي أيامنا، ويذكّر (قده) بأنّ البلاد الإسلامية كانت منبع العلم والاختصاص في كافة المجالات، في وقت كانت فيه أروبا تغرق في جهل وظلام دامس، ولا زالت الى الآن كتب المسلمين تدرَّس في الجامعات الأوروبية، وإنّ حضارة أوروبا بدأت بعد غزو الصليبيين للعالم الإسلامي واستفادتهم من العلوم والجامعات الإسلامية التي وضعت لهم المعالم الأولى لحضارتهم الحالية..‏‏
السيد الشهيد كان يؤمن بأنّ العلم النظيف والإعلام الشريف الصادق يستطيعان السير بالبشرية نحو أسمى درجات التطوّر والرقّي، وقال سماحته بانّ أوروبا وأمريكا لا تحكمان العالم الآن بالقيم المعنوية لأنها أبعد ما تكون عنها) وإنما تُحكمان سيطرتهما على العالم بواسطة العلم الذي نفذوا به الى أقطار السموات والأرض ويستخدمانه بشكل شيطاني لقهر الإنسان بدلاً من تسخيره لخدمة الإنسان ولمصلحة البشرية، وجاء إعلامهم ليكمل تلك الحلقة الجهنمية محاولاً أن يقيّد بها أعناق الشعوب ويجرها كما القطيع السائب لخدمة غاياته ومصالحه..‏‏
ورأى السيد الشهيد أنّ على المليار مسلم وضع خطة متكاملة تتكامل فيها الثقافة وفي كافة مجالاتها مع السياسة والاجتماع، وبذلك نضع أولى خطواتنا في دروب التغيير الاجتماعي، وعندما تُضم المنابر القرآنية الى المنابر الحديثة (كالتلفزيون والفيديو) نستطيع عندئذٍ السير بالأمة الى درجات متقدمة، ويستطيع المؤمن بلوغ رسالات ربه بشكل سريع وصحيح..‏‏
واعتبر السيد الشهيد الإعلام من الوسائل المهمة التي يجب تبنيها شرط استنخدامها بطريقة اقتران القول بالفعل، لأنّ الإعلام عندما يتحول الى زخرفة وتشويش يصبح نفاقاً ودجلاً، وأكبر مثال ما أشاعه الحكام العرب عن انتصاراتهم في العام 1967، ثم أفاقت الشعوب وذُهلت أمام مرارة الهزيمة وشناعتها..‏‏
ويرى السيد الشهيد أنّ أخطر أمر يقع به العاملون في الإعلام هذا الكذب، والدليل واضح في الإذاعات ووكالات الأنباء المستأجرة أو المأجورة، وإنّ الكذب يتجسد في إعلام الحرب أكثر من غيره، لذا قال الإمام الخميني (قده) للوفود التي زارت الجمهورية الإسلامية: "قولوا لشعوبكم الحقيقة.. قولوا ما رأيتم فقط"..‏‏
هناك من يعتقد أنّ العمل الإعلامي يجب ان يكون من خلال أجهزة محددة، وهذا ما طالب به البعض، حتى على صعيد أن يكون السياسيون وحدهم قادة للناس، وبذلك حظروا على الأمة أن تراقب وتحاكم..‏‏
ويرى السيد الشهيد أنّه يجب أن يتحول كل شخص مسلم الى إذاعة، ليكون عندنا مليار جهاز متحرك في العالم، وبذلك ننشر الخبار بكل بساطة، وهكذا فعل التجار في الجزيرة العربية، حيث كانوا يحملون سلعهم ورسالتهم (القرآن ليدعوا الى الله، فمن قبل الدعوة باعوه سلعهم، وإلا رفضوا البيع..‏‏
وعندما يتحول كل مسلم الى مثقّف إعلامي، عندها نكون خير أمة أُخرجت للناس..‏‏
رأى السيد الشهيد أننا نعيش ثورة حقيقية على مستوى العالم، هذه الثورة التي وُلدت على يد الإمام المقدس، وهي ثورة اقتصادية وثقافية وفلسفية واجتماعية واجتهادية..، وانه يلزم لبناء أمة موحَّدة في مواجهة الاستكبار وشتى التحديات أن يكون الأساس التربوي والتعليمي يقوم على أساس الانتماء لتاريخنا وقرآننا، وأنه يمكننا مواجهة الشيطان الأكبر أمريكا من خلال إنشاء الأجيال وتعليمها التربية القرآنية التي تؤهلها لاحقاً لمواجهة كل قوى الشر والاستكبار (وليس أمريكا فقط)، وبناء دولة الإسلام العزيز القائمة على العدالة والمساواة.‏‏
الإشراق الخلاقي في حياة السيد الشهيد‏‏
هذا الصلب كصخرةٍ كتبت سِفر الأيام الخالية.. هذا الجاثم بعباءة الإيمان على درب الحق.. هذ السيف الساقط ندى.. هذا العنق اللاحق بالمدى.. أيّ سرٍ فيه؟.. أيّ انبهار رائع يجذبك الى نهار عينيه.. الى صحو عينيه المزهرتين كعيد.. المزغردتين بمحبة.. الكاشفتين عن عمق أعماقه وما في هذا العميق من طيبة وحنان وصلابة إيمان.. أيّ قلب بريء مترع بالحنان يملأ شغاف هذا الصدر النابض بالمحبة.. الخافق بالرحمة.. وأيّ كبر في هذا المارد بجهاده يجعله ينحني على يد شيخ أوينثني أمام طفل ليقبّل وجنته أو يداعب رأسه.. أو يمسح دمعة كرجت على خدّيه.. وأيّ دافع كان يحثّه على ترك رقاد الليل ليجول على عوائل عضّت نهاراتها ولياليها أنياب الفقر والحاجة يحمل إليها ما يقيم أودها أو يسد رمقها.. أو يتفقد أيتاماً تركهم معيلهم الى دنيا الحق ولم يبق لهم إلا الله ونفوس آمنت بالبرّ طريقاً الى مرضاته.. لقد كان رحمه الله جواب النداء اللاهف، وسكينةً للقلب الواجف.. أحبّ المساكين.. وعطف على الفقراء.. وعاش معهم.. عاش همومهم وأحزانهم وشقاءهم وحرمانهم.. كان شريكهم في الجرح وكان جفنهم في الدمع.. وكان صوتهم الصارخ المطالب بعدل الحاكم؟.. كان يرتاح لمعايشة أولئك الذين يشتاقون الى كسرة خبز ويمضون يومهم سعياً وراءها نظيفة شريفة.. وكان يسعى بكل أمانة لرفع الحرمان والشظف عنهم..‏‏
كان يعيش هاجس عائلات الشهداء.. يفكّر.. ويبحث.. ماذا عسانا نقدّم لأبناء أولئك الذين قدّموا أنفسهم وأرواحهم لله.. وكان يذهب إليهم في بيوتهم.. يتفقدهم.. أباً حنوناً.. وقلباً كبيراً.. ودمعاً سخياً يكتب سطور نبله على وجنتيه الطاهرتين..‏‏
