تساؤلات حول نظام الكون (لماذا مات أحمد؟)

هذا المجلس للحوار حول القضايا العامة والتي لا تندرج تحت التقسيمات الأخرى.
أضف رد جديد
عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

تساؤلات حول نظام الكون (لماذا مات أحمد؟)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

بسم الله الرحمن الرحيم

تساؤلات حول نظام الكون "لماذا مات أحمد؟" (بحث تأجل نشره منذ 2007 لأسباب كثيرة)

اطلعت على موضوع نُشر في المجالس بعنوان "لماذا مات أحمد؟" حيثُ تطرح أحد الأخوات الكريمات في هذا الموضوع مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بالموت وترتبط بعديد التساؤلات الفكرية التي ظهرت مؤخرا على الساحة، وهي استفسارات هامة تدور في الأذهان وإن لم تُطرح علنا.

وإن كان الانطباع الأول الذي خرجت به من قراءة تلك الخواطر الأنيقة - بعد أسف الكاتبة لفقدان الشهيد أحمد الذي قضى وهو يحاول إنقاذ غيره - هو أن تلك الخواطر هي لإنسانة متواضعة تؤكد مقدما أن صدرها رحب لأي توضيح أو تصحيح، وعادة ما يكون التواضع سمة العظماء ومرقاة الباحثين والحكماء، فبارك الله فيها وفتح لها ولنا أبواب الحق والخير.

أما عن موضوع الأسئلة فقد حاولت في البداية أن أستقرئ المراد العام منها وهو كما فهمته "تساؤلات عن الطريقة التي يدير بها الله شؤون الكون والعباد" ثم شرعت لتوضيح هذا المراد العام عبر مقدمة لبيان الخلفية التي قد تكون هذه الأسئلة انطلقت منها في القسم الأول، ثم في القسم الثاني كتبت إجابة عن كل سؤال من أسئلة الأخت الكريمة والتي بلغ عددها ثلاثة عشر سؤالا حتى وإن تسبب ذلك في بعض التكرار - لتداخل مواضيع الأسئلة - ثم انصرفت في القسم الثالث منها إلى طرح بعض الأسئلة العامة التي يطرحها الآخرون بشأن "النظام العام للكون" بما تتضمنه من تساؤلات حول الموت والآلام والمعاناة والابتلاء والرحمة لأن هذه الطائفة من الأسئلة هي التي تتولد منها الكثير من الأفكار والإشكالات فكان لا بد من المرور عليها، أدعو الله أن يوفقني وأن يلهمني الصواب.

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: تساؤلات حول نظام الكون (لماذا مات أحمد؟)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

صلوات الله على سيدنا محمد وآله، توكلت على الله رب العالمين:

القسم الأول: مقدمة لبيان الخلفية التي قد تكون هذه الأسئلة انطلقت منها:

إن التساؤل حول الطريقة التي يدير بها الله الكون قد تنطلق من إحدى خلفيتين،، إما خلفية احتجاجية كأن تقول لأخيك حين يكسر شيئا ثمينا عندك: لماذا فعلت هكذا؟! وإما خلفية استفسارية تريد بها أن تعرف ما لم تستطع أن تستوعبه، والخلفية الاستفسارية بدورها قد تأخذ إحدى صورتين،، إما خلفية استفسارية بسيطة تريد وصفا معينا لما تسأل عنه وتكتفي بذلك الوصف ولا تطلب المغازي والدلالات والفوائد والأعماق لأن المطلوب عندها هو مجرد الوصف لمسألة لم تتصورها من قبل كأن يسأل أحدهم: ما هي النظرية النسبية لآينشتاين؟! فالسؤال هنا لا يراد منه الاستفسار عن الأسباب التي دفعت بآينشتاين إلى إخراج نظريته الشهيرة بل تريد أن تصف لها النظرية مجرد وصف، وأنت حين تصف النظرية للسائل فقد أجبته إجابة مطابقة لمراده ورافعة لالتباسه وشافية لنفسه.
وإما خلفية استفسارية عميقة أو فلسفية تريد فهم المغازي والدلالات والفوائد والأعماق لما تسأل عنه فلا تتساءل عن الأوصاف فمن الممكن أنها تعرفها أصلا بل تريد أن تعرف الأعماق ومثالها أن يسأل أحدهم: لماذا توصل آينشتاين لنظريته وماذا كان يبغي منها وما هي أبعادها؟! فهذه الطريقة في التساؤل هي ذات خلفية استفسارية فلسفية تنفذ من الأوصاف إلى الأعماق وغالبا ما يكون ذلك بسبب إلمامها بالأوصاف.
فإن صح هذا التقسيم وطبقناه على مسألة "الطريقة التي يدير بها الله الكون" فإن لكل خلفية من تلك الخلفيات جوابا يليق بها، فمثلا الخلفية الاحتجاجية هي لا تستفسر بل تحاول استفزاز الله والمؤمنين لعل المعطيات التي أدت إلى انفعالها تتغير، فالجواب عليها يكون بتهدئتها وتذكيرها بتفاهة الحياة الدنيا وأنها مجرد دار ابتلاء سرعان ما تزول بسرائها وضرائها وهمها وغمها وسرورها ونعيمها وكل من عليها فان وأن الانفعال فيها مهما كان عميقا فلن يؤدي إلى استفزاز الله ولا إلى تغيير سننه وأن الإدراك البشري لا يساوي شيئا بالمقارنة مع حكمة الله وعلمه وألطافه، فإن لم يقبل هذه الإجابة فهو بائس قطعا ولا دواء له إلا الرجوع إلى العقل والصواب ولن يضر إلا نفسه فلن يضر الله شيئا ولن يغير من واقع الكون إلا أنه جعل نفسه شخصا مكتئبا ساخطا مليئا بالسلبية.
أما الإجابة عن تساؤلات "الطريقة التي يدير بها الله الكون" انطلاقا من خلفية استفسارية بسيطة فهي تحتاج إلى مجرد وصف لهذه الطريقة فيقال لها: قد قال الله كذا، وقد حكم الله بكذا،، فيكون هذا الجواب كافيا شافيا ولا تحتاج بعده إلى أسئلة من قبيل: ولماذا خلق الله الألم وكان بإمكانه أن لا يجعلنا نتألم؟! أو من قبيل: ولماذا سن الله سنة الموت وفيها عذاب للناس؟!
أما الإجابة عن تساؤلات "الطريقة التي يدير الله بها الكون" انطلاقا من خلفية استفسارية فلسفية – كالأسئلة سالفة الذكر في السطر فوق هذا – فهي تحتاج إلى إجابات تنطلق من الأوصاف لتنفذ إلى الأعماق وتعرف وجه الحكمة والفائدة والمصلحة لكي تجد سكونا وطمأنينة وشفاء لما يعتريها من حيرة وتساؤل فلا يكفيها مجرد الوصف – لأنها ملمة به في العادة -.
وعطفا على أسئلة موضوع (لماذا مات أحمد؟) فإني قد ترددت في تقييمها بين النوعين الثاني والثالث فلم أدرِ هل تريد السائلة الكريمة بها إجابات وصفية فقط أم تريد النفاذ إلى إجابات فلسفية؟!

كيف ينبغي لنا أن نفسر الأحداث التي تقع:

سن الله تعالى قوانين منضبطة ومطردة في هذا الكون يسير بها كل شيء بلا تخلف وهي بانضباطها إنما تجسد هيمنة الخالق الحكيم الذي قررها وغرزها غرائزها وجعلها مرجعا نفهم به هذا الكون ونستخلص منه القوانين والخبرات والتجارب ولولا انضباطيتها واطرادها لما كانت علوم قط، فالعلوم إنما تكون ممكنة في حال الاطراد والانضباط،، ولذلك كان من المنطقي جدا أن تكون القاعدة الأساسية لتفسير جميع الأحداث التي تقع لنا في هذا الكون هي قاعدة القوانين المادية والأسباب الطبيعية التي ما هي إلا تجسيد لإرادة الله،،
وإذا كانت القوانين المادية والأسباب الطبيعية هي القاعدة الأساسية التي يمكن لنا بها تفسير ظواهر الحياة لكن ذلك لا ينفي وجود استثناءات عليها، والاستثناءات تلك هي التدخلات الإلهية التي يخرق بها المعتاد ويخلق بها واقعا ماديا لا يمكن تفسيره في إطار القوانين المادية المعتادة،،
وبما أن هذه الاستثناءات هي "استثناءات" فلا يصح منطقيا أن ننطلق في تفسيرنا لظواهر الحياة منها إلا بدليل،،
وعند تطبيقنا هذه التراتبية على موضوع الشهيد رحمه الله فإن المنطقي أن نفسر ما حدث له بناء على القوانين الطبيعية، وأن لا نلجأ إلى تفسيرها بناء على الاستثناءات إلا بدليل واضح،، ولذلك فإن موت أحمد كان حادثة طبيعية تحكمت بها الظروف الطبيعية وأدت إليها ولا داعي فيها لأسئلة من قبيل: ماذا أراد الله؟! ولماذا حرمنا الله؟! و لا يصح أن نطرح فكرة الله كبديل عن الأسباب المادية في فهمنا للقضية إلا لو كان لدينا دليل قوي بأن هناك استثناء غيبيا ما طرأ هنا وأدى بالقضية إلى ما آلت إليه من خسارتنا لشخص كالشهيد.

خلاصة الفكرة: إن المنهج السليم الذي يجب أن نفسر به الأحداث والظواهر التي تمر بنا في حياتنا يجب أن يكون بناء على القوانين المادية والأسباب الطبيعية كقاعدة أساسية، ولكن هذه القاعدة لها استثناءات غيبية خارقة للمعتاد لا ينبغي أن نلجأ إليها في فهمنا لظواهر الحياة إلا بسلطان مبين.

متى يمكننا تفسير إحدى الظواهر الحياتية بناء على الغيبيات:

يمكننا أن نفسر ظاهرة ما بناء على الغيبيات إذا كان لدينا نص قطعي بها ينسبها إلى الله،، أما في حالة انقطاع زمن الوحي فليس لنا التفسير بناء على الغيبيات إلا في حالة وجود ظاهرة لم يمكننا تفسيرها وفقا للقوانين المادية المعروفة،، حينئذ فمن الممكن نسبتها إلى الغيبيات،، كأن نعرف أن أحدهم رأى رؤيا تنبأ فيها بأحداث مستقبلية أو نعرف أن شخصا مؤمنا يستطيع أن يمشي على الماء أو أن طفلا صغيرا سقط من الدور الخامس ولم يصب بأي أذى أو أن شخصا ما شلت يمينه وهو يحلف زورا وهكذا..
فمثل هذه الظواهر العجيبة لا يمكن تفسيرها إلا بناء على الغيبيات،، وإن أمكن تفسيرها بناء على القوانين المادية فهو أولى ما لم يكن بتكلف وافتراضات جدلية وخلفية منكِرة للغيبيات.
--------------------------------------------------------------
آخر تعديل بواسطة عبدالوكيل التهامي في الجمعة إبريل 05, 2013 4:09 pm، تم التعديل مرة واحدة.

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: تساؤلات حول نظام الكون (لماذا مات أحمد؟)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

القسم الثاني: أسئلة الأخت الكريمة (لماذا مات أحمد؟)

س1: لماذا رحل أحمد في ربيع شبابه؟
الجواب: لتوفر الأسباب المادية التي أدت إلى موته، وفي ظل النظام العام للكون لابد أن تؤدي تلك الأسباب إلى نفس النتائج، وفرق بين أن نتمنى أن لا تؤدي تلك الأسباب إلى الموت وبين أن لا نفهم ذلك،، فإن كنا نتمنى أن تتعطل الأسباب في حالة أحمد فلا تؤدي إلى موته فهذه مجرد أمنية لا تأثير لها على نظام الكون المنضبط والمطرد الذي قال عنه تعالى في أكثر من مناسبة: "ولن تجد لسنتنا تبديلا ولن تجد لسنتنا تحويلا"، فأحمد ليس استثناء كما لم يكن نبي الله يحيى بن زكريا استثناء حينما قتله الطواغيت شابا لإرضاء غانية.
أما الاستثناءات التي عطلت الأسباب المادية وحيدتها فلم تؤد بأصحابها إلى الموت كـ"ـنار إبراهيم عليه السلام" و"نوم أهل الكهف" وغيرها فهي استثناءات تتعلق بإرادة الله وعلمه وحكمته وخيرته وهيمنته على عرشه وملكوته وإظهار قدرته بين عباده، وليس لنا أن نطلبها في كل موقف من المواقف أو حتى أن نتوقعها بناء على تقديراتنا وتصوراتنا فنقول: سيكون ذلك أصلح!! وسيكون ذلك أفضل!! كلا، لأن هناك فرقا بين مستوى علمنا ومستوى علم الله وفرقا بين مستوى حكمتنا ومستوى حكمة الله وفرقا بين مستوى تقديراتنا ومستوى تقديرات الله وفوق هذا وذاك فالله يفعل ما يشاء وله الخيرة يختار ما يشاء متى يشاء فإن شعرنا بحاجتنا لمشاركته في هذا السلطان أو عدم طمأنينة نفوسنا لتفرد الله به،، فأخشى أننا نتقحم مجال الألوهية الواحد المتفرد الذي قال عنه تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا".

س2: لماذا اختطف الموت روحه وكل ما حوله ما زال بحاجة إليه؟!
الجواب: من طبيعة الأسباب المادية التي تدار بها الحياة وتنتظم بها الأحداث أنها لا تراعي بالضرورة الحاجة إلى شيء ما أو إلى شخص ما بقدر ما تراعي الانضباط والاطراد فإن توفرت فهي تختطف الأرواح سواء كانت هذه الأرواح مما يحتاج الناس إلى بقائها أو يحتاجون إلى فنائها، ونفس السؤال من الممكن أن يقال في حق الأشرار الذين عاثوا في الأرض فسادا: لماذا لا يختطف الموت أرواحهم ويريحنا منهم ويريح الدنيا؟! والجواب هو نفسه أن من طبيعة الأسباب المادية التي تدار بها الحياة وتنتظم بها الأحداث أنها لا تراعي بالضرورة الحاجة إلى شيء أو كراهية شيء بقدر ما تراعي الانضباط والاطراد فإن تخلفت فهي تبقي على الأرواح مهما كانت شريرة.

س3: الذين اختطف الموت أرواحهم وكل ما حولهم كان بحاجة إليهم؟!،، ما هي الرسالة التي أريد لنا أن نفهمها؟!
الجواب: لقد فهمت من سؤالك اختي الكريمة أن الله هو المرسل للرسالة التي تسألين عنها؟! فأنت تسألين عن الرسالة التي أراد الله أن يريد لنا أن نفهمها من موضوع السؤال، فالرسالة التي أريد لنا أن نفهمها في السياق المعتاد هي أن لا نستهين بالأسباب المادية لأنها سنة الله على خلقه وكونه التي يدار بها العالم، وهذه الفكرة السليمة قد توصل إلى فكرتين خاطئتين عن علاقة الله بالأسباب:
الفكرة الخاطئة الأولى: هي فكرة التواكل وتجاهل الأسباب المادية والاستخفاف بها بحجة التوكل على الله،، ولا أحتاج إلى أن أبين أن التوكل لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب المادية بل هو إضافة إيمانية لها تساهم في زيادة قدرات الإنسان وترفع من طاقته نوعيا وكميا وتمده بموجات من الصبر حين العجز والشكر حين القدرة وتجعله يمضي قدما في مسيرته الفردية والحضارية.
الفكرة الخاطئة الثانية: هي فكرة المادية التي تقطع صلة الأسباب المادية بالخالق الرقيب وتتصور العالم كأنه ساحة باردة لا دفئ فيها بوجود الله وسلطانه رغم أن الظواهر الحياتية تنفي هذه الفكرة تماما، فالذي تألم لموت أحمد يجب عليه أن يتأمل رؤيا أحد أقاربه والتي رأى فيها تفاصيل حادثة الوفاة منذ أن كان الشهيد مسافرا وقبل أن يصل إلى اليمن بأيام!!! فمثل هذه الرؤيا ذات الطابع الغيبي تنفي فكرة المادية المجردة الباردة وتؤكد وجود قوة غيبية تراقب وتعرف كل ما يجري في هذا العالم.

س4: هل روحه أطهر من أن تتحمل الحياة في هذه الدنيا؟!
الجواب: نتناوله في شقين:
الشق الأول: ما هي قيمة الحياة الدنيا:
قبل أن نعرف إجابة السؤال يجب علينا أن نعرف ما هي الحياة الدنيا التي قد لا يتحملها الطاهرون!! فالحياة الدنيا هي مجرد مرحلة مؤقتة قد تطول أحيانا لتصل إلى مئة سنة وقد تعلمنا عبر الاستقراء أنها لا تستقيم على حال فلا بد فيها من تجريب المتضادات من الحزن والفرح والأمن والقلق والخير والشر والسعادة والتعاسة والعزة و الذلة والنجاح والفشل والعلم والجهل والصحة والمرض والقوة والضعف، فلا يستقر الإنسان فيها على حال، وهي تمر مرورا سريعا قد يشعر الإنسان بسرعته وقد لا يشعر ولكنها لا بد أن تمر ولو كانت ألف عام لتصل إلى نهايتها المحتومة المنتهية بالموت، ومن خصوصياتها أن لاشيء فيها مضمون فلا حياة فيها مضمونة (فلربما توقف القلب فجأة دون سابق إنذار حتى لو كان المرء شابا) ولا صحة فيها مضمونة (فلربما أصيب الإنسان فجأة ودون سابق إنذار بأي خلل في وظائف الجسم كمرض السكر حتى لو كان شابا) ولا سعادة فيها مضمونة ولا نجاح،، ولذلك فإن العقلاء الذين يلاحظون أحوال الدنيا وسرعة انقضائها ونهايتها بالفناء وتغيرها وعدم ضمان الأحوال فيها يحكمون بأنها فرصة قصيرة ومحدودة،، فإن كانوا ماديين فإنهم يحرصون كل الحرص على استغلال كل لحظة فيها بالاستمتاع بمتعها السريعة الزائلة التي إن توفرت للمرء مل منها وإن افتقدها شاق إليها، فحتى لو توفرت المتع بهذا المنظار المادي للحياة بالصورة التي يطلبها المرء (وهذا ما لا يحصل إلا لقلة قليلة) فهناك مشكلة الملل منها وإن افترضنا أن هناك شخصا لن يمل من المتع الدنيوية الرخيصة (وهذا ما لم نسمع به) فهناك مشكلة الضعف والوهن الذي يتحول به الجمال إلى قبح والصحة إلى مرض والعقل إلى هرم والشباب إلى كهولة ثم يأتي بعد ذلك الموت والفناء حينئذ تصبح تلك المتع كأن لم تكن، مجرد ذكريات في عقول الأحياء من الناس الذين شهدوا على رخصها وزوالها وأنها أبعد ما تكون عن وصفها بالغاية فهي مجرد وسيلة لغاية أبعد وأكبر.
ومن هنا نقول إن المؤمن حاله كحال كل من عرف حقيقة الدنيا يحس كأنها مرحلة مرور إلى ما هو أجل وأعظم منها حيث تكتمل الدائرة ويتحقق الإنصاف ويصل الإنسان إلى ما كانت نفسه تتوق إليه من الأحلام والطموحات ولكن بصورتها العميقة والحقيقية التي وصفها الله تعالى في كتابه بقوله : "لهي الحيوان" ، وهذه العقلية التي ترى الدنيا مجرد مرحلة مرور وابتلاء و"ترانزيت" نحو الراحة الأبدية التامة ترى الدنيا بالنسبة للآخرة كما يراها الطالب الذي يبذل جهودا جبارة في المذاكرة باعتبارها "قيدا لا بد منه" ولا بد من الاحتكام لقوانينه وشروطه لكي يصل إلى النجاح والتفوق مهما تضايق منه ومها عانى فيه فهي في النهاية مجرد فترة محدودة ستنتهي عن قريب في موعد محدد لتكون بعده الأفراح أو الأتراح،، ولذلك فإن المؤمن يعتبر الدنيا سجنا وقيدا يتوق إلى أن يتحرر منه إلى حيوان الخلود الأبدي الأخروي.
فالسؤال هنا: هل روحه أطهر من أن تتحمل الحياة الدنيا؟! يمكن أن يصاغ كالتالي: هل روحه أطهر من أن ترضى بالحياة الدنيا على الآخرة؟
الشق الثاني: أطهر من أن يتحمل؟
يجب على المؤمن أن يتحمل مشاق الحياة الدنيا طالما كانت هذه إرادة الله فالله تعالى خلق الناس في الدنيا لكي يبلوهم أيهم أحسن عملا والبلاء يقتضي التمحيص فلا يحسبن أحد أنه استثناء من هذه القاعدة وأنه وصل إلى مرحلة لم يعد بحاجة فيها إلى الاختبار مهما كان صالحا، فمنذ أن يبدأ هذه الشعور في التغلغل إلى نفسه يتجسد حينئذ فشله الذريع!!