كذلك كانت حاله بالنسبة لعائلات أسرى المقاومة، يزور أهاليهم.. يتفقد أحوالهم.. يسأل عن حاجاتهم.. ويسألهم الصبر الجميل.. وأنه لا بد من نهاية لهذا الليل الطويل.. وأنّ الفجر آت على ضوء تضحيات أبنائهم.. لم تلهه المسؤولية.. مسؤولية المنصب.. عن مسؤولية الضمير.. فهو أبداً يرعف إيماناً وينـزف تواضعاً، وكم مرة بكى لدمعة ثكلى أو شكوى يُتم.. وكم من مرة رآه الناس بين "جماعته" الفقراء والمستضعفين.. يحادث هذا ويسائل ذاك..ويمدّ حواراً إنسانياً.. أو حديثاً قلبياً مع بائعي الخضار على عرباتهم يسألهم عن أحوالهم ويشاركهم في مشاكل حياتهم..‏‏
لم يعش الموسوي في برجٍ عاجيّ بعيداً عن الناس وعن سماع أنّات قلوبهم وزفرات صدورهم، بل عاش بينهم وفيهم: يُفرحه ما يُفرحهم، ويُضنيه ما يُضنيهم.. عاش فرداً فقيراً بين أناس فقراء.. وأحبّهم وأدخلهم حنايا قلبه الخافق بحبّ الفقراء والمستضعفين. وكان احترامه للآخرين جليّاً يظهر في كل تصرفاته.. يظهر في حدبه عليهم.. وفي إصغائه لشكواهم.. في مؤاخاته لحالهم البائسة.. في محاولته التقليل (قدر الإمكان) من بأسائهم وتعاستهم.. وإزاحة الكوابيس عن صدورهم..‏‏
لقد استقى السيد تواضعه من معين أهل البيت (ع).. بيت جدّه رسول الله (ص).. فكان خير خلف لخير سلف.. ومثّل بمسلكيته الحياتية نهجهم واخلاقهم وامتداد النبوّة الكريمة في تصرفاتهم..‏‏
ويا أيها الضارب أبداً في الذاكرة.. الحاضر أبداً على جناح التذكّر.. الجباه التي لامستها يدك في ضرائها سرى فيها عنفوان إيمانك.. والدموع التي كفكفتها بأنامل رأفتك تحولت عزماً وتصميماً على المضيّ في متابعة طريقك وتنفيذ وصيتك.. بحفظ مقاومتك بالهدب.. بالقلب.. بمزق الشريان.. وفوح عبير الدم.. وإنّ القلوب الكسيرة التي أحييتها يوماً بتواضعك وزهدك بترف الحياة وغناها‏‏
ويا أيها السيد الشهيد: جسدك غاب، وروحك ما زالت راية كرامة وعنوان بقاء، وصوتك ما زال يهدر شلال إيمان وأخلاق لينهمر في ذواتنا طمأنينة وسكينة وبرداً وسلاماً..‏‏
الشهيد وهموم إسلامية‏‏
القلب الكبير كاتساع المدى.. كان فيه لكل همّ إسلامي صدى.. اتسع لكل أنّةٍ موجوعة.. ولكل آهةٍ زفرها شعب يتقلب على لظى الاستكبار.. ومن الفرادة التي تمتع بها السيد (رض) أنه حمل في كيانه نهر أحزان.. وشلال أسى.. يهدر كلما أصيب الجسم الإسلامي بخلل أو أصابته نائبة.. فهو الى جانب هموم وطنه وشعبه الكثيرة، تشعبت اهتماماته في كل مناحي الوطن الإسلامي.. وحيثما كان جرح يرعف تراه يهرع الى بلسمته بماء القلب الطاهر.. بدمعة العين السكوب.. لقد عاش مأساة شعب فلسطين مذ كان يافعاً.. بل وشارك عملياً في محاولة إزاحة كابوس الاحتلال أو على الأقل إقلاق راحته، وآخى بين جرح أهل الجنوب وجرح أهل الداخل الفلسطيني.. وعاش أيامهم.. عاش انتفاضتهم بكل كيانه.. بكل مشاعره المرهفة.. بكل إحساسه بوحدة الإنسان ووحدة المصير بين الشعبين الأخوين..‏‏
ولقد تجاوز (قده) باهتماماته شؤون وشجون شعوب المنطقة الى شؤون وشجون كل الشعوب الإسلامية والمستضعفة في كل صقع وبلد من جنوب أفريقيا وحتى الشرق الأقصى.. ولقد رسمت أحداث الجزائر غيوم حسرة وكآبة في اعماق قلبه الكبير، كما أنه لم ينس هموم مسلمي آسيا الوسطى، ومآسي وعذابات مسلمي كشمير المجاهدة..‏‏
كانت قضايا المسلمين خبز صباحه.. ووسادة ليله.. ليس بالقول فقط.. بل إنّ السيد كان يُقرن تعاطفه القلبي واللساني بالفعل والجهاد.. بوجوده في كل خندق إسلامي متقدم، وكان (قده) جندياً من جنود الإسلام في إيران خلال الحرب التي فُرضت عليها، وكان من المجاهدين الذين عاشوا عمليات الفجر قبل ان يُطلب منه العودة الى لبنان الذي يواجه مشاكل وتحديات تتطلب أن يكون السيد فيه اكثر مما يتطلبه وجوده في إيران الإسلام..‏‏
ولقد شارك (رض) بمؤتمرات إسلامية كثيرة في دمشق وطهران وإسلام آباد وألمانيا، وأقام علاقات مع القادة الثوريين الذين نشأت بينه وبينهم جسور احترام وتقدير، ومن هؤلاء العلامة الشهيد عارف الحسني (زعيم الشيعة في باكستان) والذي زار لبنان في نيسان 1988 حيث رافقه السيد في جولة على عدد من القرى الصامدة والعديد من ثغور المرابطة ومحاور القتال ضد العدو الصهيوني، ثم استقبل فيما بعد وقبيل استشهاده أحد أبرز علماء أفريقيا، وكان حديث طويل حول وضع مسلمي أفريقيا وضرورة تحريك كل الحوافز المكبوتة في مستضعفي الأمة لتنهض وتأخذ مكانها تحت شمس الوجود.. وكان السيد يعتبر أنّ مسيرة الإسلام هي قافلة من الفقراء والمعذبين يمشون حفاة عراة ولكنهم يرفعون آفاقاً جديدة للحياة يَرهبها الطاغوت ويخافها المستكبرون..‏‏
أما زيارته الى باكستان للمشاركة في مؤتمر كشمير، فكانت بدعوة من قبَل "حركة تنفيذ الفقه الجعفري"، وعندما أراد تلبية الدعوة نصحه المعنيون بعدم القيام بذلك، ولكن السيد أصرّ على التوجه الى هناك، حيث أقيم له استقبال حافل وأحيط باهتمام ملفت من قبل جميع المؤتمرين، وألقى السيد كلمة تناول فيها أهم قضايا الإسلام والمسلمين، وأشار الى أنّ على الشعوب المسلمة في كل مكان أن تقرر مصيرها وان يكون قرارها حراً وغير خاضع لأي ضغط أو مساومة أو ابتزاز..‏‏