س5: هل خلقت الدنيا للأشرار فقط ليعيثوا فيها فسادا؟!
الجواب: الدنيا خلقت وفق قانون "التخلية" و أتيحت الفرصة فيها للأشرار في الحياة وفي امتلاك أسباب القوة المادية كما أتيحت للأخيار،، فإن حرص الأشرار على الأسباب المادية لكي يبقوا في الحياة فمن الطبيعي أن يبقى منهم الكثير على مسرحها ويتغلبوا على الأخيار فيعيثوا فيها الفساد وإن لم يحرص الأخيار على الأسباب المادية لكي يبقوا على قيد الحياة فإنهم سينقرضون منها لتبقى للأشرار (وهذا إن صح نظريا فليس بالضرورة أن يصح واقعا)،، وفي الصورة الواقعية الكاملة إن امتلك الأشرار مفاتيح الأسباب المادية فمن الطبيعي جدا أن ينتصروا على الأخيار ولن ينفع الأخيار خيرهم ما لم يجهزوا أنفسهم ويعملوا في إطار الأسباب المادية، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله عبرة فقد هُزم جيشه في معركة أحد بسبب خلل في الأسباب المادية للمعركة حين نزل الرماة عن الجبل!!
ولكن قد يعتقد البعض أن هذا الكلام يتعارض مع المدد الإلهي الغيبي الذي حصل عليه النبي في معركة بدر ولذلك فمن الضرورة أن نعلم أن من الواضح في ديننا أن للعمل الصالح والخيرية تأثيرا في مجال الحصول على مدد إلهي غيبي في الحرب أو في السلم أو في البناء الحضاري وهو لا يتعارض بحال من الأحوال مع تحصيل الأسباب المادية وامتلاك مفاتيح القوة في هذه الحياة الدنيا،، فلم يكن العمل الصالح يوما سببا يقطع عن الأخذ بالأسباب المادية، فالمدد الإلهي في معركة بدر كان مشروطا بالصبر والثبات (وهي أسباب مادية للنصر) ولنا في قصة مريم العذراء عبرة فالله تعالى أمرها بأن تهز إليها بجذع النخلة رغم أنه قادر على أن يخلق لها التمر خلقا دون عملية "الهز" فالهز هنا هو السبب المادي الذي كان وسيلة في الحصول على المدد الغيبي الإلهي.

س6: من سيتحمل مسؤولية رسائل السماء إن كانت المنية ستترصد للفضلاء؟!
الجواب: لو سلمنا جدلا بأن المنية تترصد بعض الفضلاء لتريحهم من ابتلاء الدنيا فمن الخطأ – بناء على ذلك - افتراض أن المنية تترصد جميع الفضلاء، فمن قال بأن المنية قد اختارت أحمد ليكون بجوار الله ويرتاح من عناء الدنيا فهو لا يقول بالضرورة بأن جميع الفضلاء سينالون نفس المصير، رغم أني شخصيا لا أوافق من يعتبر أن المنية قد اختارت أحمد بسبب فضله وأميل إلى اعتبار أن المنية قد اختارته بسبب تكامل الشروط المادية للموت وسواء كان ذلك الشخص أحمد أو من ليس بصفات أحمد فإنه كان سيموت إذا تكاملت نفس الشروط بحسب السنن المعروفة.
وخلاصة القول بأنه لم يثبت أي ارتباط شرعي أو عقلي بين الوصول إلى حالة معينة من التكامل الديني والأخلاقي وبين الموت، فليس الوصول إلى حالة من الخيرية والفضيلة علة للموت، بحيث نخشى به أن ينقرض الفضلاء وأن لا نجد بسببه من يتحمل مسؤولية رسائل السماء.
وفي محاولتي لفهم هذا الموقف الفكري أميل إلى أن من يقول إن المنية اختارت الشهيد ليكون بجوار الله أنه إنما يمارس عملية مواساة لنفسه ولغيره يحاول فيها أن يجمع بين ما يعلمه من حكمة الله ولطفه وبين ما عرفه من فضائل الشهيد وهو كمن يقول: "لا تنظروا لحزنكم عليه بل انظروا لأفراحه بنيل الشهادة" أو "ركزوا على الجزء الممتلئ من الكوب بدلا من الجزء الفارغ".
وأميل أيضا إلى أنه إنما قال ذلك بافتراض أن دور الشهيد في مجال العطاء الدنيوي قد انتهى وإن استمر في الحياة فإنما يستمر في اختبار قد نجح فيه ولا يمكنه أن يزيد عليه،، أما من كان من الفضلاء على درجة الشهيد وما زال له دور إيجابي يلعبه في الحياة فليس بداخل في مقولة "العندية" تلك - والله أعلم.

س7: هل حاجة الإنسان للحياة تنتهي عندما تصل روحه إلى أعلى مراتب السمو؟! وماذا عن حاجة الحياة إليه؟!
الجواب: إذا ما خير الإنسان العاقل الذي تصل روحه إلى أعلى مراتب السمو بين أن يبقى في مرحلة الابتلاء أو أن ينتقل إلى مرحلة الخلود والبقاء والحيوان فلا شك بأنه سيختار المرحلة الثانية مهما كانت الحياة الدنيا بحاجة إليه،، إلا لو كان بقاؤه في الحياة الدنيا زيادة له في الآخرة فلربما يختار البقاء،، ويوافق ذلك بعض المرويات عن الشهداء الذين سيتمنون أنهم استشهدوا مرات ومرات ومرات لما علموه من الفضل العظيم للشهادة.
وبالطبع فإننا – في الحالة المعتادة - لسنا بالمخيرين بين البقاء في الدنيا والذهاب إلى الآخرة، ولا يحق لنا حسب شريعة الإسلام أن نقرر إنهاء حياتنا نتيجة التعاسة أو اليأس أو الشعور بالسمو، ولا يحق لنا أن نلقي بأيدينا إلى التهلكة.
وبالنسبة للعمليات الاستشهادية فإن من الضروري أن نعرف أنه يحرم الإقدام عليها بنية التخلص من الحياة أو الرغبة في الموت فهذا انتحار، بل يجب تأهيل الاستشهاديين نفسيا ودينيا بحيث يحاولون تجنب الموت مهما استطاعوا فإن كان لا بد منه فهو باعتباره وسيلة أخيرة اضطرارية لحفظ الدين والحق والعرض والمقولات المقدسة العامة فإن كان كذلك وإلا فلا.

س8: هل أراد الله أن يخبرنا بموت أحمد بأن كل ما نملكه من تراكم أخلاقي ومعرفي يتواضع أمام حياة إنسان في خطر؟!
الجواب: لهذا الجواب شقان:
الشق الأول: إرادة الله:
من الخطأ أن نتساءل عن "إرادة الله" فيما يخص "موت أحمد" قبل أن نثبت أن موت أحمد هو بإرادة مباشرة لله!! وللتمثيل على ذلك لنطرح هذا السؤال: "ماذا أراد الله من طرح وجدان الأمة لهذه الأسئلة؟!" أو "ماذا أراد الله من إجابات عبدالوكيل على هذه الأسئلة؟!" ، فما هو المقصود من استفسارنا عن إرادة الله عندما طرحت وجدان الأمة أسئلتها أو عندما كتب عبدالوكيل إجاباته؟! لماذا نحمل الله المسؤولية عن أسئلة طرحتها وجدان الأمة بمحض حريتها واختيارها؟! لماذا لا نسأل وجدان الأمة عن سبب طرحها للأسئلة؟!
ولكي يكون السؤال صحيحا ومنسوبا لصاحب الفعل الذي استحق به المدح أو الذم كان ينبغي أن يكون: هل أراد أحمد أن يخبرنا بموته بأن كل ما نملكه من تراكم أخلاقي ومعرفي يتواضع أمام حياة إنسان في خطر؟! أنا شخصيا لا امتلك جوابا عن مثل هذا السؤال!!
ويجب التنبيه أنه يصح من الناحية المجازية أن ننسب كل الأفعال التي نفعلها إلى الله – قبيحها وحسنها ذكيها وغبيها – باعتبار أن الله تعالى هو من سن القوانين التي أدت إلى موت أحمد وإلى تساؤلات وجدان الأمة وإلى إجابات عبدالوكيل، فإن كان السؤال بناء على ذلك فجوابه بأنه إن كانت هناك إرادة لله في قضية موت أحمد فقد أراد أن يخبرنا بأن لا نتجاهل السنن المادية وأن نعيش في الحياة دون الإخلال بشروط السلامة وإلا فإن حياتنا ستكون ثمنا لذلك مهما كنا صالحين، وأراد أن يخبرنا بأن باب الاستثناءات في مجال السنن المادية غير مفتوح للجميع مهما كانوا صالحين إلا لمن أراده هو في الزمان والمكان الذين ينتخبهما عز وجل بناء على ألوهيته وحكمته وعلمه وهيمنته التامة على خلقه سواء أدركنا وجوه الحكمة أم لم ندركها.
الشق الثاني: التساؤلات الموضوعية:
أما فيما يتعلق بالتساؤلات الموضوعية التي ذكرتها الأخت الكريمة وهل كل ما نملكه من تراكم أخلاقي ومعرفي يتواضع أمام حياة إنسان في خطر فإن هذا الكلام إن كان صحيحا فهو ليس على إطلاقه، فهو متروك لتقدير من يعيشون اللحظة فإن كان تقدير الشخص العظيم والنبيل والعالم والفاضل أنه سيستطيع أن ينقذ شخصا عاديا ليس بعظيم ولا بنبيل ولا بعالم ولا بفاضل دون أن يصيبهما مكروه فمن الواجب عليه التحرك حينئذ بحسب النسبة المئوية التي تترجح لديه، وإن كان تقديره أن حياته ستكون ثمنا لمحاولة فاشلة فيموت هو ويموت ذلك الشخص العادي فمن الحرام عليه أن يلقي بنفسه إلى التهلكة بدون ثمن لمجرد نيل شرف المحاولة وإن كان تقديره أنه لا بد أن يموت أحدهما ليعيش الآخر فإن العقل الذي يساوي بينهما في حق العيش لا بد أن يميل إلى من هو أنفع وأعظم وأفضل (بمعايير الأخلاق لا بمعايير الأموال والألقاب) ولو خيرت شخصيا بين حياتي وبين حياة السيد حسن نصر الله لاخترت حياة السيد نصر الله لأنه أنفع لهذه الأمة فهل أنا ملام على ذلك؟! وهل السيد نصر الله ملام إن فكر بهذه الطريقة؟! أو تصرف على أساس هذه المعطيات؟!
كما يمكن لنا أن نطبق هذه القضية على ما هو أدنى من التضحية بالنفس في سبيل الآخرين فنطبقها في مجال التضحية بالمال في سبيل الآخرين، فمثلا: نحن نعرف أن هناك الكثير من الأشخاص ممن هم أدنى من أسرتنا في المجال المالي، فهل يؤدي بنا التراكم الأخلاقي والمعرفي إلى أن نتصدق بجميع أموالنا ونعيش كأدنى من نعرفهم من الناس؟!