زيارة السيد الى باكستان (في 21-3-1990) كانت مفاجأة إن لم نقل صفعة للاستكبار العالمي: لناحية أن يمتد حزب الله باهتماماته الإسلامية الى تلك البلاد، وعلى الرغم من المخاطر التي كانت تحيط بالزيارة، إلا أن السيد كان يعرف مسؤوليته بعمق أمام الله، ويدرك أنّ الصراع مع الاستكبار طويل ومرير، ولقد تبع نهح الأئمة الأطهار (ع) بإكمال المسيرة، وإن كان يعرف أنّ ثمنها الدم..‏‏
ثم قام السيد الشهيد بزيارة الى كشمير بدعوة من رئيسها سردار عبد الحي قيوم، فتفقد مخيمات المهاجرين في مظفر آباد، حيث اطلع على أوضاعهم وحثّهم على السير في دروب الله ومتابعة الجهاد: "لأن لا أحد يحرر لكم أرضكم سوى البندقية والدم.. ونحن بإذن الله معكم حتى آخر أنفاسنا"..‏‏
ولقد كان لقاء السيد بمجاهدي كشمير لقاء الثائر بالثائر، ففتحوا له صدورهم وبثّوه آلامهم، وعانقوا روحه، وعانق أرواحهم، قائلاً لهم كلمته المحببة التي طبعت شخصيته بطابع التواضع: "نحن بخدمتكم.. نحن لكم.. وقد جئنا للوقوف بجانبكم وتأيي دثورتكم ومؤازرتكم في وجه الطامع المحتل"..‏‏
إنه الهمّ الإسلامي الشامل يجعل السيد يقول نفس الكلمات ويقف نفس الموقف في كل الأماكن.. في لبنان.. في أهل ثورة الداخل.. في باكستان.. وفي كشمير..‏‏
ولقد وجّه (رض) قبيل مغادرته كشمير رسالة إذاعية الى الثوار تعهد فيها بنصرة قضيتهم التي هي قضية كل الإسلام، وتمنى عليهم أن يكونوا احراراً في ماوقعهم.. خلفاء الله على أرضه بالعزة.. لأن العزة هي الأساس في شخصية الإنسان المسلم.. وختم رسالته بالقول: "طالما كنتم مع الله فأنتم أقوياء.. وطالما اعتمدتم عليه فلن يكون لكم سوى النصر.. بإذن الله"..‏‏
بعد كشمير، قام السيد بزيارة أفغانستان، حيث التقى بزعمائها وقادة فصائلها المجاهدة، ودعاهم الى توحيد صفوفهم ليحققوا اهدافهم مردداً: "إنني أرى أنّ زيارتي الى باكستان مبتورة إن لم ألتق إخواني المجاهدين والمرابطين في أفغانستان ضد الاستكبار السوفياتي"..‏‏
وكان السيد قد عبر الى أفغانستان بالطريق التي يسلكها المجاهدون، وصلّى شكراً لله حين داس أرضها المجاهدة. والى جانب لقائه بالمجاهدين، زار السيد هناك قبور الشهداء وبعض معسكرات المجاهدين، حيث بثّ في نفوسهم روح الجهاد والرحيل الى الله عز وجل عن طريق الحق وفي سبيله..‏‏
ولقد غادر (رض) أفغانستان وقلبه مع ثوارها ودمعه على أيتامها وثكلاها..‏‏
سيد شهداء المقاومة‏‏
أيّ حلمٍ بالشهادة.. حُلم هذا الراكع في محراب الشهادة يعدّ أيامه.. يعدّ لياليه.. تلك الليالي التي كان يحييها بالصلوات اولدعاء ان يكرمه الله بالشهادة.. أن يجعله حرفاً من حروفها.. نبراساً.. قبساً مضيئاً في حلكة الأيام الغاصة بالعذابات.. الطافحة بالوجد.. بالشوق الى نهارات تشرق فيها الشمس وتغمر حقول القرى.. فيزهر الجو بالأرج العابق بالطمانينة والحرية.. ويتلاشى صوت البوم.. نعيقه الزاعق على روابي القرى وتلالها.. رصاصاً وفحيح قنابل مجرمة..‏‏
وكان السيد الشهيد يعرف ويدرك أنّ ذلك اليوم الذي يشرق فيه السلام على هذه الأرض المعذّبة ليس بعيداً.. وانّ كل شهيد يسقط في سبيل هذه الأمة.. وهذا الغد يكتب بدمائه جزئاً من كتاب الحرية.. وإنّ كل نقطة دجم تنتزف من جراح شهيد تطهّر الأرض.. بل وتعمّم حالة الطهارة والتحرير على كل الأمة.. وخصوصاً في أمة الإسلام العظيمة التي نفضت عنها هذه الأيام ثوب الذل عبر قيام اإلإمام الخميني (قده) وعبرعشرات الألوف من شهداء الإسلام في إيران وأفغانستان وفلسطين ولبنان وفي كثير من شعوب العالم الإسلامي كله..‏‏
نبيلٌ هذا الفداء، وعميقٌ هذا الصوت المتهدج.. الممتزج بالدمع كلما طرق السيد باب الحديث عن الشهداء..‏‏
إنه يعتبر أننا كامة إسلامية أحق من غيرنا بوقفات تأمل واستشراق أمام دماء الشهداء، وأن نقف بإجلال أمام بطولاتهم.. أن تدفأ نفوسنا بجمر دمائهم الفائرة من جراحهم، وأن نتخذ تضحياتهم مثلاً يحتذى وسيرة تقتدى.. وأن يبقوا في ذاكرتنا.. في ذاكرة الأمة كلها.. تستمد من بطولاتهم قبس المثابرة على السير دوماً وأبداً في دروب الكرامة.. والكرامة لا تأتي.. لا تكون إلا مجبولة بدماء الأبرار..‏‏
إنّ الفارق بين أمة ارتضت وحل الذل تمرّغ فيه كيانها وكرامتها وبين أمة سارت في معارج النصر وخطّت سيرتها في جبين السحاب، هو فارق معنوي.. فارق بمعنى الفهم العميق للحياة: بين أن تبني الحياة على وقع تشظي الأجساد الطاهرة.. وبين أن تسير مرحاً وبشكل أفقي ليس له أي سبر لصدر الأرض..‏‏
لقد تطلع (رض) دائماً نحو مآثر الشهداء ومنائر جهادهم، واعتبر إرادة المرء هي الأساس لتحديد مسار حياته، فالأمة التني تطلب الشهادة هي لا بد منتصرة وعزيزة.. وها هي أمتنا تعبّر عن إرادتها في إيران ولبنان وفلسطين بمستوى عالٍ ولتقول للمستكبرين: ناطحوا صخرة استضعافنا وستخسرون قرونكم بإذن الله.. وسنبقى..‏‏