س9: هل كانت الرسالة لتوبيخنا حين لا نهب لنصرة إنسان ما بحجة أننا ندخر أنفسنا لما هو أعظم؟!
الجواب: لقد فهمت أن من تنسبين إليه فعل التوبيخ هنا هو الله – عطفا على السؤال السابق – ولذلك فإن الجواب عليه سيكون كما كان الجواب على السؤال السابق.
أما فيما يتعلق بالتساؤلات الموضوعية هنا وإن كانت تشبه التساؤلات الموضوعية في السؤال السابق ولكن لا مانع من بعض الإضافة بالقول: إن توبيخنا حين لا نهب لنصرة إنسان بحجة أننا ندخر أنفسنا لما هو أعظم قد يكون كتوبيخ امتناع السيد حسن نصر الله من إنقاذ مرافق له بحجة أن من الخطأ الفادح تعريض قائد المقاومة للخطر لأن وجوده مهم جدا في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ!!
ولذلك يجب علينا أن لا نأخذ الكلام على إطلاقه وأن نميز فيه بين عدة احتمالات:
- أولها: إن كان السيد حسن يعلم يقينا أن محاولته إنقاذ مرافقه ستكون دون أن يتعرض للخطر ثم أعرض عن ذلك فهو يستحق التوبيخ لأنه لم يهب لنصرة إنسان بحجة أنه يدخر نفسه لما هو أعظم.
- ثانيها: إن كان السيد حسن يرجح أن محاولته إنقاذ مرافقه ستعرض حياته للخطر ثم أعرض عن ذلك فهو لا يستحق التوبيخ طالما كان هناك احتمال بأنه لن يستطيع إنقاذ المرافق.
- ثالثها: إن كان السيد حسن يرجح أن محاولته إنقاذ مرافقه ستعرض حياته للخطر ثم أقدم عليها ومات فإني شخصيا سأتألم لخسارته أكبر بكثير مما كنت سأتألم لخسارة المرافق التقي الأمين وأميل إلى القول بأن المرافق لو علم ذلك لما رضي به – إن كان تقيا ويهمه أمر الإسلام والمسلمين.
- رابعها: إن كان السيد حسن يعلم علم اليقين أن محاولته إنقاذ مرافقه ستنتهي بهما سويا إلى الموت، حينئذ يقبح منه التفريط بنفسه دون ثمن، و يستحق التوبيخ إن فعل ذلك.

كما أن السؤال أيضا مطروح في مجال التضحيات بأدنى من النفس،، فمثلا بالمال هل نستحق التوبيخ حين لا نتصدق بأموالنا لإنسان بحجة أننا ندخر أموالنا لما هو أهم لنا في حياتنا؟!

س10: هل يعقل أن يحرمنا الله من وجود شخص بحجم أحمد بيننا فقط لنتعلم بموته درسا في احتياطات السلامة؟!
الجواب: الاستهانة باحتياطات السلامة تحرمنا ملايين البشر سنويا بعضهم بحجم أحمد وبعضهم أدنى منه، والذي لا يعقل هو أن نطرح فكرة الله كبديل عن التطبب والأخذ بالأسباب وعدم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة رغم أننا مؤمنون بأن الله قادر على تطبيبنا دون دواء وقادر على التدخل في أدق تفاصيل حياتنا ولكن هذه القدرة مرتبطة به هو لا بنا نحن فهي استثناء لا تقوم به قاعدة ولا يصح لا عقلا ولا شرعا أن يطلق أحد منا النار على نفسه وهو يردد عبارة "الله سيلطف بي" فإن من يفعل ذلك هو أحمق ومن سيصدق هراءه أحمق مثله ولا علاقة لذلك بالإيمان ولا بالإسلام ولا بالأسوياء العقلاء!!
بالإضافة إلى أن هناك مشكلة تتكرر في هذا السؤال كما في السؤال الثامن وهي في نسبة الحرمان إلى الله وتحميله المسؤولية عن اختيار أحمد (وهذا ما أوجزت الجواب عليه في ذلك السؤال فليراجع).
مع التنويه إلى أن الألم لفقدان أحمد أو من هم بحجم أحمد الذي قد يكون سببا لطرح هذا السؤال إنما يوصلنا بهذه الطريقة في التفكير في إلغاء دور الإنسان الذي استحق به المديح ونال به الشهادة، فهل كنا نتوقع أن يتدخل الله ليحول بين أحمد وبين درجة الشهادة وقد تجاوز بشجاعته وإقدامه وإيثاره جميع أسبابها المادية؟! أعتقد أن كلامنا قد يغضب أحمد وأمثاله من طلاب العلا!!
وإذا افترضنا أن الله قد تدخل وحال بين أحمد والموت فهل تساءلنا عن وجهة نظر أحمد؟! لماذا لا نفترض أن يأتي أحمد يوم القيامة ليقول: هل يعقل أن يحرمني الله من درجة الشهادة لكي لا يشعر بعض الأشخاص بالحرمان عند موت شخص بحجمي؟!
هل يعقل أن يحرمني الله من الشهادة في شبابي لكي أصل إلى الشيخوخة فأهرم وأخرف وأكون عالة على الأدوية والناس؟!
هل يعقل أن يحرمني الله من الشهادة لأبقى في الحياة وأكتسب المزيد من الخطايا؟!
أظن أن من الأنانية أن لا نفكر في المكاسب التي حققها أحمد بموته بتلك الطريقة البطولية ونيله درجة الشهادة.

س11: لماذا لم تحل ألطاف الله دون رحيل أحمد عنا؟!
الجواب: لا يمكننا أن نجزم أن ألطاف الله لم تكن حاضرة في هذه الحادثة ولا يمكننا أن نحدد ما هي ألطاف الله ولا ما غرضها ولا ما ستؤدي إليه ولا يمكننا أيضا أن نفترض مسبقا أنها لابد "ستحول دون رحيل أحمد عنا"، فبغض النظر عن أسباب اللطف وموجباته التي يمكن معرفة بعضها من كتاب الله تعالى وهدي نبيه، وبعضها يظل خافيا علينا، إلا أن تلك الألطاف في كل الحالات لا تتعلق بإدراكنا لها، بل بحكمة الله وعلمه وهما – كما يؤمن جميع المسلمين – قيمتان مطلقتان، والقيم المطلقة من المتعذر على عقولنا المحدودة القاصرة أن تحيط بها أو حتى أن تقترب منها، فلربما شاهدنا بتجاربنا السطحية البسيطة أحداثا نذهب في الحكم بها بعكس ما تؤدي إليه "وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا" ، "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم" ، فمثلا: وصف الله صلح الحديبية بأنه فتح عظيم بينما لم يدرك الكثير من المسلمين ذلك فيه بل اعتبروه هزيمة نكراء ثم اتضح لهم عكس ذلك!! وفي قصة موسى عليه السلام وفتاه أبلغ العبرة في هذا المعنى.
أما فيما يتعلق بأحمد فما أدرانا لعل في موته خيرا كبيرا له وخيرا كبيرا للمسلمين أجمعين، فكيف ذلك؟! سأفترض هنا افتراضا لمجرد التمثيل والتدليل على أن الاحتمالات في موضوع أحمد مفتوحة وكبيرة مما يجعلنا بعيدين جدا عن حصر اللطف فيها بصورة واحدة فقط وهي "الحيلولة دون رحيل أحمد"، فلماذا لم نضع في حسباننا أن الله ربما قد علم بأن هذا الشاب لو عاش فإنه سينحرف وبأنه سيحرف معه الكثيرين لما يتمتع به من معطيات!! فخلى بينه وبين الشهادة فكانت خيرا له ولطفا به وبأمة المسلمين!! وسيكون إيماننا بأن الله حكيم وأنه يعرف تماما كيف يتصرف ومتى يتصرف هو الفيصل وهو العامل المرجح بين هذه الفكرة وبين الأفكار الأخرى التي تجعلنا نحصر اللطف في هذه القضية بصورة واحدة هي "الحيلولة دون رحيل أحمد" ، ومن ناحية أخرى يجب أن ندرك أن من الخطأ حصر اللطف الإلهي بصورة نفرضها نحن على الله فإن فعلها فهي اللطف وإن تركها فقد ترك اللطف، فهذا بالإضافة إلى كونه خطأ هو تألٍ على الله نعوذ بالله.
خلاصة القول فإن باب الألطاف هذا باب عظيم وجليل قد يشعر الإنسان به أحيانا في وقته وأحيانا بعد وقته بمدة طويلة وأحيانا قد لا يشعر به ولكن كل ذلك لا ينفيه فحصول اللطف ليس متعلقا بإدارك الإنسان له لأنه منفصل عن إدراك الإنسان ومرتبط بعلم وحكمة الديان، ومن الناحية المنطقية والعقلية البحتة فإن نفي الألطاف عن حادثة معينة يقتضي أن يكون النافي عالما بها وبمقتضياتها وبأسبابها وبخلفياتها وبمؤدياتها بعلم مطلق وحكيما بحكمة مطلقة وهو ما لا يدعيه بشر.

س12: هل كان هناك اتفاق ضمني بين أحمد والموت؟ هل جاءه استجابة لحاجة في وجدانه؟!
الجواب: بعد تأمل للسؤال لم افهم تماما المراد من كلمة "اتفاق ضمني" فلجأت إلى فهمها على أن معناها هو "اتفاق افتراضي خفي" بين أحمد والموت فيكون السؤال حينئذ هو:"هل هناك اتفاق افتراضي خفي بين أحمد والموت" أو "هل تضمنت قصة أحمد اتفاقا بينه وبين الموت" ولأن الاتفاق بين شخص ما والموت لا يقال إلا على سبيل المجاز فقد سمحت لنفسي أن أحلل السؤال إلى عدة أسئلة هي:
السؤال الأول: هل كان أحمد يتمنى الموت؟!
إن كان أحمد قد تمنى الموت من صميم قلبه ولكن لم تؤد أمنيته تلك إلى التقصير في شروط السلامة فحاله كحال مريم العذراء التي قالت " يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا".
فالتمني في ذاته ليس مشكلة ولكن المشكلة أن يتحول هذا التمني إلى تهاون بحفظ الحياة (التي هي أمانة).
السؤال الثاني: هل كان أحمد يطلب الموت؟
هناك فرق بين أن نقول: "أحمد طلب الموت" ، وبين أن نقول: "أحمد طلب إنقاذ شخص ما ولم يهب من الموت أثناء عملية الإنقاذ" .. فإن كان أحمد قد طلب الموت لذات الموت فهو منتحر – نعوذ بالله - وإن كان أحمد قد طلب إنقاذ العامل فلم يهب الموت فهو شجاع ومحمود ومأجور بإذن الله سواء مات أم لم يمت، فإن قضى نحبه في طلب إنقاذ العامل – وهو قد قضى نحبه فعلا – فقد نال الشهادة بإذن الله.
السؤال الثالث: هل كان أحمد يحس بأنه سيموت؟!
وإن كان أحمد قد أحس بأنه سيموت قبل مدة من موته فليس ذلك الإحساس هو ما دفع به إلى الموت، ومثاله: أن يحس التلميذ المجتهد بأنه سينجح، ثم ينجح بعد ذلك فعلا، فليس إحساسه هو الذي أدى إلى النجاح بل اجتهاده.
وأحيانا قد يحس شخص ما أن أحد الأشخاص بجانبه قد يطلق عليه النار، ثم فعلا يتجسد ذلك الإحساس على الواقع!! فالإحساس هنا ليس هو السبب الذي أدى إلى إطلاق النار بل كان السبب هو عدوانية الشخص الآخر.
السؤال الرابع: هل تم استدراج أحمد للموت؟! ومن استدرجه للموت؟!
هناك قاعدة أولية في النظر لهكذا مواضيع ألا وهي قوانين التخلية وقوانين الأسباب المادية، ولكن هناك استثناءات يكون لله تعالى فيها تدخل مباشر بخرق الأسباب أو تيسيرها ولكن القول بأن الحادثة الفلانية قد تمت بتدخل مباشر من الله هو قول يحتاج إلى دليل لأن فيه نسبة فعل ما إلى الله.. ولذلك يجب علينا التمييز بين إمكان الاستثناءات وبين وقوعها،، وفي حادثة أحمد يجب علينا أن نتناول القضية ضمن القاعدة الأولية التي هي قوانين التخلية والأسباب المادية وأن نحكم بأن الله قد خلى بين أحمد وبين الأسباب المادية (لأن ذلك هو الأصل) فإن تبادر إلى ذهن أحد فكرة استثنائية عن هذا الأصل فعليه بالدليل،، مع التنبيه أن بالإمكان أن يكون قد حصل تدخل من الله بتيسير أسباب الشهادة بطريقة لا ندركها ولا نعلمها ولكن هذا الزعم يحتاج إلى دليل ولا يكفي أنه ممكن لكي نحكم بوقوعه.
السؤال الخامس: هل استجاب الله لأمنيات أحمد (الوجدانية الخفية) بالموت فهيأ له الأسباب لذلك؟
إذا افترضنا بأن أحمد قد تمنى التخلص من عبء الحياة، وتمنى ذلك على الله بصدق فعلم الله أنه خير له في منقلبه ومثواه وخير لغيره، فلا مانع من أن ننسب ذلك إلى الله من باب الألطاف (إن صح الفرض) فيكون موته هنا لطفا به.

س13: إن كان الموت استجابة لحاجة في وجدان أحمد فلماذا هو بالذات استحق أن يحقق الله رغبته؟!
الجواب: إذا كان هذا الفرض صحيحا وقد استجاب الله لرغبة أحمد فيسر له الشهادة فيصح أن يقال إن الله إنما خصه بذلك دون غيره لما علمه من صدقه في رغبته وما علم أنه الخير له و للآخرين ولاستحقاقه للطف، وأظن أن ذلك يكفي لنعرف لماذا استجاب له دون غيره.. وعلى ذلك، فمن توفرت فيه الشروط التي توفرت في أحمد من صدق وإخلاص في الرغبة ومن كون ذلك خيرا له وللآخرين ومن استحقاق للطف فإن الله قد وعد بالإجابة بقوله عز من قائل: "ادعوني أستجب لكم"، ولربما يتكامل إخلاص الإنسان في الدعاء إلى الله بشيء من الأشياء (بما في ذلك طلب الشهادة) ولكن – ولعلم الله واستحقاق ذلك الشخص للطف – يكون بقاؤه أولى من رحيله، فيكون بقاؤه لطفا به وبغيره بعكس ما دعا الله به وتمنى حصوله.

شيء بداخلنا يصنع نهايتنا:
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفاه الله في فراش المرض، وأمير المؤمنين عليه السلام تم اغتياله غدرا وهو قائم يصلي في المحراب، والزهراء عليها السلام توفاها الله في منزلها وفاة طبيعية وهي شابة، والحسن عليه السلام اغتيل بالسم حتى تقطعت كبده، والحسين عليه السلام قتل في ساحة المعركة بعد أن عاين أحبته يسقطون واحدا تلو الآخر. نسأل الله الشهادة وحسن الختام.
---------------------------------------------------------

عبدالوكيل التهامي
مشترك في مجالس آل محمد
مشاركات: 105
اشترك في: الخميس مارس 30, 2006 2:21 pm

Re: تساؤلات حول نظام الكون (لماذا مات أحمد؟)

مشاركة بواسطة عبدالوكيل التهامي »

القسم الثالث: أسئلة يطرحها الآخرون

في هذا العصر وبعد أن سادت بيننا قيم النسبية والتعددية وأصبح الجدل جزءا من حياتنا اليومية نمارسه عبر النت مع أشخاص يختلفون عنا في الخلفية الثقافية وفي العقلية وفي الأولويات وربما في السن والخبرة، فرضت هذه التساؤلات نفسها على بعض من أعرفهم من الشباب الواعي والحر الذي تربى على ذم التقليد وحب الفهم والاقتناع ويطمح أن يجد جوابا فلسفيا لكل شيء ليجيب نفسه أولا قبل أن يجيب الآخرين.

هذه التساؤلات تتناول النظام الذي يسير عليه الكون، والكون أكبر بكثير من قدرتي على الاستيعاب أو الإحاطة أو الحساب ولذلك فليعذرني القارئ الكريم إن كانت إجاباتي قاصرة فهي على قدر معلوماتي القاصرة.

وفي ظل سأم المعاصرين من الإجابات التقليدية، وفي ظل عجزي عن استيعاب نظام الكون وقصور معلوماتي الحاد بشأنه، لا أسمي ما كتبته إجابة بقدر ما اسميه محاولة لفتح آفاق جديدة للسؤال نفسه بتحليله وتأمل أسبابه وكيف ينبغي أن نتناوله موضوعيا لعلنا نقدح عقولنا بفكرة أو نفتح أعيننا لرؤية أو ننعش قلوبنا ببارقة أمل، تلك الأسئلة التي لا يستطيع الإجابة عنها إجابة وافية شافية سوى من أحاط بهذا الكون علما.

وكالطفل الذي لا يستوعب اختيارات والديه ويظل يبكي ويبكي بحرقة لكي يحصل على ما يريد، سنظل في حيرة إزاء جملة من الاختيارات الإلهية في هذا الكون، ولكن تلك الحيرة التي تشبه حيرة الطفل في تعبيرها عن محدوديتنا وذاتيتنا لا تعني بالضرورة غياب العدالة أو عدم وجود الحكمة كما أنها ليست مبررا كافيا لأحد كي يسقط في متاهة الإلحاد التي هي أكثر حيرة وأشد ظلاما وأكثر برودة وقسوة ووحشة.

س1: لماذا خلق الله الموت والألم؟!
الجواب: إن هذا السؤال يعتبر من الأسئلة الشائعة التي لا بد أن يطرحها الإنسان في حياته عندما يفقد عزيزا أو يخسر حلما أو يجرب ألما، ولكن تتغير صيغته وموضوعه حسب الشخص وطبيعة الانفعال الذي أوحى بالتساؤل،، ورغم أن الانفعال حالة استثنائية تطرأ على الوعي الصافي فتكدره وقد لا تعني بالضرورة عدم قبوله بالنظام الذي يسير عليه الكون، ولكن ومع تكرار الألم وقسوته ومسه لأعماق الوجدان وتطوره قد يتبلور ذلك الانفعال شيئا فشيئا ويتعزز ليصبح مشاعر قوية تجاه النظام العام للكون تفرض نفسها على الشخص فتطرح مزيدا من الأسئلة كلما زاد الشعور بالإحباط ومحدودية الخيارات:
- لماذا لم يخلقني الله جميلا؟!
- لماذا لم يجعلني الله ذكيا؟!
- لماذا لست قويا؟!
- لماذا لا أتمتع بالمواهب؟!
- لماذا لم يكن أبواي غنيين ووجيهين؟!

وقد تتسبب هذه الانفعالات في أسئلة تتعدى ذات السائل وتتناول أنظمة عامة يسير عليها الكون من قبيل:
- لماذا خلق الله الموت؟!
- لماذا خلق الله الألم أصلا؟!
- لماذا خلق الله الكوارث والمعاناة؟!
- لماذا كان نظام الخلق مبنيا على التفاوت والنقص؟!
- لماذا نحبط ونضعف ونهرم ونشيخ ونمرض ونمل ونقلق ونخاف ونشتاق؟!

نلاحظ هنا أن القاسم المشترك بين الأسئلة الأولى والأسئلة الثانية هو أنها قدر ما تختزنه من مشاعر قوية وعميقة تكون أكثر حضورا وإلحاحا في توجيه الأسئلة للنظام العام للكون، ولولا الانفعال النفسي الذي يجعل تلك الأسئلة هاجسا لما كان لها أي معنى ولكانت كمن يسأل:
- لماذا يتمدد الحديد بالحرارة؟!
- لماذا يتبخر الماء عند تسخينه بحرارة قدرها مئة درجة؟!
- لماذا لا تظهر الحياة إلا بشروط معقدة؟!