لقد ملأ حلم الشهادة فكر الشهيد، وسكن في نفسه، فصارت هاجسه، وصار الشهداء رفاق خواطره.. يذكرهم كلما أصبح وأمسى.. ويدعو لهم بالسكنى في فسيح الجنان، بل ويغبطهم أحياناً لأنهم سبقوه الى هذه الكرامة التي رغبها وسعى اليها دوماً، وقد اعتبر (قده) شهداء ميدون و"الخزان" و"الحقبان" نجوماً شعّت في ليلنا الدامس فأنارته ورفعت فجراً من العزة والكرامة يعيش شعبنا ببركتهما دقائق وساعات وجوده..‏‏
الذكرى السنوية لاستشهاد شيخ الشهداء راغب حرب‏‏
السادس عشر من شباط من كل عام.. تاريخ يختصر التاريخ.. ومحطة تختزل الأيام السمان العجاف في آن..‏‏
وللتاريخ ذكرى. وللمحطة قطار ومسافات.. وما بين 16 شباط 1984 و16 شباط 1992 مسافة ما بين استشهاد الشيخ راغب حرب (شيخ شهداء المقاومة الإسلامية) واستشهاد أمين عام حزب الله السيد عباس الموسوي (سيد شهداء المقاومة الإسلامية)..‏‏
لكن صباح الأحد 16 شباط 1992 كان مختلفاً هذا العام، فالمقاومة الإسلامية التي روى غرسها سيخ الشهداء قد أينعت وأصبحت شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين والله يضاعف لمن يشاء.. وحزب الله انتخب أمينه العام للمرة الثانية وأصبح أكبر من الأيام وأقوى مما كان، فالسنوات الثمان كنّ سماناً، والذين أرادوا أن يطفئوا بأفواههم نور الله انطفأ نور بصيرتهم ليتم الله نوره ولو كره الكافرون..‏‏
وهكذا، حمل السيد الموسوي "الأمانة" ليقود المقاومة في مرحلة السلم الأهلي (كما قادها في مرحلة الحرب) باتجاه الاحتلال الجاثم على تراب الجنوب على مسافة كيلومترات من جبشيت..‏‏
ومع ذلك، أصرّ حزب الله على ان يكون احتفال الذكرى الثامنة لاستشهاد الشيخ راغب في قلب جبشيت، وذلك على مسافة أمتار من مرقد شيخ الشهداء، وأصرّ الأمين العام على حضور الاحتفال، كيف لا؟ وهو الذي اعتاد على الحضور في عمليات المقاومة، فهل يمكن لمن عاش مع المجاهدين في قلب مواقع الاحتلال ألا يحضر الى قلب جبشيت حيث قلب المقاومة وشيخ شهدائها؟..‏‏
ولم يكن الأمين العام وحده في هذه الأجواء، بل كانت جماهير المقاومة تستعد للذكرى المعلن عنها، وحينما حلّ الموعد، تقاطرت وفود الى جبشيت من كل حدب وصوب ملبيةً النداء، فجاؤوا من الجنوب وبيروت والبقاع متحدين إرهاب العدو وتهديداته في الأرض والسماء، وكان آخرها الكمين الليلي الإرهابي على طريق جبشيت-عدشيت، والذي كان يهدف لخطف قياديين من حزب الله، لكن المشيئة الإلهية كانت بالمرصاد، فأحبطت محاولة العدو وباءت القرصنة بالفشل..‏‏
لكن الأجواء الأمنية صبيحة ذلك اليوم لم تكن طبيعية، أو عادية كما في الأيام الأخرى، فقد قامت قوات الاحتلال بقصف عدد من القرى الجنوبية والمخيمات الفلسطينية، وزاد الوضع خطورة تحليق طيران العدو الحربي والاستطلاعي طيلة الليل وصبيحة النهار في أجواء الجنوب، مما أوحى للمراقبين أنّ شيئاً ما سيحدث..‏‏
صحيح أنّ قرى الجنوب اعتادت على مواجهة اعتداءات العدو بشكل يومي، لكن العدوان الصهيوني عشية ذلك اليوم بلغ ذروته..‏‏
وصحيح أنّ طائرات العدو يعرفها أبناء الجنوب ويتشاءمون منها، لكنهم لم يعتادوا على رؤيتها ليلاً والسهر والنوم والاستيقاظ على صوتها بشكل مستمر..‏‏
وعندما انتهى أحمد (إبن الشيخ راغب) من كلمته، وقف السيد الموسوي وصافحه مهنئاً، ثم سأله: "هل تريد شيئاً من والدك؟" فنظر أحمد الى السيد عباس وابتسم..‏‏
أما السيد الشهيد فكانت كلمته بمثابة "الوصية الأساس" التي حددها بـ"حفظ المقاومة الإسلامية"..‏‏
وقال سماحته: "سيعلم العالم أننا كما كنّا السبّاقين الى مقاومة الاحتلال، سنكون السبّاقين الى مقاومة الإهمال والحرمان والاستضعاف، إننا نعلن هذا الموقف بوجه الدولة اللبنانية، ونقول لها بصراحة: إذا لم تتحملي مسؤولياتك تجاه المناطق المستضعفة، وخصوصاً تجاه هذا الجبل جبل عامل، فسنحملها نحن من خلال هذه الجماهير، لأن هذا العصر هو عصر الشعوب، وليس عصر الدول، وإننا بالشعب الذي أسقط 17 أيار وأخرج إسرائيل ذليلة من لبنان سنحمل مسؤولياتنا وسنحمل راية الجهاد والمواجهة حتى تسقط هذه الدولة، وليكن ما يكون، لأن كرامتنا فوق كل كرامة وعزتنا فوق كل عزة"..‏‏
في الطريق الى الشهادة‏‏
إنتهى الاحتفال، وطائرات الاستطلاع لا تزال في الأجواء، ولكن الحضور بدل أن يتفرقوا (كما جرت العادة بعد كل احتفال: خصوصاً في هكذا أجواء) تحلّقوا حول الأمين العام، وتزاحموا على مصافحته أو رؤيته عن قرب (على الأقل)، فهو الذي عوّدهم على ان يكون واحداً منهم وبينهم، وهو الوحيد الذي يستطيعون بثّه شكواهم ليستمع اليها، وفي طليعتها تراجع الزراعة وصعوبة تصريف المنتوجات، وعدم شراء الدولة لمحاصيل التبغ الذي يعتاشون منه، وإذا اشترته فبأسعار زهيدة تزيد من خسارتهم..‏‏
كانت كل هذه الأمور عناوين أحاديث الناس مع أمين عام حزب الله، من حسينية جبشيت الى جنة الشهداء فيها، حيث زار معهم الشهداء وشيخهم، وقرأ الفاتحة معهم ماسحاً الغبار عن قبر الشيخ الشهيد بيده اليمنى ليمسح بها جبهته الشريفة..‏‏