والملاحظ في الأسئلة الأخيرة أن الإنسان الهادئ (غير المنفعل) لا يعنيه أن يعرف ما هي الحكمة من (تمدد الحديد بالحرارة) بل يركز جهوده في محاولة اكتشاف الظروف التي تحيط بهذه الظاهرة لكي يسيطر عليها،، فهو يدرك جيدا أن صرامة نظام الكون في هذه الحالة ميزة كبرى وبوابة واسعة للمعرفة والسيطرة، فلولا صرامة النظام الكوني الذي قرر أن "الحديد يتمدد بالحرارة" بشكل دائم ومطرد لما بذل الإنسان في سبيل اكتشافه أية جهود ولما أدت جهود البشرية في هذا المضمار إلى التطور العظيم الذي هي عليه اليوم.. فالصرامة تلك التي تسود النظام الكوني هي التي فتحت لنا باب المعرفة والسيطرة والتقنين والتطور.
نترك تمدد الحديد بالحرارة ونعود إلى الأسئلة المثيرة لانفعال الإنسان والتي يبحث لها عن إجابة أخرى غير وصفية من قبيل: لماذا خلق الله الموت والألم؟!، فالإنسان نتيجة معلوماته المحدودة عن نظام الكون والأهداف العامة للخلق من الطبيعي جدا أن لا يستوعب الكثير من الظواهر، ومن الطبيعي جدا أن تظل الأسئلة تراوده بهذا الخصوص كلما انفعل ومن الطبيعي أيضا أن تلح عليه هذه الأسئلة كلما كان انفعاله أكبر وأشد،، ولكن يجب أن نلاحظ نقطة جوهرية وهي أن هذه الأسئلة تتناول فقط الجوانب التي نعتبرها جوانب مؤلمة وسيئة وشريرة ولكنها لا تتناول الجوانب الحسنة والسعيدة والشيقة فلم يبلغني أن أحدا ما من الناس انفعل ثم سأل: لماذا خلق الله السعادة؟! ولماذا خلق الله الراحة؟! ولماذا خلق الله الطمأنينة والسكينة؟! هذا فيما يتعلق بذات الإنسان وأحبائه أما ما يتعلق بالآخرين فلم أسمع أن أحدا قد انفعل ثم سأل: لماذا يتألم أعدائي؟ لماذا يموت الأشرار؟!
ولهذه النقطة الجوهرية دلالة مهمة تضاف إلى دلالة الانفعال ومحدودية المعلومات عن نظام الكون، فهي تعبير عن ذاتينا التي لا ترفض نظام الكون بل ترفض الصرامة فيه ولسان حالها: نحن لا نرفض نظام الكون لكننا نريده أن يحابينا.. نحن لا نرفض نظام الكون لكننا نريد أن نكون استثناء فيه.. نحن لا نرفض نظام الكون ولكننا نرفض صرامته فيما يتعلق بنا، نكره صرامته عندما نتألم ونكره صرامته عندما نموت لكننا لا نكره الألم والموت عندما يتعلقان بأعدائنا، بل تكاد تكون تلك الصرامة نعمة من النعم ومصلحة من المصالح إذ بدونها لا يمكننا أن نعرف الطريقة التي تخلصنا من شرورهم.
من هنا نستقي أن المقصود بالاعتراض من تلك الأسئلة ليس النظام الكوني بكليته وجملته بل هو الاعتراض على الصرامة فيه، تلك الصرامة التي لا تسمح له أن يحابينا فنحن نريد أن يعاملنا بطريقة استثنائية، تلك الصرامة التي تفرض نفسها علينا وعلى أحبابنا مثلما تفرض نفسها على الأشرار من أعدائنا..
وعند تأمل هذه الثنائية (غياب الانفعال – استيعاب الصرامة) فيما يتعلق بالطائفة الثالثة من الأسئلة وكيف أنها أدت إلى فتوحات علمية من خلال الرؤية الموضوعية، وتأمل ثنائية (حضور الانفعال – رفض الصرامة) فيما يتعلق بالطائفتين الأولى والثانية من الأسئلة مع إضافة عامل آخر وهو محدودية المعلومات المتوفرة لدينا عن نظام الكون وغاياته، فسيكون من الصعب علينا أن نقنع بإجابات من قبيل: " الألم والموت لهما دور أساسي في تشكيل دوافعنا و في إدارة صراعاتنا و في استمرار نوعنا يتلاءم مع الغايات الكبرى للخلق".
في ختام هذه الخاطرة لا بد من التنويه إلى أن الأسئلة المحيرة بخصوص وجود الألم في العالم وإن كان من الطبيعي أن تراود كثيرا من البشر إلا أنها قد تخرج أحيانا عن الإطار الطبيعي وتصبح هاجسا فتاكا فتترك في نفوس بعض الأشخاص آثارا مدمرة على سكونهم وعلى قبولهم بنظام الكون فيظلون أسارى لشعور مستحكم بالسلبية والاعتراض المزمن،، مما قد يكون تأسيسا للانحراف الفكري والسلوكي المتمثل في الإلحاد والإجرام.
ويجب علينا قبل المضي قدما بصدد هذا البحث أن نلفت إلى أن جميع البشر يعون جيدا أن تكرار مثل هذه الأسئلة لن يقدم ولن يؤخر شيئا في نظام الكون فهو أعز من أن تطال إليه إرادتنا، فهذا النظام هو نظام صارم يتساوى أمامه الجميع الصالح والطالح وهو نظام عادل من زاوية عطائه فهو يعطي نفس الفرصة للصالحين والمفسدين،، فمن فهمه وأخذ بأسبابه امتلك زمام الأمور ومن أعرض عنه كان ضحية له ربما بسبب انشغاله بكثرة الاحتجاج عليه.

س2: هل نظام الكون نظام عادل؟!
كما أشرنا في الاجابة السابقة أنه لكي نستطيع الإجابة عن مثل هذه السؤال إجابة موضوعية يجب أن تتحقق ثلاثة شروط:
الشرط الأول: يجب علينا أن لا نكون في حالة انفعال نتيجة ألم أو احباط أو حزن أو غضب أو ما شاكل.
الشرط الثاني: يجب علينا أن نحيط علما بالمعطيات المتعلقة بموضوع السؤال وهو نظام الكون والأحداث التي تقع فيه ما هي مقدماتها وما ستؤول إليه بدقة تامة وتفصيل عميق.
فالمشكلة هي أن يتسرع أحدهم فينظر في نظام الكون على خلفية انفعال ثم لا يتوصل لنتيجة موضوعية متجاهلا التكامل الغريب الذي يحوطه والدقة العجيبة التي تسوده والمظاهر التي تثير الإعجاب والدهشة والانبهار والتي توحي بقوة أن كل شيء له غرض مقصود وهدف عميق وتوازن دقيق، ذلك الشخص المنفعل يمكن أن نصفه بغير المتواضع أيضا لأن معلوماته عن الكون والحياة مهما كانت كثيرة فهي لا تؤهله لأن يتوصل إلى حكم بشأن عدالة نظام الكون من عدمه إلا بشكل قاصر ومجتزأ وخاطئ، فالقاضي قبل أن يقضي لا بد أن يكون غير منفعل ولا بد أن تكون لديه معلومات وافية بشأن القضية التي هو بصدد الحكم فيها، فهل يزعم أحد قط أنه قد أحاط بكل ما يجري في الكون؟ بأغراضه بأعماقه بتوازناته بأهدافه المعروفة والخفية؟
ولتوضيح الفكرة أكثر نورد هذا المثال: لو رأى أحدهم امرأة تعاني آلام الولادة فقط فلربما حكم أن الولادة أحد وسائل التعذيب أو مرضا لا بد من استئصاله من سلالة البشر! ولكن قد تتغير لديه الصورة والحكم حينما تتكامل المعطيات ويتضح القصد ليعرف بأن هذه الآلام ليست سوى مقدمة لبزوغ حياة جديدة!!
الفرحة العارمة عند ولادة ذلك الطفل الرائع والمصلحة الكبيرة فيه هي التي تجعل تلك الأم التي عانت الآلام الشديدة تفكر في خوض تلك التجربة مرات ومرات!! أليس هذا غريبا؟!
ولتداخل الأغراض والمقاصد والقوانين في النظام الكوني الواحد وفي حالات ناشزة عن الأصل قد لا ترتبط الولادة بالحياة بل قد ترتبط بالموت (موت الأم أو الجنين أو كليهما) فتتحول إلى خلاف الغرض منها لأسباب كثيرة قد نكون نحن المسؤولين عنها وقد يكون تداخل الأنظمة الكونية والمقاصد التكوينية مسؤولا عنها ولكنها في جميع الحالات لا تلغي أن الغرض الأساسي لخوض تجربة الولادة هو الحياة لا الموت.
وبناء على المثال السابق نقول إنه لكي نستطيع أن نحكم في قضية كبرى كقضية "عدالة نظام الكون" فلا بد لنا من توفر معطيات كثيرة و قدرا وافرا من المعلومات وصورة متكاملة غير منقوصة لمقدمات الأحداث وما ستؤول إليه وتداخلها مع بعضها، وإلى أن يزعم أحد ذلك فعلينا إلى ذلك الحين أن نتواضع قليلا.
الشرط الثالث: أن نتجنب قدر الإمكان أن ننظر في قضية عدالة نظام الكون من منطلق الذاتية، فلا نقحم أنفسنا ومشاعرنا في الموضوع لأن من يفعل ذلك سيحكم حينئذ ضد نظام الكون قطعا، ففي هذه الحالة سيصبح طرفا في الخصومة وسيكون الخصم والحكم في آن واحد!! فعليه إذن قبل النظر في هذه القضية أن يتجرد قدر الإمكان من ذاتيته ليكون حكمه موضوعيا وينظر إلى الأمور باعتباره جزءا من الصورة لا محورا لها.
المشكلة أن معظم الاعتراضات على نظام الكون إنما هي اعتراضات منبعها الذاتية (كالألم والإحباط وغيرها)، وهذا بحد ذاته يولد مشكلة منهجية أعمق وهي أنه وحتى لو ثبت للشخص بأن نظام الكون عادل ومتوازن ورائع ودقيق من الناحية الموضوعية فلن تحل المشكلة أبدا! فطالما بقي منبع الاعتراض ذاتيا فسيكون لسان حاله: وما يهمني أنا إن كان عادلا ودقيقا ورائعا طالما ظللت أتألم فيه؟ ومهما كان رائعا فما دمت أتألم فيه فلن يكون رائعا بالنسبة لي!! أنا لم أعد النظر في عدالة الكون إلا لأني أعاني!! أنا لم اخاصم الكون إلا لأني أعاني!! وفي هذه اللحظة ستعرف أنه لم يكن يبحث ويتأمل بل كان يصرخ ويتألم، وهو بذلك لا يمارس بحثا ولا يريد جوابا ولا يهمه أن يفهم بقدر ما يريد أن يحتج على ما أصابه أو أن يجد التعاطف المناسب من الآخرين!!
(ملاحظة: أنا هنا لا أنفي أنه سيحاول أن يبحث وهو "ذاتي"، ولا أناقش حقه في أن يبحث وهو "ذاتي"، أو أن يستمر في البحث وفي طرح مختلف الأسئلة وهو "ذاتي"،،، أنا أناقش هنا قيمة بحثه، وموضوعية بحثه ومصير بحثه وهو في تلك الحالة "الذاتية"، هل هي قيمة موضوعية؟! هل سيخلص إلى نتيجة صائبة؟!)

س3: ما هي الحكمة من جعل نظام الكون محفوفا بالموت والألم؟!
إن جميع الأسئلة السابقة دليل نجاح النظام الكوني الصارم في تعزيز فهم الإنسان لمحدوديته في هذه الحياة بالموت والألم، تلك هي الحدود التي وضعها النظام الكوني للإنسان وعليه أن لا يتخطاها، وهو قد فهم الرسالة جيدا ولكنه ما زال يحتج رغم أنه يدرك أن الاحتجاج لن يقدم ولن يؤخر لأنه بطبيعته لا يحب الحدود ويحاول دائما أن يتخطاها ليصل إلى آفاق أرحب وأكمل، وهذا بحد ذاته دليل على أن هذا النظام الكوني أضيق من هذا الوعي وأنه ليس المكان الذي ينتمي إليه ويسكن فيه بل هو ينتمي إلى مكان آخر لا حدود فيه ولا موت ولا ألم ولا فراق ولا كوارث، إنه ينتمي إلى عالم آخر.
ولذلك من الممكن أن يقال: إن الحكمة من خلق الموت والألم وغيرهما هي لكي تدرك محدوديتك وتدرك أنك لا تنتمي لهذا النظام فلا تركن إليه، فإن ركنت إليه فأنت محجوج به أولا وقبل كل شيء، ومن هنا يمكن أن نقرأ جميع النقائص والمنغصات في الدنيا باعتبارها إحدى الحجج التي ركزها الله للإنسان مثلها مثل العقل والرسل والكتب السماوية، أما وجه حجيتها فهو:
1- أنه باستحضارها لا يجد المبرر الكافي ليخلد إلى الأرض ويقبل أن تكون الأفق النهائي لطموحه اللامحدود أصلا.
2- أنه من خلالها يشعر بالظلم والألم والفقد فلا يظلم أحدا ولا يؤلم أحدا ولا يتسبب في فقد أحد، أو على الأقل يكون قد فهم وأدرك معنى ذلك فلا يعتذر بجهله إن فعله
3- أنه من خلالها يفهم المعنى التقريبي للنار والعذاب المهين، فكيف سيعرف ذلك المعنى لولا تجربته للألم والحزن والقلق والخوف والغيرة وخسارته للأحباب بالموت أثناء مرحلة الابتلاء؟

س4: لماذا لم يدخلنا الله الجنة مباشرة؟
عندما لا يستوعب أحدهم مرحلة الابتلاء بما تقتضيه من حرية وتفاوت وتخلية يحضر فيها الخير والشر واللذة والألم فمن الطبيعي أن يكون هذا النوع من الأسئلة هاجسا له، تلك الأسئلة التي يمكن اختصارها في السؤال التالي: لماذا نحن مضطرون للمعاناة والتمحيص والتعرض لعديد المظالم والاحباطات قبل أن نحصل على الراحة؟ أو بصيغة أخرى أكثر اختصارا: لماذا لم يدخلنا الله الجنة مباشرة؟
ورغم أن مرحلة الابتلاء ليست عذابا محضا إلا أننا ونحن في غمرة الانفعال نسقط من حسباننا جميع معطيات النعمة والسعادة والراحة التي نعمنا بها يوما ولو كانت تغطي 90% من تفاصيل حياتنا، بل وقد تتحول تلك المعطيات الجميلة في حياتنا إلى مادة خصبة للحلم وقاعدة انطلاق للمطالبة بالمزيد وكأن الله مدين لنا عندما جعلنا واعين وأحرارا!!
وهنا قد يفلسف البعض هذه المشاعر القوية ويطرحها على شكل أسئلة أصولية من قبيل: أليس الله رحيما؟ أليس الأرحم بنا لو كان الله قد ألغى الآلام والكوارث من مرحلة الابتلاء؟ أليس الأرحم بنا لو كان الله قد قضى على الطغاة والظالمين أو لم يخلقهم أصلا، أو لم يخلقنا أصلا؟ أليس الأرحم بنا لو خلقنا الله في الجنة مباشرة؟
وبعد أن تستمر عجلة الحياة الكئيبة الثقيلة دون تغيير يذكر، ويعجز عن إيجاد إجابات شافية لمثل هذه الأسئلة تبدأ لديه الأفكار بالتهاوي تباعا ثم يرتب على ذلك في نفسه شكا مريرا في عدالة الله وحكمته يعتبره مبررا للسقوط في متاهة الإلحاد لعله بذلك يظن أنه يستفز الله لكي يجيبه أو يستفز المؤمنين لكي يفعلوا شيئا إزاء معاناته النفسية!!
من الناحية المنطقية البحتة لا علاقة لهذه الأسئلة بثبوت وجود الله ولا عدالته ولا حكمته كما أن هذه الأسئلة لا يمكن أن تستفزه عز وجل!! ومن زاوية مادية بحتة لا علاقة لهذه الأسئلة ببقاء الواقع الذي سيبقى كما هو مهما انفعل السائل ومهما تبنى وجهات نظر متطرفة ومهما ابتكر من جدليات خيالية.. فإما أن يتأقلم سريعا أو أن يسقط ويستمر في السقوط.
ومهما ظللنا رافضين لفكرة الابتلاء ومهما اقترحنا من تعديلات عليها فإن كل ذلك لا يلغي أن هذه الفكرة هي التي أتاحت لنا الفرصة لكي نرفض ونقترح، فالابتلاء نظام قوامه بعد أن منحنا الله به الوعي لكي نعرف الخير والشر ولكي نشعر باللذة والألم، منحنا به الحرية لكي نختار بين الخير والشر ونجرب اللذة والألم. وبذلك فقط باهى بنا الملائكة وفضلنا على بقية الأنعام.
الحرية هي العنوان الأبرز الذي قدمته فكرة الابتلاء للوجود، ولكن للحرية مضاعفاتها وآثارها الجانبية، فيمكن بالحرية أن نختار البناء ومن الممكن أن نختار الهدم، من الممكن أن نحفظ الحياة ومن الممكن أن نغتالها، من الممكن أن نصلح الأرض ومن الممكن أن نفسدها.. لقد أتاح الله لنا هذه الحرية وخصنا بها، فهل من المعقول أن لا يستسيغها بعضنا ولا يجدها جميلة في إطار الصورة العامة؟ "من أحب اللهَ رأى كل شيء جميلا"
ولذلك فإن من نافلة القول إن الاعتراض على نظام الابتلاء بما يختزنه من آلام وآمال واحتمالات مفتوحة للإبداع والافساد ليس سوى اعتراض على الحرية التي أتاحت له مثل هذا الاعتراض!! إنه في الحقيقة يعترض على اعتراضه! يعترض على حريته! يعترض على إتاحة هذه الفرصة العظيمة الكريمة لكي يفوز ويرتاح، وفي خضم الاختبار يضيع وقته وجهده في الاحتجاج رغم أنه يعرف أن الاحتجاج لن يؤدي به إلى شيء، ومهما دامت معاناته أو راحته، أحزانه أو أفراحه، آلامه أو لذاته فليست حياته كلها سوى سلسلة من الذكريات التي يمكنه أن يستحضرها في ومضة عين ليعرف أنها لم تكن سوى خيال أو سراب ها هو ينتهي في لمح البصر.

س5: لماذا خلق الله الكافر ولماذا لم يرحمه؟
والبعض من الذين قد تقبلوا فكرة وجودهم في مرحلة الابتلاء لكنهم غير متأكدين من قدرتهم على النجاح فيها وبعد أن تستنفر لديهم مختلف الاحاسيس والانفعالات والدفاعات، قد يبدأون في توجيه هذا النوع من الأسئلة: أليس الله رحيما؟! لماذا خلق الكافر وهو يعلم بعلمه المطلق أن مصيره الفشل؟ ولماذا لم يرحمه بعد أن أخفق فأدخله النار؟
وجوابه: إذا كان واضحا لدينا أن الله لم يرغم الكافر على الفشل ولم يغلق في وجهه باب النجاح بل وفتح له أكثر من فرصة وصب عليه الألطاف والنعم والرعاية والمغفرة والرحمة صبا فجعل الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة لا تجزى إلا مثلها، وجعل الحسنات يذهبن السيئات، وجعل همه يكفر ذنبه ومرضه بل وحتى الشوكة تصيبه تحط من أوزاره، وجعل الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وصوم رمضان إلى صوم رمضان كفارة لما بينهما وجعل الحج المبرور ماحيا للذنوب حتى يعود المذنب ناصع الصفحة كالوليد الذي خرج من بطن أمه، وفتح الله باب التوبة في كل لحظة وحكم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولم يكلف الكافر فوق طاقته أو أكثر مما آتاه ولم يعذبه حتى بعث له رسولا ولم يجعل عليه في الدين من حرج، وفطره على كره الشر وحب الخير، وتقبيح القبيح وتحسين الحسن، وابتلاه بالنقص في الأموال والأنفس والثمرات لكي يعرف حقارة الدنيا وزوالها حتى لا يركن إليها، وشرع له من الشرائع ما يعينه على كل ذلك حتى جعل له في نيل شهوته أجرا، و سعيه لنيل رزقه الحلال جهادا، وإطعامه لأولاده وزوجه صدقة، فهذا الكافر بعد أن أضاع تلك الفرص والرحمات بمحض إرادته واختياره فهو لا يستحق أية رحمة إضافية لا سابقة ولا لاحقة، فالرحمة لا تقيد الله وإن كانت صفة له كما أن السخط والغضب والانتقام لا يقيد الله وإن كان صفة له.
يجب أن نفهم إن صفة الرحمة كما هي صفة الغضب والانتقام ترتبطان ارتباطا جوهريا بصفة العدل ولا يمكن أن تخالفاها، فالله تعالى يرحم ويغضب وينتقم بما لا يتعارض مع صفة العدل ولذلك فإن الرحمة هي بالاستحقاق وكذلك الغضب والانتقام هي بالاستحقاق أيضا وإلا لكانت إغراء بين الناس ولسقط مبدأ الثواب والعقاب ولما كان للترغيب والترهيب من معنى، ولذلك يصح أن يقال إن الله يرحم ولا يرحم، يغضب ولا يغضب، ينتقم ولا ينتقم والمرجع في تحديد ذلك وفق صفة العدل هو الاستحقاق.
الفكرة ببساطة يمكن أن نفهمها بالمثال التالي: لو فرضنا أن هناك ملك عادل يرحم بعض رعيته دون بعض ويغضب على بعض رعيته دون بعض فهل يمكن أن نستمر في وصفه بالملك العادل؟ أو غضب على مواطن لا يستحق أي غضب أو عقوبة؟ أو رحم مجرما تمادى بطغيانه واستخف بحلم الملك وتسامحه فهو لا يستحق الرحمة بل وسيستغلها للاستمرار في نهج الإجرام! ولأن العدل أساس الملك ألن تسقط هيبة القانون حين يرحم ذلك المجرم؟