ومن هناك الى منـزل شيخ الشهداء، كعادته في كل مرة يزور فيها "جبشيت" أو أية قرية أخرى، لا يخرج منها إلا بعد ان يزور شهدائها وعوائلهم، هكذا كان يوم زار "كفرا" قبل أن يصبح أميناً عاماً لحزب الله، وهكذا كان في ذلك اليوم بعد أن أصبح أميناً عاماً..‏‏
ومن منـزل شيخ الشهداء (حيث تناول السيد الشهيد طعام الغداء مع أسرة الشيخ)، انتقل (قده) الى بلدة الشرقية حيث منـزل أهل الشهيد أحمد شعيب، فبلدة كوثرية السياد التي ما أن خرج الموكب منها ليشرف على بلدة تفاحتا حتى كانت ثلاث طائرات استطلاع للعدو تتبع الموكب وتلاحقه..‏‏
استشهاده: النبأ العظيم‏‏
وينتبه أحد المجاهدين المرافقين للسيد لخطورة الوضع، فينبّهه للأمر، لكن الجواب يأتي مطمئناً من نفس مطمئنة: "أتخافون الموت؟.. من يريد الموت لا يهمه إذا كان الموت قريباً منه أو بعيداً عنه".. ويقطع الكلام دويّ انفجار هائل: مروحية "كوبرا" تحمل صواريخ حرارية حارقة تطلق صاروخاً غادراً يصيب سيارة السيد من الخلف، فيما قامت مروحية أخرى بالانقضاض على الموكب، وفي لحظة كانت سيارة (من نوع رانج روفر) تحاول حماية سيارة السيد، انتشر المجاهدون المرافقون في مواضع قتالية، فقاوموا الطائرات بما لديهم، وأصيب بعضهم، لكن مهمة الطائرات الأخرى كانت ملاحقتهم وعدم السماح لأي شخص أو سيارة بالاقتراب من الموكب، وعندما حاولت سيارة مدنية (صودف مرورها في المكان) الاقتراب، انقضت عليها طائرات أخرى، فتركها ركابها قبل لحظات من تدميرها، وتبين أنّ طيران العدو كان ينصب أكثر من كمين قرصنة في الجو، بحيث لو فشل الكمين الأول يقوم الكمين الآخر بالانقضاض، وذلك لتدمير أي سيارة تفلت من الكمين لاحتمال ان يكون السيد الشهيد فيها..‏‏
وهكذا، استمر العدوان قرابة العشر دقائق، اتجهت بعدها المروحيتان المكلفتان بالعدوان الى أجواء الشريط المحتل، وفي هذه الأثناء كانت سيارة مدنية تسارع الى المكان لبتنقل ما تيسر لها من مصابين وتتجه شمالاً نحو الزهراني، لكن إحدى المروحيات كانت تكمن لها وتنقض عليها بصاروخ دمرها وقتل سائقها المدني والجريح المصاب، ولم تغادرالمروحيات سماء المنطقة إلا بعد أن تأكدت من تدمير الموكب بشكل كامل وعدم نقل أحد منه، ومع ذلك سارع أهالي المنطقة الى المكان ونقلوا بسياراتهم الشهداء والمصابين الى المستشفيات وسط حزام من الدخان الكثيف الذي غطى سماء المنطقة حتى المساء..‏‏
كلمة أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في تأبين السيد الشهيد عباس الموسوي‏‏
"في نفس المكان، وأمام باب الحوزة التي أسّسها، والمسجد الذي كان إمامه، في مثل هذ الموقف الجلل، لا بد من كلمة ولا بد من موقف..‏‏
إنّ استشهاد الأمين العام بالنسبة لنا أمر متوقع في كل لحظة وفي كل يوم، وبالنسبة للسيد الشهيد أيضاً الذي كان على موعد مع هذا اللقاء، وكانت الشهيدة أم ياسر تدعو الله أن تستشهد معه، ومن الطبيعي أن يُقتل طفل أبي عبد الله الحسين (ع) ويمزَّق جسده، وليس من الطبيعي أن يموت إبن الإمام الحسين (ع) على الفراش..‏‏
عندما بدأنا طريقنا في المقاومة الإسلامية كنّا قلّة، بعضهم وصف هذه الطريق بطريق الانتحار، لكننا كنا نرى فيها طريق الشهادة والانتصار، واليوم نحن في معركة معنويات مع العدو الإسرائيلي الذي يتصور أنه من خلال اغتيال قادتنا وعلمائنا يستطيع أن يغطّي على المسيرة الجهادية في لبنان، لكن لا يمكن لهذا الأسلوب أن يُجدي نفعاً معنا، لأننا منذ كربلاء: القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة..‏‏
إنه القرار الإلهي، فالسيد حيّ فينا، وإذا استشهد هل نتراجع؟ هل نقبل بالصلح؟ هل نقبل بالذل؟ إذا تراجعنا هنا يكون ذلك هزيمة لنا.. أما عندما يستشهد السيد عباس وتغلي دماؤه في نفوسنا فإنّ القتل يتحول الى انتصار وتصميم على متابعة الطريق..‏‏
كونوا على ثقة بالله انه حافظ هذه الأمة وناصرها، لا أريد أن أتحدث عن التاريخ، فبالأمس رحل الإمام الخميني (قده)، لكن رحيله كان بالنسبة لنا ثورة جديدة، واليوم يوم قيامة حزب الله من جديد.. يوم قيامة المقاومة الإسلامية.. يوم التضحية والوفاء لدماء السيد عباس وكل الشهداء.. لا بإطلاق الرصاص، ولا بمظاهر ورثناها عن الجاهلية، بل الوفاء يكون في دعم الاخوة المجاهدين الذين يرابطون في هذا الطقس القارس على محاور المقاومة الإسلامية..‏‏
لن ننتقم.. فليس من منطقنا الانتقام.. فمعركتنا مع إسرائيل معركة وجود.. وسنقاتلها سواء اغتالت السيد عباس أم لم تغتله، إنها الغدة السرطانية التي يجب ان نقاتلها حتى تزول من الوجود..‏‏
وعهداً لكل الشهداء والمقاومين إنّ هذه الطريق سنكملها ولو اسشتهدنا جميعاً، ولو دُمرت البيوت على رؤوسنا، ولن نتخلى عن خيار المقاومة الإسلامية، وأؤكد لكم أنّ المستقبل هو مستقبل المقاومة الإسلامية.. لا مستقبل المفاوضات.. فما زلنا في عصر الإسلام والمقاومة كما شاء الله والقائد الخامنئي أن يسمي هذا العصر بأنه "عصر الخميني، وليس عصر أمريكا"..‏‏