قد يقول قائل: هذه الأمثلة البشرية لا تناسب حديثنا عن الله والمصير الأبدي في النار، وجوابه: أن الغرض من هذه الأمثلة هو بيان التلازم بين صفتي الرحمة والغضب من جهة وبين صفة العدل من جهة أخرى، وكيف أننا نتعقل أن صفتي الرحمة والغضب مرتبطتان بصفة العدل وليستا مستقلتين عنها،، فمن الممكن أن يسأل أحدهم: أليس الأرحم بالمجرم أن لا نعاقبه؟! الجواب: نعم.. الأرحم به أن لا نعاقبه،، لكن هذا ليس مربط الفرس،، مربط الفرس هو: هل تلك الرحمة في محلها أم في غير محلها؟! هل تلك الرحمة عادلة أم غير عادلة؟
وبالنسبة للكافر الذي يعلم الله أن مصيره سيكون إلى النار قبل خلقه، نقول: ربما يكون الأرحم له ألا يخلقه أصلا – ربما – ولكن ذلك لا ينفي صفة الرحمة عن الله، لأن الرحمة بحكم العقل والمنطق لا تكون إلا بالاستحقاق وإلا كانت إغراء وظلما (ولذلك فالله يرحم ولا يرحم)، تماما كما نسأل: أليس الأليق بغضب الله أن يدخل الكافر النار مباشرة بدون ابتلاء وقد علم بعلمه الأزلي أنه سيظلم ويسرق ويقتل ويغتصب؟! وجوابه: ربما يكون كذلك – ربما ولكن عدم إدخال الكافر النار مباشرة بدون ابتلاء لا ينفي صفة الغضب عن الله، لأن الغضب بحكم العقل والمنطق لا يكون إلا بالاستحقاق وإلا كان إغراء وظلما (ولذلك فالله يغضب ولا يغضب).

ولكن قد يقول قائل: لكي نفهم الإشكال بالضبط لماذا لا نصيغ سؤال المجرم ليصبح كالتالي: أليس الأرحم بالمجرم أن نمنعه من الجريمة ابتداء حتى لا يستحق العقاب؟
والجواب على ذلك:
أولا: هذا السؤال مرادف لنموذج الأسئلة في عنوان: "لماذا لم يدخلنا الله الجنة مباشرة؟" لأن هذا السؤال وأمثاله يتناول نظام الابتلاء بالتعديل أو الرفض، وتجنبا للتكرار يراجع السؤال الرابع.
ثانيا: نلاحظ أن هناك فرقا بين السؤال (أ):أليس الأرحم بالمجرم أن لا نعاقبه؟ والسؤال (ب): أليس الأرحم بالمجرم أن نمنعه من الجريمة ابتداء حتى لا يستحق العقاب؟ والفرق بينهما هو في أن السؤال (أ) يتحدث عن جريمة قد وقعت بينما السؤال (ب) يتحدث عن جريمة لم تقع، ووقوع الجريمة ليس كتوقعها من ناحية تحديد العدالة والمصلحة، فالعقل لا يبرر العقاب تحت طائلة التوقع إلا بأمارات قوية تنذر بالوقوع.
وهنا يبرز دور العلم الأزلي السابق لله، في أنه لا فرق عند الله بين الوقوع والتوقع، فعلمه الأزلي السابق (غير السائق) هو كالوقوع تماما ولذلك فلن تجد فرقا بين السؤال (أ) والسؤال (ب) بالنسبة لعلم الله الأزلي إلا من ناحية أن المجرم في السؤال (أ) قد تمت عليه الحجة بينما المجرم في السؤال (ب) لم تتم الحجة عليه.
وعلى ضوء ما سبق من تحليل يمكننا أن نصيغ السؤال (ب) بصيغة مجردة من التفاصيل لكي يصبح كالتالي: أليس الأرحم بالمجرم أن لا يتم الله الحجة عليه؟! والجواب هو (لا) بالقطع والتشديد لأن إقامة الحجة أرحم من عدم إقامة الحجة.

س6: ما هي أبرز سمات مرحلة الابتلاء؟
الحياة الدنيا باعتبارها دارا للبلاء والتمحيص كان لا بد لها من سمات حتى يتم البلاء ويكون التمحيص وتقوم المسؤولية ويميز الخبيث من الطيب، فإلى جانب كونها مرحلة زمنية محدودة مؤقتة تنتهي بالموت لا محالة، وكونها مرحلة متغيرة في طبيعتها متقلبة في أحداثها، إلا أن هناك سمتين رئيسيتين ينبغي أن نعطيهما قسطا وافرا من التأمل في هذا المقام، فالسمة الأولى منهما هي سمة التخلية وهي السمة التي تتلاءم مع الحرية في الاختيار، والسمة الثانية هي سمة التفاضل وهي السمة التي تتلاءم مع مادة الاختبار.
وكل استشكال بخصوص الدنيا وسننها من تفاوت في الأرزاق والمواهب والنعم وبخصوص تمكن الظالمين ووقوع المصائب والكوارث لا بد أن ينتهي عند استيعاب المؤمن وفهمه لفكرتي التخلية والتفاضل كأساس للبلاء وتحمل المسؤولية وضعه الله تعالى وقضى به وأراده.
فإذا كنا مازلنا في الحياة الدنيا - مرحلة البلاء والمسؤولية - فلا بد إذن من التخلية للجميع لفعل ما يشاءون من خير أو شر وفق قاعدة المساواة في الفرصة ولذلك يظهر الفساد في الأرض ويستشري بل ويملؤها حتى ليظن البعض مخطئا أن الله ترك الأمور هملا تعالى عن ذلك علوا كبيرا وهو تعالى الرقيب الشهيد على كل شيء قضى وقضاؤه الحكمة أن تمضي الأمور بسننها المعتادة المطردة في التمكين لآدم وبنيه لفعل ما يشاءون حتى ولو كان الفساد البلائي المؤقت.
ولكن ورغم ما قضاه الله من قاعدة مطردة في التمكين لآدم وبنيه لفعل ما يشاءون وفق السنن الطبيعية (الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وغيرها) ووفق القوانين الاجتماعية (الدعاية والإعلام والعلوم العسكرية والاقتصاد والسياسة والفن والفكر وغيرها) ووفق القوانين الفردية (الطاقة المحدودة والحاجة المتجددة والتربية والطموح والدافع والمخاوف والاحباطات والفسيولوجيا وغيرها) رغم ما قضاه الله من تلك القوانين المطردة التي غالبا ما تكون صارمة إلا أن هناك استثناءات غيبية من التدخل الإلهي تتجلى في ألطاف وكرامات ومعاجز بعضها مرتبط بالله واختياراته لحكمة يعلمها وينتخبها كيفما شاء وأينما شاء ومتى ما شاء، وبعضها الآخر مرتبط بأفعال نفعلها فتكون نتيجة لتلك الأفعال كالصبر "بلى إن تصبروا وتتقوا يمدكم"، والاستقامة "أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا"، والإعراض عن ذكر الله "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا"، والتقوى "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب"، والود "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا"، والصدقة وصلة الرحم وغيرها.
والتفاضل لا بد منه لكي يكون البلاء، فلو كانت الأشياء متساوية في خصائصها ونسبتها وندرتها لافتقدت قيمتها، ولو لم يكن هناك تفاوت في الألوان لأصبحت الحياة محدودة بلونها الواحد، ولو كان الناس متساوين في الأرزاق والمواهب والنعم لما كانت هناك قيمة لتلك المواهب والأرزاق ولما تمايزوا ولما طمحوا ولما تحركوا ولما كانت هناك مادة للاختبار على أساس أن في كل زيادة توجد مسؤولية، وإزاء كل نقص هناك عوض، وعلى أساس عدم جواز التكبر أو التجبر بنعمتك ووجوب الشكر عليها وتزكيتها بإنفاقها لأغراض سامية ونبيلة، وعدم جواز الحسد والعمل على قتل نعمة الغير ووجوب الاعتراف بها والتعاون معها وتنميتها لصناعة مجتمع أفضل، وغيرها من التكاليف التي لا يمكن أن نتصورها إلا في إطار سمة التفاضل.
وفي ظل ما يكتنف حياتنا الدنيا من الضجر والملل يكفينا أن نقول إنه لو لم تكن هناك تعاسة لما عرف أحد قيمة السعادة ولم يكن هناك حزن لما استبشر انسان بالفرح ولو لم يكن هناك مرض لما حافظ أحد على العافية ولو لم يكن هناك شوق لما تغنى أحد بالحب ولو لم يكن كل ذلك لما فهم أحد معنى الجنة والنار.

وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
-------------------------------------------------------

ملاحظة هامة: جميع الأسئلة في القسم الثالث (أسئلة يطرحها الآخرون) لن يكون لها أي معنى من الناحية المنطقية في إحدى حالتين:
1- استحضار عدل الله كأصل من أصول الدين (وهي مقولة عامة يؤمن بها المسلم جملة وإن لم يدركها تفصيلا) ويتوصل إليها بالعقل كما هي ثابتة بالنقل أيضا (وما يتفرع عنها من عناوين عرفانية كالإيمان بالغيب والتفويض والتسليم والرضا)، بمقتضاها ستكون اختيارات الله في ظل استحضار عدله المطلق إجابة شافية كافية لكل سؤال من تلك الأسئلة.
2- استحضار اليوم الآخر كجزء لا يتجزأ من الحياة وكمكمل لمرحلة الابتلاء وكهدف لها، يكون فيه العوض لكل نقص وألم ومعاناة، والمسؤولية عن كل زيادة ونعمة وراحة، بمقتضى كل ذلك سيكون استحضار اليوم الآخر إجابة شافية كافية لكل سؤال من تلك الأسئلة.

أضف رد جديد

العودة إلى ”المجلس العام“