نعاهد إمامنا الحجّة (عج)، والإمام الخميني، وأميننا العام الشهيد، أننا سنكمل الدرس، وستعلم إسرائيل أنها ارتكبت أكبر حماقة في تاريخها عندما أقدمت على اغتيال السيد عباس الموسوي.‏‏
صور من الذاكرة: بقلم أمين عام حزب الله سماحة اليد حسن نصر الله‏‏
فكّرتُ مليّاً ماذا أكتب عن أستاذي الشهيد وكيف؟ ولعلّ قيمة ما أكتبه أنا أو إخواني ممن رافقه وعاش معه أنه شهادة عن قرب ومعرفة ندوّنها لتبقى شاهدة على عظمة رجل كان المربّي والمعلّم والمرشد والقائد والقدوة، وفي نهاية المطاف سيد شهداء مسيرة وحركة جهاد يفتخر بها إمام الأمة الخميني (قده) ويعتزّ بها سماحة القائد وكل مجاهدي الإسلام في العالم.‏‏
إنّ شخصية الأستاذ الشهيد السيد عباس الموسوي (رض) جديرة بالدراسة المنهجية لتقدَّم كنموذج راقٍ في العطاء والتضحية والأبوّة والشجاعة والثبات والصمود، وكقدوة لكل مجاهد من القيادة الى القاعدة، إلا أنني فضّلت أن أكتب عن أستاذي على طريقة السرد لوقائع علاقة عميقة كما حصلت بعيداً عن المنهجة والتحليل، لعلّ حديثي يكون من القلب ليقع في القلب.‏‏
بداية المعرفة‏‏
في شهر كانون الأول من عام 1976 م كان لي شرف الالتحاق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف ومن بين طلابـهـا كان لي صديق واحد أعرفه قديماً وهو الأخ الشهيد المظلوم الشيخ علي كريّم (رحمه الله تعالى)، وكنت أحمل معي مجموعة رسائل الى عدد من علماء الحوزة، وفي مقدمتهم الإمام الشهيد السيد الصدر (قده).‏‏
وفي تلك الفترة كانت الظروف الأمنية اولسياسيةالتي تحيط بالإمام الشهيد الصدر قاسية نوعاً ما، فكان المتردد لزيارته يحسب لذلك كل حساب..‏‏
كنت أبحث عمن يأخذ بيدي الى الإمام الشهيد لأسلمه الرسالة، وبها كان يرتبط مصيري وطريقة حياتي في النجف الأشرف..‏‏
قال صديقي الشيخ علي: "أنا أدلّك على أحد تلامذته ومقربيه وأهل الثقة عنده، وهو لن يتردد بمصاحبتك الى منـزل الإمام الشهيد"..‏‏
كان الدليل لي من اليوم الأول في النجف هو السيد عباس الموسوي، التقيته أمام منـزله، وعرضت عليه أمري، فوافق بسرعة، وقال: "لنذهب الآن"..‏‏
لم أره من قبل، ولسُمرته المعروفة ظننته عراقياً، وحاولت أن أتحدث معه بلهجة خاصة، فضحك وقال لي: "أنا لبناني من بلدة النبي شيث البقاعية"..‏‏
وصلنا منـزل الإمام الشهيد بدون موعد مسبق، وأذن لنا بالدخول ما دام الزائر هو السيد عباس، وجلسنا في مكتبة الإمام الشهيد الذي استقبلنا بكل حب وتواضع، قرأ الرسالة وأقبل عليّ يسألني عن لبنان وع نالعمل الإسلامي، بعدها التفت الى السيد عباس وقال له: "إنّ هذا السيد (يقصدني انا) هو أمانتي عندك، وأنت مسؤول عن دراسته وتربيته وجميع شؤونه".. وأعطاه مبلغاً من المال لشراء اللباس والكتب وما شاكل. ومن تلك اللحظة كان السيد عباس هو الأمين عليّ، وبدات علاقتي معه كتلميذ بأستاذ وكولدٍ بأبيه وخصوصاً عندما يكون الطالب مثلي في سن صغير وفي بلد بعيد عن الأهل والأقارب..‏‏
لكني أشهد الله تعالى أنّ السيد الشهيد منذ ذلك اليوم كان يتدفق حناناً عليّ عطفاً بي واهتمامً شديداً، إلا أنه لم يُشعرني في يوم من الأيام إلا أنه الأخ الناصح والزميل المخلص، بعيداً عن كل حسابات "الأستذة" والقيمومة. ومن خلال العلاقة التي امتدت أكثر من ستة عشر عاماً، أستطيع أن أقدّم صورة مختصرة عن شخصيته العظيمة في جوانب عديدة:‏‏
الأستاذ المخلص‏‏
جرت العادة في الحوزة العملية (وما زالت) أن يلتحق الطالب بمجلس درس لأحد الأساتذة في أي علم يشاء، يلقي الأستاذ محاضرته، أو يشرح مقاصد الكتاب المختص، وينتهي دوره عند هذا الحد، فليس من المعتاد ان يباحث طلابه، أو يمتحنهم يومياً أو كل مدة، أو يتتبع حضورهم وغيابهم وما شاكل، ويطغى على بعض الأساتذة همّ الاستفادة العلمية الشخصية من التدريس كتركيز المعلومات وتعميق الأفكار المطروحة في البحث لديه أكثر من همّ تعليم وتنشئة هؤلاء التلامذة، ثمّ هناك مشكلة التعطيل الأسبوعي والموسمي والمناسبات الكثيرة..‏‏
فمنذ بداية الدراسة، تشكلت مجموعة من الطلاب ارتبطت بعلاقة مميزة مع الأستاذ الشهيد السيد عباس، وبدأنا دراسة المقدمات، وكان يمتحننا ويسألنا بشكل دائم، ولقد فرض علينا أن نكون جديين جداً في اجواء يعيش فيها كثير من طلبة العلوم حالة التساهل وعدم المسؤولية، وكان يتفقدنا، ويتابع حل مشاكلنا الشخصية، وقد مضت مدة طويلة لا نعرف تعطيلاً حتى في حر الصيف في مدينة النجف، ثم أنه أوجد لنا أجواءً ثقافية متنوعة إضافةً الى الدروس الحوزوية التقليدية المتبعة، وكان دائماً يقول: "يجب أن نصبح العلماء اللائقين بحمل هذه الرسالة الإلهية والدفاع عنها في كل المواقع".. وهكذا على امتداد سنوات الدراسة والتحصيل..‏‏
المعلّم المربّي‏‏
إنّ الأستاذ الشهيد لم يعقد لنا جلسات أخلاقية على ما أذكر، ولكنه كان أستاذاً للأخلاق بكل ما للكلمة من معنى: بسلوكه وتعاطيه وتفانيه وعطفه وحنانه، لم يقتصر في العلاقة مع الطلاب على الجانب العلمي الحوزوي البحت، وغنما كان حريصاً جداً على تقوى هؤلاء الطلاب وتديّنهم والتزامهم العملي والخلقي، كان المرآة الصادقة لهم، يحدّثهم بالسرّ عن أخطائهم وضرورة تصحيحها، ويأخذ بأيديهم سواء السبيل عندما تتفرق السبل.‏‏
الرجل العابد‏‏
كان السيد الشهيد حريصاً جداً على التزام الواجب وتجنب المعصية، وكان من أهل العبادة والنافلة وقيام الليل والمداومة على زيارة المشهد المقدس لأمير المؤمنين (ع) وبقية المشاهد المشرفة في العراق، وقد كان يشجّع طلابه على هذا السلوك، حتى أنه في العام 1977 م أخذهم معه في زيارة أربعين الإمام الحسين (ع) مشياً على الأقدام من النجف الى كربلاء مع حراجة الظروف القائمة في ذلك الحين، والى حين استشهاده كان رجل الدعاء والبكاء والصلاة وقيام الليل وصاحب القلب العاشق لرسول الله وآله الأطهار (ص)..‏‏
العالِم الرسالي‏‏
كان السيد الشهيد يحمل همّ الرسالة وهموم الأمّة.. يتألم للواقع السيء، ويحلم بمستقبل الإسلام الآتي، لمت كن رغبته بالدراسة ذات نشأ عائلي أو طموح شخصي وغنما كان الدافع رسايلاً بالكامل، كان يوفّر مبلغاً من راتبه البسيط في النجف ليأتي كل عام الى بلدته ويقوم بمهام التبليغ فيها وفي المحيط، وكانت نفقات رحلة العناء هذه كلها من خبز زوجته واطفاله، وبعد انتهاء المهمة يعود سريعاً الى مدرسته وطلابه، فليس عند السيد عباس وقت للترف أو السياحة، لقد كانت حياته المباركة كلها جهاداً وجدية ومثابرة، وكم كان وصف سماحة القائد (حفظه المولى) له دقيقاً عندما قال: إنه لا يعرف الكلل والملل..‏‏
لقد سعى (رض) جاهداً ليبثّ هذه الروح الرسالية في نفوس طلابه ورفاقه من النجف الى المدرسة الدينية في بعلبك، وعلى طول طريق الجهاد الدامي حتى الشهادة.‏‏
مع القادة‏‏
منذ عرفته في النجف الأشرف، كان قد اتخذ من الشهيد العظيم السيد الصدر (قده) إماماً وقائداً ومرجعاً، تربطه به علاقة حب كبير وإخلاص عميق وفناء تكاد لا تشعر فيها بوجود شخصه، وبعدما أطلّت شمس الإمام الخميني (قده) على أمتنا الإسلامية وتعرّف المسلمون عليه ودعاهم الشهيد الصدر الى الذوبان في قيادته كما ذاب هو في الإسلام، أصبح الإمام الخميني (قده) يشكّل للسيد عباس ولي الأمر المطاع، يفتديه بروحه، ويقبّل عنده الأعتاب، ويتعبّد بإشارته، فكيف بالكلمات أو الأوامر؟..‏‏
وهكذا كانت سيرة السيد عباس (بعد رحيل الإمام) مع سماحة سيدنا القائد آية الله السيد علي الخامنئي (حفظه المولى)، فالعلاقة مع القيادة الشرعية كانت تقوم عند السيد عباس على أسس نظرية وشرعية واضحة تترسخ في الفكر وتتعمق في العاطفة وتتجذر في الالتزام الدقيق لتنتج في نهاية المطاف أعظم شهادة تحت راية ولي من أولياء الله تعالى ونائب من نواب الإمام الحجة (عج)..‏‏
مع الناس‏‏
أحبّ السيد عباس (رض) الناس، وأخلص لهم، فكان مبلّغاً من منبر الى منبر، ومن قرية الى قرية، وخادماً يرعى آلامهم، ويضمد الجراح، وترابياً متواضعاً يعيش مثلهم ومعهم، يتحدث بلغتهم البسيطة الطيبة بعيداً عن تعقيد المصطلحات، يُقبل عليهم بالابتسامة الطيبة ويعانقهم بالمودة الصادقة، يوقّر الكبير ويحترم الصغير، ويصغي لهم دون تأفف أو ملل، يُحزنه ما يصيبهم، ويُفرحه ما يُسعدهم، قريب من القلوب.. بل ساكن فيها.. بل مالك لها.. لذا أحبّوه وأخلصوا له. لقد كانت سمة التواضع والترابية على ما أعتقد أعظم ما في السيد عباس وسرّ الحب الكبير الذي حمله الناس له، حتى كان لاستشهاده وقع الفاجعة.‏‏
لقد كان في أيامه الأخيرة التي تصدّى فيها لمسؤولية الأمانة العامة رائداً في خدمة الناس وتبنّي قضاياهم، لقد استطاع بفعل شخصيته المميزة أن يثبّت خط الالتصاق العاطفي والفكري العميق بين حزب الله والأكثرية الساحقة من المعذبين والمسحوقين والمستضعفين في لبنان.‏‏
مع قضايا المسلمين في العالم‏‏
كان السيد عالميّ الهموم والآلام والطموح والتطلعات، يتتبع أخبار المسلمين في كل مكان، ويتفاعل معهم، يقلق ثم يقول: "تعالوا لنرى ماذا نفعل".‏‏
شارك في الجبهات في إيران، وزار باكستان وكشمير وأفغانستان، وكان شديد الحب للمجاهدين وللحركات الإسلامية في العالم، وسعى بكل جدّ لوحدة حقيقية بين المسلمين، وكان يتمنى لو يمكن له أن يتواجد في كل الساحات والجبهات، كان قلبه وأمله وطموحه أكبر بكثير من حجم الإمكانات والظروف وعمر الشباب..‏‏
مع المقاومة الإسلامية‏‏
وهنا المنبر والمحراب والمعبد اولمسجد، وهان يصبح السيد عباس إنساناً آخر، كانت المقاومة كل همّه، كيف يؤسس لها؟ كيف تستمر؟ وكيف تتصاعد؟ وكيف تصبح أمة تقتلع الوجود الإسرائيلي من الجذور؟ لقد أعطاها الكثير الكثير، وأعطاها أخيراً دمه الزاكي ليبقى الملهم والشاهد والشهيد..‏‏
وأخيراً مع العائلة‏‏
هو أب كامل وزوج يجسّد معاني الإسلام في الحياة الزوجية، وماذا أقول عن الزوجين الذين تشاركا حمل المسؤولية وآلام الجهاد من النبي شيث الى النجف، وبعلبك، ثم الى الجنوب، ونهايةً في جبشيث، ونهاية النهاية في النبي شيث..‏‏
إنّ الحصول على شرف الشهادة الرفيعة للسيد ولأم ياسر ومعاً دليل كافٍ على طبيعة وعظمة العلاقة التي كانت تربط بين رساليين ومجاهدين وعاشقين لله ومخلصين لبعضهما الآخر..‏‏
سيدي أبا ياسر.ز في ذكراك الأولى نفتقد منك الجسد، ولكن روحك أشد حضوراً وأقوى فعلاً، ها هي مسيرتك تلتصق بشعبها أكثر كما أحببت، تكمل حمل راية الإسلام.. تبلغه ولا تخشى إلا الله كما فعلت.. تملأ قلوب الصهاينة رعباً وأرض الجهاد دماء شهداء كما أوصيت.. ها هي دماؤك سيدي تزهر في كل مكان مجاهدين وثوّاراً ومبلّغين ونوّاباً وأجيالاً منذ الصِغَر تهتف باسمك يا عباس، ها هي كلماتك أصبحت رمزاً وشعاراً ومبادئء نسمعها حتى من أفواه الأطفال، ما غيّبك الموت ولا تناثر الجسد، فانت الحاضر أبداً فينا، وهل يمكن أن يفصل أحد بين الحزب واسمك؟‏‏
نعي سماحة القائد الإمام الخامنئي للشهيد السيد عباس، شهر شباط 1992‏‏
ببالغ الأسف والألم العميق تلقينا نبأ استشهاد المظلوم العلامة المجاهد الذي لا يعرف الكلل والملل ، والقائد المضحي لحزب الله في لبنان حجة الإسلام السيد عبــاس المـوسوي وزوجته ونجله اثر الغارة الوحشية الجبانة للصهاينة المحتلين والذي نال درجة الشهادة الرفيعة ..‏‏
رحمــــة الله على هـذا العالِم الرباني الشجاع والمخلص والواعي .. ولعنة الله وعباده على جميع الصهاينة الـمـجــرمين الذين لايتورعون عن ارتكاب
10-01-2008 | 11-11 د | 165 قراءة





سيرة شيخ شهداء المقاومة الإسلامية الشهيد راغب حرب

من مسقط رأسه في جبشيت، فبيروت، مروراً بالنجف الأشرف، فطهران، وانتهاءً بشهادته المدّوية، ظل الشيخ راغب (رضوان الله عليه) ملجأ المؤمنين، وحضن المقاومين.
حياته القصيرة، تروي حكاية العاملي الذي لا يهدأ، والرسالي الذي لا يلين..
حياته كشهادته، صاخبة هادرة تملأ أسماع الزمان والمكان، وتختصر حياة الإنسان المتمرد، الطامح دوماً نحو الحرية والعدالة والكرامة..
فمن هو هذا الشيخ الشهيد؟!
وكيف عاش حياته؟!
هذا ما ستلخصه لنا، هذه الصفحات القليلة..
مولده
ولد الشهيد السعيد الشيخ راغب حرب، في صيف حافل بالعمل والنشاط من عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين للميلاد، من أبوين كادحين، عاشا فوق ثرى جبل عامل، وعلى أرضه الطاهرة، وراحا يزرعانه خيراً وبركة ويسقيانه بعرق الجبين..
تميّز الأبوان بتمسك قويّ بمبادئ الدين الحنيف، والتزام أصيل بتعاليمه السمحاء..
ترعرع ونما في كنف هذه الأسرة الطيبة، فتنسّم في أجوائها عطر الرسالة، وتنشق عبير الإيمان، فنبتت في أعماقه أروع الخصال وأجمل السجايا".
طفولته
لم يكن عهد الطفولة الطري، ليشده إلى اللهو والعبث كسائر أترابه الصغار، الذين استرسلوا في لعبهم ولهوهم، بل كان يأنف ومنذ نعومة أظفاره، الحياة اللاهية العابثة، وكأنه كان يفكر فيما ينتظره في المستقبل من مهام كبيرة ودور عظيم..
في السابعة من عمره، دخل المدرسة الرسمية في بلدته جبشيت، ليتلقى فيها علومه الأولى، ثم توجه بعدها إلى منطقة النبطية لمتابعة المرحلة التعليمية المتوسطة، غير أنه لم يجد في تلك البرامج التعليمية ما يلبي طموحه، وينسجم وروحه المتوثبة، فترك المدرسة وفي أعماقه شوق كبير إلى طلب العلوم الدينية التي كانت حلماً يراود مخيلته، وأمنية عزيزة يسعى إلى تحقيقها..
الانتقال إلى بيروت
في أوائل العام 1969 غادر الشيخ بلدته إلى بيروت، مستوطناً فيها لطلب العلم، وهناك أخذت أحلام الصبا، والآمال والأماني التي كان يضج بها قلبه، تتحقق شيئاً فشيئاً، إنه الآن قريب مع من أحبّ من العلماء، يتعلّم منهم، ويتربى في ظلالهم، وهو قريب مع من أحبّ من المؤمنين، يشاركهم مجالس الحوار، ويحيي معهم شتى الاحتفالات والمناسبات التي ألهبت حماسه وزادت من اهتماماته، والتي ساهمت في تفتح آفاقه، وتوسيع مداركه، وهو بعد سنة عاشها في مسيرة العمل الإسلامي، كان يتطلع إلى النجف الأشرف بشوق وشغف، وحنين كبير إلى حوزاتها العلمية الرحبة الآفاق.. المزدحمة بألوان العلم والنشاط.
في النجف الأشرف
وهناك، عاش في مدارسها، لينهل من معينها، ويرتشف من ينابيعها العذبة، ويتتلمذ على أيدي أساتذتها الكبار، مهيئاً نفسه للعمل في خدمة الرسالة، مبلّغاً أحكامها، ناشراً تعاليمها، وهو مع إقباله الكبير لتلقي العلوم الدينية وميله نحوها، إلاّ أن عينيه كانتا ترمقان من بعيد الساحة اللبنانية، ومستقبل العمل الإسلامي فيها، فيتصل من هناك بإخوانه المؤمنين مستكشفاً أوضاعهم، ومطلعاً على ما يعانونه من شؤون العمل الإسلامي وشجونه..
وقد عاد الشيخ إلى لبنان لزيارة أهله وأصحابه، ثم قفل راجعاً إلى النجف ليتابع علومه، إلاّ أنه في هذه المرة، لم يلبث سوى سنة ونصف، حتى عاد عام 1974 بعد أن أسفر النظام في العراق عن حقد دفين على المؤمنين والعلماء فطاردهم وشرّدهم وزج عدداً كبيراً منهم في السجون..
العودة إلى جبشيت
عاد إلى مسقط رأسه في جبشيت، في وقت كانت فيه طروحات اليسار، وشعاراته ومفاهيمه تغزو المنطقة بأسرها، وتت
لبيك يا حسين

أضف رد جديد

العودة إلى ”مجلس الشخصيات الإسلامية“